الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
من بعض الأمم أمة قائمة بالحق قولا وعملا، يرشدون الناس ويدعونهم إليه، ويعملون بالحق، ويقضون بالعدل، دون ميل ولا جور، وهم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بدليل ما جاء في الأحاديث الكثيرة التي منها:
ما رواه الشيخان في الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة»
وفي رواية «حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك» .
ومنها:
ما قاله الربيع بن أنس في قوله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ..} . قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن من أمتي قوما على الحق، حتى ينزل عيسى بن مريم متى ما نزل» .
ومنها:
ما أخرجه ابن جرير الطّبري وابن المنذر وأبو الشيخ ابن حيان عن ابن جريج في قوله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} قال: ذكر لنا النّبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «هذه أمّتي بالحقّ يحكمون ويقضون، ويأخذون ويعطون» .
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة قال في هذه الآية: بلغنا أنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول إذا قرأها: وهذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها:
{وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} .
وأخرج أبو الشيخ ابن حيان عن علي بن أبي طالب قال: لتفترقنّ هذه الأمّة على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النّار إلا فرقة، يقول الله:{وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ، وَبِهِ يَعْدِلُونَ} فهذه هي التي تنجو من هذه الأمّة.
والخلاصة: لما ذكر تعالى في قصّة موسى قوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} ثم أعاد الله تعالى هذا الكلام، حمله أكثر المفسّرين
على أنّ المراد منه أمّة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بدليل ما روي عن ابن عباس وقتادة وابن جريج وغيرهم.
هذا هو الفريق الأوّل من أمّة الدّعوة المحمّدية، ثمّ ذكر تعالى الفريق الثّاني بقوله:{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا..} . أي والذين كذبوا بالقرآن وهم أهل مكة نتركهم في ضلالهم، ونستدرجهم إلى العذاب من حيث لا يعلمون ما يراد بهم، ونقرّبهم إلى ما يهلكهم، بإمدادهم بالنّعم، وفتح أبواب الرّزق والخير، وتيسير سبل المعاش، كلّما ارتكبوا ذنبا أو فعلوا جرما، فيزدادون بطرا وانغماسا في الفساد، وتماديا في الغي، وتدرّجا في المعاصي، بسبب متابعة تلك النّعم والخيرات، كما قال تعالى:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون 55/ 23 - 56]، وقال تعالى أيضا:
{فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ، فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا، أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} [الأنعام 44/ 6 - 45]، وروى الشيخان عن أبي موسى:
«إنّ الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته» .
وقد تحقّق ذلك بكفار قريش الذين هزموا في بدر والخندق وفتح مكة وغيرها من المعارك، وأظهر الله رسوله عليهم.
قال عمر لما حملت إليه كنوز كسرى: «اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا، فإني سمعتك تقول: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}» .
{وَأُمْلِي لَهُمْ} ، أي سأملي وأطوّل لهم ما هم فيه وأمهل هؤلاء المكذّبين المستدرجين، إنّ مكري أو تدبيري الخفي شديد قوي.
والخلاصة: إنّ الإمداد بالنّعم والخيرات والأرزاق ليس دليلا على صلاح الإنسان، وإنما قد يكون استدراجا كما يستدرج العدو إلى مكان للقضاء عليه،
فالظالم إذا لم يعاقب فورا، عليه ألا ينخدع بذلك، فقد يكون تركه طعما للتّعرّف على المزيد من بغيه وجوره، كما تفعل أجهزة الأمن اليوم في كثير من حالات مراقبة تحرّكات المشبوهين، ثم يقع ذلك الظالم في قبضة الحكام لعقابه الدّنيا، أو تنزل به المصائب والدّواهي، ثم يعاقبه الله بالعذاب الشديد الآخرة. والاستدراج: هو الإدناء قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم.
وبعد أن هدّد الله المعرضين عن آياته، عاد إلى الجواب عن شبهاتهم، فقال:
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا..} . أي أولم يتفكّر هؤلاء المكذّبون بآياتنا ما بصاحبهم يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم من جنون، فقد كانوا يقولون: شاعر مجنون، مع أنهم يعرفون حاله من بدء نشأته، ويعلمون حقيقة دعوته، ودلائل رسالته، فهو رسول الله حقّا، دعا إلى حقّ. والتّعبير:{بِصاحِبِهِمْ} للتّذكير بأنهم يعرفون سيرته معرفة كاملة في سنّ الصّبا وعهد الشّباب والكهولة وبعد النّبوة.
إنهم إن تفكّروا في شأنه، وتجرّدوا عن عصبيّتهم وأهوائهم، عرفوا الحقّ، وأدركوا صدقه، وأنه ليس مجنونا ولا شاعرا، كما حكى القرآن افتراءهم:
{وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير 22/ 81]، {قُلْ: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنى وَفُرادى، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ، إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ، بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ} [سبأ 46/ 34]، {أَمْ يَقُولُونَ: بِهِ جِنَّةٌ، بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ، وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ} [المؤمنون 70/ 23]، {وَقالُوا: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر 6/ 15]، {وَيَقُولُونَ: أَإِنّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصّافات 36/ 37].
إنه ليس بمجنون، بل هو منذر ناصح، ومبلّغ أمين، فهو ينذركم ما يحلّ بكم من عذاب الدّنيا والآخرة إذا لم تؤمنوا بدعوته.
وبعد أن حكى الله عن هؤلاء المكذّبين موقفهم، فذكر: أكذّبوا الرّسول، ولم
يتفكّروا في شأنه وشأن دعوته؟ لفت نظرهم إلى ما يدعوهم إلى الإيمان بوحدانية الله، فقال:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا} أي أكذّبوا الرّسول، ولم ينظروا في عالم السموات والأرض، ففي ملكوت السماء والأرض دلائل على وجود الصانع الحكيم القديم، والملكوت: من صيغ المبالغة ومعناه: الملك العظيم، فإذا نظر هؤلاء المكذّبون بآياتنا في ملك الله وسلطانه ونظامه البديع في السموات والأرض، وفي كل ما خلق الله من كبير وصغير، لأداهم النّظر الصحيح إلى وجود الله تعالى ووحدانيته، وألم ينظروا في احتمال مجيء الموت فربّما يموتون عمّا قريب، فليسارعوا إلى النّظر وطلب الحقّ قبل مفاجأة الأجل وحلول العقاب، وليؤمنوا برسول الله، وينيبوا إلى طاعته.
وقوله: {وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ} تنبيه على أن دلائل التوحيد غير مقصورة على السّموات والأرض، بل كلّ ذرة من ذرأت الأجسام والأرواح التي خلقها الله برهان قاهر على التّوحيد.
وقوله: {وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} معناه: أو لم ينظروا في أن الشّأن والحديث عسى أن يموتوا عما قريب أي لينظروا في آجالهم التي ربّما اقتربت، وهذا ترغيب شديد في الإتيان بهذا النّظر والتّفكر، وتحذير لهم أن تكون آجالهم قد اقتربت، فيهلكوا على كفرهم، ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه. والخلاصة: لعلّ أجلهم قد اقترب فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل فوات الأوان. قال ابن عباس: أراد باقتراب الأجل يوم بدر، ويوم أحد.
فبأي كلام أو حديث بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به؟ وبأي تخويف وتحذير وترهيب بعد تحذير محمد صلى الله عليه وآله وسلم وترهيبه الذي أتاهم به من عند الله في كتابه، يصدّقون إن لم يصدّقوا بهذا الحديث الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل؟ وبأي حديث أحقّ من القرآن أن يؤمنوا به؟