الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البلاغة:
بين {الْحَسَنَةُ} و {سَيِّئَةٌ} طباق.
وبين {طائِرُهُمْ} و {يَطَّيَّرُوا} جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
{وَلَقَدْ أَخَذْنا} كثر استعمال الأخذ في العذاب، كقوله:{وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى، وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود 102/ 11]. {آلَ فِرْعَوْنَ} قومه وخاصته، وهم الملأ من قومه، ولا يستعمل الآل إلا فيمن يختص بقرابة مثل:{وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ} [آل عمران 33/ 3] أو يختصّ بموالاة ومتابعة في الرّأي مثل: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ} [غافر 46/ 40].
{بِالسِّنِينَ} جمع سنة وهي الحول، لكن كثر استعمالها في حول الجدب والقحط، كما هنا، فيكون المراد منها القحط، بدليل نقص الثّمرات {يَذَّكَّرُونَ} يتّعظون فيؤمنوا. {الْحَسَنَةُ} الخصب والنّماء والرّخاء. {قالُوا: لَنا هذِهِ} أي نستحقها ولم يشكروا عليها. {سَيِّئَةٌ} جدب أو بلاء في الأنفس والأرزاق. {يَطَّيَّرُوا} يتشاءموا ويتطايروا، وأطلق التّطير على التّشاؤم أخذا بعادة العرب في زجر الطّير، فكانوا يتأمّلون الخير إذا طار الطائر يمينا ويسمّونه (السّائح) ويتوقّعون الشّرّ إذا طار شمالا، ويسمّونه (البارح). {طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ} ما قضي لهم وقدّر، والمراد به أن شؤمهم: هو عقابهم الموعود به في الآخرة. وعند الله: أي يأتيهم به {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أن ما يصيبهم به من عنده.
{الطُّوفانَ} هو ماء دخل بيوتهم، ووصل إلى حلوق الجالسين سبعة أيّام. {الْجَرادَ} طائر معروف يأكل النبات، وقد أكل زرعهم وثمارهم أيضا. {وَالْقُمَّلَ} هو السّوس الذي ينخر الحنطة، وقيل: هو الدّود أو القراد الذي يأكل الزرع، ويتبع ما أكله الجراد. {وَالضَّفادِعَ} المعروفة، فملأت بيوتهم وطعامهم. {وَالدَّمَ} هو الرّعاف، وقيل: هو دمّ كان يحدث في مياه المصريين. {مُفَصَّلاتٍ} بيّنات. {فَاسْتَكْبَرُوا} عن الإيمان بها.
التفسير والبيان:
هذا هو الفصل الثّامن من قصّة موسى مع فرعون، وهو فصل الجزاء والعقاب أو الآيات التي أنزلها الله على فرعون وقومه، فبعد أن بشّر موسى عليه السلام قومه بإنزال العذاب على فرعون وقومه بقوله: {عَسى رَبُّكُمْ أَنْ
يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} ذكر هنا ألوان العذاب قبل حلول عذاب الاستئصال، للتّحذير والزّجر وتنبيه السّامعين من خطر الكفر والتّكذيب. وأما عذاب الاستئصال فهو إغراق فرعون في اليمّ ونجاة بني إسرائيل.
وقد ذكر الله تعالى في سورة الإسراء أن الآيات أي آيات العقاب تسع، بقوله:{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ..} . [101].
وذكر هنا سبع آيات، ويضاف إليها المذكور في سورة يونس، وهو:{وَقالَ مُوسى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ} [88]، والطّمس على الأموال: هو محقها وهلاكها.
وفسّر البيضاوي الآيات التّسع بأنها آيات أرسل بها موسى إلى بني إسرائيل، وهي أحكام أمروا بالأخذ بها آيات عقاب، عوقب بها فرعون وجنوده، وهي: العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وانفجار الماء من الحجر، وفلق البحر، ونتق الطّور على بني إسرائيل. وقيل: الطّوفان، والسّنون، ونقص الثّمرات؛ مكان الثّلاث الأخيرة.
والواقع أنّ فلق البحر إنّما كان بعد تمام الآيات، وانبجاس الحجر بالماء إنما كان بعد هلاك فرعون، فلا يصحّ أن يكون آية لفرعون وقومه. وأمّا العصا واليد فهما معجزتان لموسى عليه السلام، وليستا آيتي عذاب. فيكون في تقديري مجموع الآيات هكذا: السّنون، نقص الأموال، نقص الأنفس، نقص الثّمرات، الطّوفان، الجراد، القمّل، الضّفادع، الدّم
(1)
. سبع منها مذكور هنا في سورة الأعراف، وواحدة مذكورة في سورة يونس، كما أبنت، أمّا نقص الأنفس فهو
(1)
قصص الأنبياء للنّجار: ص 198.
ناجم عادة عن الجدب، ونقص الثّمار، والطّوفان، قال مجاهد وعطاء:
الطّوفان: الموت.
ومعنى الآيات هنا: ولقد اختبرنا آل فرعون وامتحنّاهم وابتليناهم بسنين الجوع بسبب قلّة الزّروع، أي في البادية، وبنقص الثّمرات، أي في الأمطار، قال رجاء بن حيوة:«كانت النّخلة لا تحمل إلا ثمرة واحدة» ، ثم قال تعالى:
{لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي ليتذكّروا ويتّعظوا ويرجعوا عن كفرهم وتكذيبهم لآيات الله وعن ظلمهم لبني إسرائيل، ويؤمنوا بالله ربّا، ويستجيبوا لدعوة موسى عليه السلام؛ لأنّ من سنّته تعالى أن يرسل الزّواجر تنبيهات، ودلّت التّجارب على أنّ الشّدائد تليّن النّفوس، فتكون المصائب والآفات ونقص الثّمرات سببا في رجوع الناس إلى الله تعالى، فإن عادوا إلى ربّهم واهتدوا كان الخير والرّخاء، وإن أعرضوا كان القحط والجدب والهلاك المحتوم، وقد أعرض آل فرعون عن الاستجابة لدعوة موسى بعد أن أنذرهم، فكانوا من الهالكين.
ثم بيّن الله تعالى أنّ المصائب زادت آل فرعون عتوّا وبغيا، فقال:{فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ..} . أي إذا جاءهم الخصب والرّزق وزيادة الثّمار والمواشي قالوا:
لنا هذه، يعني هذا لنا بما نستحقّه من العمل والمعرفة والتّفوّق، وإن أصابتهم سيئة، أي جدب وقحط، تشاءموا بموسى ومن معه، وقالوا: هذا بسببهم وما جاؤوا به، وغفلوا عن واجب شكر نعمة الله، وعن سيئاتهم وفساد أعمالهم وشرور أنفسهم، كما قال تعالى في حقّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا:}
{هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ، قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ} [النساء 78/ 4].
ثمّ ردّ الله عليهم بقوله: {أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ} أي إن كلّ ما يصيبهم من خير أو شرّ، فهو بقضاء الله وقدره، فالله جعل الخير ابتلاء ليعرف الشاكر
من الجاحد، وجعل الشّر ابتلاء أيضا ليعرف الصابر من الساخط، وليرجع أهل الغي والفساد عن غيّهم وفسادهم، ويقلعوا عن طغيانهم وضلالهم. والله تعالى أيضا جعل أعمال العباد سببا لما ينزل بهم من خير وشرّ غالبا. قال الزّمخشري في تفسير {طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ}: أي سبب خيرهم وشرّهم عند الله، وهو حكمه ومشيئته، والله هو الذي يشاء ما يصيبهم من الحسنة والسّيئة، وليس شؤم أحد ولا يمنه بسبب فيه، كقوله تعالى:{قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ} ويجوز أن يكون معناه: ألا إنما سبب شؤمهم عند الله، وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجري عليهم ما يسوؤهم لأجله، ويعاقبون عليه بعد موتهم بما وعدهم الله في قوله سبحانه:{النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها} [غافر 46/ 40].
(1)
ولكن أكثر الناس لا يعلمون حكمة الله في تصريف الكون، ولا يعلمون كيفية ارتباط الأسباب بالمسببات، ولا أن الأمور تجري بالمقادير، وأنّ كل شيء عنده بمقدار، فليس الشؤم بسبب موسى وقومه، وإنما بسبب سوء العمل، وبمقتضى النظام الإلهي في قانون السّببية المذكور.
وفضلا عن أن كلاّ من الحسنات والسيئات لم تذكّرهم بما يجب عليهم نحو ربّهم، فإنهم تمرّدوا وعتوا، وعاندوا الحق، وأصرّوا على الباطل بقولهم لموسى: إن أي آية جئتنا بها، وأي حجّة ودلالة أظهرتها لنا، وأثبتها لإقناعنا وصرفنا عما نحن عليه من ديننا، رددناها ولم نقبلها منك، ولا نؤمن بك ولا بما جئت به، ولا نصدّق برسالتك وقولك أبدا.
لذا عاقبهم الله على كفرهم وتكذيبهم وجرائمهم، فأرسل عليهم الطّوفان:
وهو كثرة الأمطار المتلفة للزروع والثمار، كما قال ابن عباس، فالطّوفان:
ما طاف بهم وغلبهم من مطر أو سيل.
(1)
الكشاف: 568/ 1 - 569.
وأرسل عليهم الجراد، فأكلت كلّ زروعهم وثمارهم، ثم أكلت كل شيء، حتى الأبواب وسقوف البيوت والثياب. ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء، ففزعوا إلى موسى، فكشف عنهم بعد سبعة أيام. خرج موسى عليه السلام إلى الفضاء، فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب، فرجع الجراد إلى النّواحي التي جاء منها، فقالوا: ما نحن بتاركي ديننا.
فأقاموا شهرا، فسلّط عليهم القمّل: وهو كبار القراد، أو السّوس، فأكل ما أبقاه الجراد، ولحس الأرض، أو صغار الذّباب أو البراغيث أو القمل المعروف الذي يلدغ ويمصّ الدّم، أي أنّه سلّط عليهم بعد الجراد من الآفات الزراعية من صغار الذّر كالدودة، فأكلت الزّروع واستأصلت كلّ شيء أخضر. ثم فزعوا إلى موسى فكشف عنهم، ثم عادوا إلى ما كانوا عليه.
فأرسل الله الضّفادع، فدخلت بيوتهم، وامتلأت منها آنيتهم وأطعمتهم، وكان الرجل إذا أراد أن يتكلّم وثبت الضفدع إلى فمه، وامتلأت منها مضاجعهم فلا يقدرون على الرّقاد، وكانت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلي، وفي التنانير وهي تفور، فشكوا إلى موسى، وقالوا: ارحمنا هذه المرة، فما بقي إلا أن نتوب التوبة النصوح، ولا نعود، فأخذ عليهم العهود، ودعا فكشف الله عنهم، ثم نقضوا العهد.
فأرسل الله عليهم الدّم، أي تحوّلت مياههم إلى دم، فكانوا إذا ما استقوا من الأنهار والآبار، وجدوه دما عبيطا، فشكوا إلى فرعون، فقال: إنه قد سحركم، فكان يجمع بين القبطي والإسرائيلي على إناء واحد، فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء، وما يلي القبطي دما.
كلّ ذلك آيات مفصّلات أي واضحات بيّنات ظاهرات، لا يشكل على عاقل أنها من عند الله، ولا يقدر عليها غيره، وأنها عبرة ونقمة على كفرهم، وهي دالّة