الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأسر منهم سبعون رجلا
(1)
.
وروى البخاري عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد» فأخذ أبو بكر بيده، فقال:
حسبك، فخرج وهو يقول:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر 45/ 54].
فعلى هذا كانت الاستغاثة من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهو المشهور. ولما اصطف القوم، قال أبو جهل:«اللهم، أولانا بالحق فانصره» ورفع رسول الله يده بالدعاء المذكور.
وهناك قول ثان أن الاستغاثة كانت من جماعة المؤمنين؛ لأن خوفهم كان أشد من خوف الرسول.
والأقرب أنه دعا عليه الصلاة والسلام وتضرع، على ما روي، والقوم كانوا يؤمنون على دعائه، تابعين له في الدعاء في أنفسهم، فنقل دعاء الرسول ولم ينقل دعاء القوم.
المناسبة:
لما بيّن الله تعالى في الآية السابقة أنه يحق الحق ويبطل الباطل، بين أنه تعالى نصرهم عند الاستغاثة.
التفسير والبيان:
اذكروا أيها المؤمنون وقت استغاثتكم ربكم، لما علمتم أنه لا بد من القتال، داعين:«إي ربنا انصرنا على عدوك، يا غياث المستغيثين أغثنا» . والمراد تذكيرهم بنعمة الله عليهم الذي أجاب دعاءهم، ليشكروا، وليعلموا مدى فضل الله عليهم، ورحمته بهم.
(1)
تفسير الرازي: 139/ 15، تفسير ابن كثير: 289/ 2.
فاستجاب لكم، أي فأجاب دعاءكم بأني ممدكم بألف من أعيان الملائكة، مردفين أي يردف بعضهم بعضا ويتبعه، فيتقدم بعضهم ويعقبه الآخر، وهكذا تتابع الملائكة، وهذه هي الطليعة، ثم تبعها آخرون، فصاروا ثلاثة آلاف، ثم خمسة آلاف، كما قال تعالى في سورة آل عمران:{بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} [124] ثم قال: {بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا، يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [125].
وما جعل الله إرسال الملائكة وإعلامه إياكم بهم إلا بشرى لكم بأنكم منصورون، ولتسكن به قلوبكم من الاضطراب الذي عرض لكم، وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على أعدائكم.
وليس النصر الحقيقي في الحروب إلا من عند الله، دون غيره من الملائكة أو سواهم من الأسباب الظاهرية، إن الله عزيز لا يغلب، حكيم لا يضع شيئا في غير موضعه، كما قال تعالى:{ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد 4/ 47].
وهل قاتلت الملائكة بالفعل يوم بدر؟ يرى بعضهم أن الملائكة لم يقاتلوا، وإنما كان لهم تقوية معنوية؟ فكانوا يكثرون السواد، ويثبّتون المؤمنين، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم، فإن جبريل أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط، وأهلك بلاد ثمود قوم صالح بصيحة واحدة. وقد أخذ بهذا الرأي الشيخ محمد عبده ومدرسته.
وقال جمهور العلماء: نزل جبريل في يوم بدر في خمسمائة ملك على الميمنة، وفيها أبو بكر، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة، وفيها علي بن أبي طالب في صور الرجال، عليهم ثياب بيض وعمائم بيض، وقد أرخوا أذنابها بين أكتافهم فقاتلت.
وهذا هو المشهور، المروي عن ابن عباس قال: وأمد الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنّبة، وميكائيل في خمسمائة مجنّبة.
وهذا هو الراجح المؤيد في السنة النبوية بالروايات الصحيحة، روى ابن جرير ومسلم عن ابن عباس عن عمر الحديث المتقدم. ورويت أحاديث أخرى. ولولا الأحاديث لكان للرأي الأول اعتبار واضح.
وعن أبي جهل أنه قال لابن مسعود: من أين كان الصوت الذي كنا نسمع، ولا نرى شخصا؟ قال: هو من الملائكة، فقال أبو جهل: هم غلبونا لا أنتم.
ومن المتفق عليه أن الملائكة لم يقاتلوا يوم أحد؛ لأن الله وعدهم بالنصر وعدا معلقا على الصبر والتقوى، فلم يحققوا هذا الشرط.
وقتال الملائكة مع المؤمنين لا يقلل من أهمية قيام المؤمنين بواجبهم في القتال على أتم وجه وأكمله، فإنهم قاتلوا قتالا مستميتا استحقوا به كل تقدير، جاء
في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لعمر -لما شاوره في قتل حاطب بن أبي بلتعة: «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال:
اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم».
وكان وقع المعركة على قريش شديدا جدا بسبب ما لا قوة من قتل زعمائهم بأسياف المسلمين ورماحهم وعلى يد شبانهم، مع أنهم الفرسان المشاهير، فكان هذا هو عقاب كفرهم وعنادهم، والله تعالى يعاقب الأمم السالفة المكذبة للأنبياء بالقوارع التي تعم الأمم المكذبة، كما أهلك قوم نوح بالطوفان، وعادا الأولى بالدبور (الريح الصرصر العاتية)، وثمود بالصيحة (الصوت الشديد المهلك) وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل (من جهنم) وقوم شعيب بيوم الظلة، وفرعون وقومه بالغرق في اليم.
فالنعمة الأولى التي يذكّر الله بها المسلمين يوم بدر: إمدادهم بالملائكة، ثم ذكّرهم بنعمتين أخريين هما إلقاء النعاس وإنزال المطر، فقال:{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ.} . أي اذكروا ما أنعم الله عليكم من إلقاء النعاس عليكم حتى غشيكم كالغطاء، أمانا أمّنهم به من خوفهم الذي حصل لهم من رؤية كثرة عدوهم وقلة عددهم، وأراحهم من عناء السير، فمن غلب عليه النعاس لا يشعر بالخوف، ويرتاح ويجدد نشاطه وقوته،
روى البيهقي في الدلائل عن علي رضي الله عنه قال: «ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي تحت شجرة، حتى أصبح» .
وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها، فكان النوم للجمع العظيم في الخوف الشديد دفعة واحدة عجيبا وفي حكم المعجز الخارق للعادة، مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهمّ، ولكن الله ربط جأشهم.
قال الماوردي: وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان:
أحدهما-أن قوّاهم بالاستراحة على القتال من الغد.
الثاني-أن أمّنهم بزوال الرعب من قلوبهم؛ كما يقال: الأمن منيم، والخوف مسهر.
وكذلك فعل الله تعالى بهم فألقى النعاس عليهم يوم أحد، كما قال تعالى:
{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً، يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ، وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران 154/ 3].
وأنزل الله عليكم أيضا مطرا من السماء ليطهركم به من الحدث والجنابة، ويذهب عنكم وسوسة الشيطان إليكم وتخويفكم من العطش، وقيل: يذهب عنكم الجنابة التي أصابت بعضكم؛ لأنها من تخييله، {وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ} ، أي بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء، وهو شجاعة الباطن، و {يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ} ، وهو
شجاعة الظاهر، أي أن إنزال المطر حقق أربع فوائد: التطهير الحسي بالنظافة والشرعي بالغسل من الجنابة والوضوء، وإذهاب وسوسة الشيطان، والربط على القلوب أي توطين النفس على الصبر، وتثبيت الأقدام به على الرمال.
وظاهر القرآن يدل على أن النعاس كان قبل المطر، وهي ليلة بدر السابعة عشرة من رمضان. وقال مجاهد وابن أبي نجيح: كان المطر قبل النعاس.
والسبب في إنزال المطر: ما روى ابن المنذر من طريق ابن جرير الطبري عن ابن عباس رضي الله عنه: أن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء، فظمئ المسلمون، وصلوا مجنبين محدثين، وكان بينهم رمال، فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن، وقال: أتزعمون أن فيكم نبيا، وأنكم أولياء، وتصلّون مجنبين محدثين؟ فأنزل الله من السماء ماء، فسال عليهم الوادي ماء، فشرب المسلمون، وتطهروا، وثبتت أقدامهم (على الرمل المتلبد) وذهبت وسوسته. والضمير في {بِهِ} للماء أو المطر.
وسبق رسول الله وأصحابه إلى الماء المتجمع من ماء المطر، فنزلوا عليه، وصنعوا الحياض، ثم غوّروا ما عداها من المياه، وبني لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عريش على تلّ مشرف على المعركة.
هذا ما دل عليه الخبر وهو
أن المشركين سبقوا إلى التجمع على الماء يوم بدر، والمعروف كما ذكر ابن إسحاق في سيرته وتبعه ابن هشام في سيرته: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما سار إلى بدر، نزل على أدنى ماء هناك، أي أول ماء وجده، فتقدم إليه الحباب بن المنذر، فقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل؟ أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال:
بل هو الحرب والرأي والمكيدة، قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نغوّر ما وراءه من القلب
(الآبار غير المبنية) ثم نبني عليها حوضا، فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لقد أشرت بالرأي، وفعلوا ذلك.
قال ابن كثير: وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي رحمه الله عن عروة بن الزبير قال: بعث الله السماء، وكان الوادي دهسا
(1)
، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ما لبّد لهم الأرض، ولم يمنعهم من المسير، وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه.
وأرى أن النص القرآني يوافق هذه الرواية التي استحسنها ابن كثير وسار عليها جمهور المفسرين كالطبري والزمخشري والرازي وغيرهم. وذكر البيضاوي رواية تؤيد ذلك فقال: روي أنهم نزلوا في كثيب أعفر تسوخ في الأقدام على غير ماء، وناموا، فاحتلم أكثرهم، وقد غلب المشركون على الماء، فوسوس إليهم الشيطان، وقال: كيف تنصرون، وقد غلبتم على الماء، وأنتم تصلون محدثين مجنبين وتزعمون أنكم أولياء الله، وفيكم رسوله؟ فأشفقوا، فأنزل الله المطر، فمطروا ليلا، حتى جرى الوادي، واتخذوا الحياض على عدوته (جانبه) وسقوا الرّكاب، واغتسلوا وتوضؤوا، وتلبد الرمل الذي بينهم وبين العدو، حتى ثبتت عليه الأقدام، وزالت الوسوسة. ثم ذكر البيضاوي معنى قوله:{لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ} أي بالوثوق بلطف الله بهم، و {يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ} أي بالمطر حتى لا تسوخ في الرمل، أو بالربط على القلوب حتى تثبت في المعركة.
والأصح الذي ذكره القرطبي عن ابن إسحاق في سيرته وغيره، وهو الذي يوفق به بين الروايات: أن الأحوال التي صاحبت نزول المطر كانت قبل وصولهم إلى بدر
(2)
.
(1)
الدهس: الرمل الذي تسوخ فيه الأرجل.
(2)
تفسير القرطبي: 373/ 7.
ومن النعم المذكورة أيضا على المؤمنين في بدر نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ليشكروه عليها وهي إلهام الله الملائكة أنه معهم معية إعانة ونصر وتأييد، فقال:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ..} . أي اذكروا إذ يوحي الله تعالى إلى الملائكة بأنه معهم حينما أرسلهم ردءا للمسلمين، أو يوحي إلى الملائكة أني مع المؤمنين فانصروهم وثبتوهم، قال الرازي: وهذا الثاني أولى؛ لأن المقصود من هذا الكلام إزالة التخويف، والملائكة ما كانوا يخافون الكفار، وإنما الخائف هم المسلمون
(1)
.
والمراد بالمعية: معية الإعانة والنصر والتأييد في مواقف القتال الشديدة.
فثبتوا قلوب المؤمنين، وقووا عزائمهم، وذكّروهم وعد الله أنه ناصر رسوله والمؤمنين، والله لا يخلف الميعاد.
وقيل: إن الملائكة كانوا يتشبهون بصور رجال من معارف المؤمنين، وكانوا يمدونهم بالنصر والفتح والظفر. أخرج البيهقي في الدلائل: أن الملك كان يأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه، فيقول: أبشروا، فإنهم ليسوا بشيء، والله معكم، كرّوا عليهم.
وقيل بوجه ثالث في معنى التثبيت وهو منقول عن الزجاج: للملك قوة إلقاء الخير، وهو الإلهام، كما أن للشيطان قوة إلقاء الشر، وهو الوسوسة.
ثم ذكر الله تعالى المراد بقوله: {أَنِّي مَعَكُمْ} : وهو أني معكم في إعانتكم بإلقاء الرعب في قلوب الكفار، فمن أعظم نعم الله تعالى على المؤمنين زرع الخوف والرعب في نفوس الكفار.
فاضربوا رؤوسهم التي هي فوق الأعناق واقطعوها، واحتزوا الرقاب وقطّعوها، وقطعوا الأطراف منهم وهي أيديهم وأرجلهم ذات البنان. والبنان:
(1)
تفسير الرازي: 135/ 15