الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقه الحياة أو الأحكام:
كان من أثر دعوة شعيب خطيب الأنبياء قومه إلى عبادة الله وترك أكل أموال الناس بالباطل، أنهم واجهوه بالتخيير بين أمرين خطيرين: إما الطرد والجلاء، وإما الصيرورة إلى ملتهم، وهذا هو المقصود بقولهم:{أَوْ لَتَعُودُنَّ} أي لتصيرن إلى ملتنا، فوقع العود بمعنى الابتداء، تقول العرب: قد عاد إليّ من فلان مكروه، يريدون قد صار إلي منه المكروه، ولا يعني ذلك أن شعيبا كان قبل النبوة على ملتهم، فهو معصوم من الكفر، وكذلك كان خطاب شعيب من قبيل التغليب، فإنهم خاطبوه بخطاب أتباعه، وأجروا عليه أحكامهم.
والحزم يقابله الحزم والإصرار، فكان رد شعيب حاسما وقاطعا بأنه لن يفعل ما يريدون، ولن يعود أي يصير إلى ملتهم، فإنه إن فعل ذلك بعد أن تبين له الحق، فقد افترى على الله، وكذلك كان أتباعه صريحين صارمين، وجوابه جوابهم. وهذا نابع من أصل النبوة والرسالة، فإنها تتميز بصدق اللهجة، والبراءة عن الكذب، فالعود في ملتهم يبطل النبوة، ويزيل الرسالة.
وقد نظم شعيب نفسه مع قومه بقوله: {إِذْ نَجّانَا اللهُ مِنْها} أي من الملة، وإن كان بريئا منها، إجراء للكلام على حكم التغليب، كما ذكروا في كلامهم:{أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا} .
وتمسك الأشاعرة بقوله تعالى: {إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ} على أنه تعالى قد يشاء الكفر؛ لأن المعنى: إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى ملتكم، وكانت تلك الملة كفرا. وقال المعتزلة: لا يشاء تعالى إلا الخير والصلاح؛ لأن هذا الاستثناء وهو: إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى ملتكم قضية شرطية، وليس فيها بيان أنه تعالى شاء ذلك أو ما شاء، وهذا أيضا مذكور على سبيل التبعيد، كما يقال:
لا أفعل ذلك إلا إذا ابيضّ القار (الزفت) وشاب الغراب.
ووجه تعلق قوله تعالى: {وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} بما قبله: أنه ربما كان في علمه تعالى حصول أمر ثالث غير الإخراج والعود إلى الملة، وهو البقاء في هذه القرية من غير أن نعود إلى ملتكم، ويجعلكم مقهورين تحت أمرنا، خاضعين تحت حكمنا.
ودل قوله تعالى: {وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} على أنه تعالى كان عالما في الأزل بجميع الأشياء؛ لأن قوله: وسع فعل ماض، فيتناول كل ماض، بل إنه يتناول علم الحاضر والمستقبل وعلم المعدوم؛ لأن التعبير بالماضي يفيد الجزم بحصول العلم بكل الأشياء.
ودل قوله تعالى: {عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا، رَبَّنَا افْتَحْ..} . على أن النبي وكل مؤمن ينبغي أن يظل على صلة بالله وتفويض كامل في أموره له، فقوله:
{عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا} يفيد الحصر، أي عليه توكلنا لا على غيره، وقوله:{رَبَّنَا افْتَحْ..} . يراد به تفويض الحكم إلى الله والدعاء له واللجوء إليه، وقوله:
و {أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ} يراد به الثناء على الله تعالى.
واستدل الأشاعرة بقوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ} على أنه تعالى هو الذي يخلق الإيمان في العبد.
ودلت آية {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً} على أن قوم شعيب استحقوا عذاب الإهلاك أو الاستئصال بأمرين: الكفر أو الضلال، والإضلال لغيرهم أو الإغواء.
وتعذيبهم كان بالرجفة (وهي الزلزلة الشديدة المهلكة) وبالصيحة (وهي الصوت الشديد المهلك) معا التي تلازم الرجفة ولا تنفك عنها. وذلك العذاب كان مختصا بأولئك المكذبين، ونجّى الله المؤمنين، وذلك يدل على ثلاثة أمور:
أن ذلك العذاب إنما حدث بخلق فاعل مختار، وليس أثر الكواكب والطبيعة، وإلا لعم أتباع شعيب، وذلك الفاعل المختار عالم بجميع الجزئيات، حتى يمكنه