الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أفعالهم، ثم ذكر أنه فرقهم جماعات مشردين في الأرض، وأن خلفهم جماعة ماديون تهمهم الدنيا فقط، وأن أسلافهم قبلوا الأخذ بالتوراة بعد إنذارهم بإسقاط الجبل عليهم. وهذا كله للعبرة، فكل أمة تفسق عن أمر الله وتخالف أحكام الدين مهددة بمثل هذا العقاب.
التفسير والبيان:
واذكر يا محمد حين أعلم ربك أسلاف اليهود على لسان أنبيائهم أنه قضى عليهم في علمه وأوجب على نفسه، ليسلطنّ عليهم إلى يوم القيامة من يذيقهم العقاب الشديد، ويلحق بهم الذل والصغار، ويفرض عليهم الجزية، ويبدد ملكهم، ويفرق شملهم، حتى يصبحوا أذلة مشردين.
{إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ} لمن عصاه وخالف شرعه، وإنه لغفور لمن تاب إليه وأناب، ورحيم بأهل الطاعة والإنابة.
وقد تحقق مدلول الآية، فكان موسى عليه السلام أول من فرض الخراج عليهم، وألزمهم به، ثم قهرهم اليونانيون والكشدانيون والكلدانيون والبابليون، ثم الروم النصارى، أخذوا منهم الجزية والخراج، ثم المسلمون الذين أخذوا منهم الجزية والخراج، ثم الألمان بقيادة هتلر في العصر الحديث، الذي قتلهم وشردهم في البلاد.
والآية بمعنى قوله تعالى: {وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً} إلى أن قال: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا} [الإسراء 4/ 17 - 8] أي وإن عدتم إلى الإفساد بعد المرة الآخرة، عدنا إلى التعذيب والإذلال.
وأما وجود اليهود في فلسطين الآن فهو أمر عارض مؤقت زائل بإذن الله، لثقتنا بوعد الله وكلامه.
هذا هو العقاب الأول على معاصي اليهود المتكررة وتمردهم على أحكام الله، وهو تسليط الأمم عليهم لإذلالهم وتعذيبهم.
والعقاب الثاني: هو تفريقهم وتمزيقهم جماعات وطوائف وفرقا في أنحاء الأرض، فلا يخلو منهم قطر من الأقطار، فيهم الصالح وغير ذلك.
فمنهم الصالحون المحسنون الذين يؤمنون بالأنبياء بعد موسى، ويؤمنون بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويؤثرون الآخرة على الدنيا، مثل أولئك الذين نهوا عن الاعتداء في السبت، ومثل عبد الله بن سلام وأصحابه الذين أسلموا.
ومنهم من هو دون غيره في الصلاح، ومنهم الفسقة الفجرة الكفرة الذين كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ومنهم السماعون للكذب الأكّالون للسّحت كالرشا والربا لتبديل الأحكام والقضاء بغير ما أنزل الله. وفي الجملة: معنى {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ} أي منحطون عن الصلاح، وهم كفرتهم وفسقتهم.
والله يعامل الفريقين كما يعامل غيرهم، فيختبرهم بالحسنات أي بالنعم وبالسيئات أي بالنقم، لعلهم يرجعون عن ذنبهم، ويشكروا النعمة، ويصبروا على النقمة.
ثم ظهر من الصالحين ومن دونهم خلف ورثوا التوراة عن أسلافهم، أي تلقفوا ما فيها من الأحكام وقرءوها واطلعوا على ما فيها. وهم الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنهم هجروها وآثروا الدنيا ومتاعها وزينتها وتفانوا في جمع حطامها، لا يبالون، حلالا كان أو حراما أي من غير طريق شرعي، كالسحت والرشوة والمحاباة في الحكم والاتجار في الدين وتحريف الكلم عن مواضعه، وزعموا أن الله سيغفر لهم ولا يؤاخذهم على أفعالهم وسيئاتهم، قائلين: إننا أبناء الله وأحباؤه، وسلائل أنبيائه، وهم مقيمون على المعاصي، مصرون على الذنوب، لا يتورعون عن ضم الحرام إلى غيره، فإن يأتهم عرض آخر من عروض الدنيا مثل
الذي أخذوه أولا بالباطل، يأخذوه بلهف دون تعفف، وهم يعلمون أن وعد الله بالمغفرة مخصوص بالتائبين الذين يقلعون عن ذنوبهم.
فرد الله تعالى عليهم بقوله: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ..} . أي أن الله تعالى ينكر عليهم صنيعهم هذا؛ لأنه قد أخذ عليهم العهد والميثاق ألا يقولوا على الله غير الحق، فيما يتمنون على الله من غفران ذنوبهم التي يصرون عليها ولا يتوبون منها، وهذا هو المذكور في التوراة: من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة، ومن جملة الميثاق أن يبينوا للناس الحق ولا يكتمونه، وألا يحرفوا الكلم ولا يغيروا الشرائع لأجل أخذ الرشوة، وهم قد درسوا الكتاب (التوراة) وفهموا ما فيه، من تحريم أكل مال الغير بالباطل والكذب على الله.
ثم رغبهم الله في جزيل ثوابه، وحذرهم من وبيل عقابه، فقال:
ألم يعلموا أن الدار الآخرة وما فيها من نعيم خالد خير للذين يتقون المعاصي ومحارم الله، ويتركون هوى نفوسهم، ويقبلون على طاعة ربهم، إنها خير من حطام الدنيا الفاني الذي يؤخذ بطريق الحرام كالرّشا والسحت وغير ذلك، أفلا تعقلون؟ أي أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعرض الدنيا عما عندي من ثواب عقل يردعهم عماهم فيه من السفه والتبذير؟! والخلاصة: أن الدار الآخرة خير من ذلك العرض الخسيس.
وفي هذا إيماء إلى أن الطمع في متاع الدنيا هو الذي أفسد بني إسرائيل، وفي هذا عبرة للمسلمين الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة.
ثم أثنى الله تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما هو مكتوب فيه، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ..} . أي والذين يستمسكون بأوامر الكتاب الإلهي، ويعتصمون به، ويقتدون بمنهجه، ويتركون زواجره، وأقاموا الصلاة، وخصها بالذكر مع أن الكتاب يشتمل على كل عبادة،