الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي} أي بئس خلافة خلفتمونيها من بعد خروجي إلى ميقات ربي لمناجاته.
{أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} استعجلتم، والعجلة: التقدم بالشيء قبل وقته أما السرعة فهي عمل الشيء في أول أوقاته {وَأَلْقَى الْأَلْواحَ} طرح ألواح التوراة غضبا لربه، فتكسرت {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} أي بشعره بيمينه، ولحيته بشماله {يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} غضبا على وجه المعاتبة لا على وجه الإهانة {اِبْنَ أُمَّ} ذكر الأم أعطف لقلبه {وَكادُوا} قاربوا {فَلا تُشْمِتْ} تفرح، والشماتة: الفرح بالمصيبة، ولا تشمت بي الأعداء: بإهانتك إياي. {وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ} بعبادة العجل في المؤاخذة.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصة السامري باتخاذ العجل إلها لبني إسرائيل، ذكر أثر ذلك ووقعة على موسى؛ إذ أنه في حال رجعته، كان غضبان أسفا، واشتد أساه وحزنه حين رأى الواقع المؤلم من ضلال قومه وغيهم، فبادر إلى تعنيف أخيه هارون بسبب عبادة قومه العجل، ولامه على سكوته على قومه. وهذا هو الفصل الثاني من قصة عبادة العجل.
التفسير والبيان:
أخبر الله موسى بفعل بني إسرائيل، وهو على الطور، بقوله:{قالَ: فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ، فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً، قالَ: يا قَوْمِ: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً، أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ، أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} [طه 85/ 20 - 86].
فكان موسى أثناء رجوعه من الميقات غضبان أسفا، أي ساخطا شديد الحزن والأسى، وقال لقومه: بئسما فعلتم من بعد غيبتي، وبئست الخلافة التي خلفتموها من بعد ذهابي إلى جبل الطور لمناجاة ربي، حيث عبدتم العجل واتبعتم السامري، وتركتم عبادة الله وتوحيده، وقد كنت أوضحت لكم عقيدة التوحيد، وغرست في قلوبكم تلك العقيدة، وطهرت نفوسكم من الشرك والوثنية، وحذرتكم من ضلال القوم الذين كانوا يعكفون على أصنام لهم من
تماثيل البقر. وكان موسى في ذلك كله شديد الشكيمة، قوي العزيمة، لقنهم التوحيد الخالص، وأنكر عليهم حين طلبوا منه أن يجعل لهم إلها كغيرهم.
وقال موسى: أعجلتم أمر ربكم؟ أي استعجلتم ميعاد ربكم فلم تصبروا له، وهو ما وعدكم من الأربعين، وذلك لأنهم قدروا أنه لما لم يأت على رأس الثلاثين، فقد مات
(1)
، أي تعجلتم في الحكم علي. قال الزمخشري: المعنى: أعجلتم عن أمر ربكم، وهو انتظار موسى حافظين لعهده، وما وصاكم به، فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم، فحدثتم أنفسكم بموتي، فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم. وروي أن السامري قال لهم حين أخرج لهم العجل:{هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى} [طه 88/ 20] إن موسى لن يرجع وأنه قد مات
(2)
.
وطرح موسى الألواح من يده، لما اعتراه من فرط الدهشة، وشدة الضجر عند استماعه حديث العجل، غضبا لله، وحمية لدينه، وكان في نفسه حديدا (ذا حدة) شديد الغضب، وكان هارون ألين منه جانبا، ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل من موسى.
وروي أن التوراة كانت سبعة أسباع، فلما ألقى الألواح تكسرت، فرفع منها ستة أسباعها، وبقي منها سبع واحد، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء، وفيما بقي الهدى والرحمة.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يرحم الله موسى، ليس المعاين كالمخبر، أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده، فلم يلق الألواح، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح» .
وأخذ بشعر رأس أخيه يجره إليه بذؤابته، لشدة ما استفزه من الأمر،
(1)
تفسير الرازي: 11/ 15.
(2)
تفسير الكشاف: 578/ 1.
وذهب بفطنته، وظنا بأخيه أنه قصر في خلافته، وفرط في كفّ القوم عن عبادة العجل، ومن حق الخليفة اتباع سيرة سلفه:{قالَ: يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاّ تَتَّبِعَنِ، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه 92/ 20] أي أن تتبعني إلى جبل الطور.
ولقد كان موسى عليه السلام معذورا فيما فعل فهو غضب للحق، فقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام لا يغضب لنفسه، فإذا انتهكت حرمات الله، كان أشد ما يكون غضبا لله.
فأجابه هارون قائلا: يا ابن أمي، لا تتعجل بلومي وتعنيفي واتهامي بالتقصير في واجبي نحو الله تعالى، فإني أنكرت عليهم، ونصحتهم، ولكن القوم استضعفوني فوجدوني فردا واحدا، ولم يلتفتوا إلى كلامي، بل قاربوا أن يقتلوني.
يا ابن أمي {فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ} ، أي لا تفعل بي ما هو أمنيتهم من الاستهانة بي والإساءة إلى، ولا تجعلني في حنقك علي، وعقوبتك لي قرينا لهم وصاحبا، أو ولا تعتقد أني واحد من زمرة الظالمين لأنفسهم، يعني الذين عبدوا العجل، مع براءتي منهم ومن ظلمهم.
ولما اعتذر إليه أخوه واستعطف قلبه قال موسى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي} ما قد فرط مني من قول أو فعل فيهما غلظة وجفوة لأخي، واغفر لأخي ما قد فرط أثناء خلافته عني، من مؤاخذة القوم على ما ارتكبوه من جرم وإثم، و {أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ} الواسعة، فأنت أرحم الراحمين، أي اجعل رحمتك ملازمة لنا لا تفارقنا في الدنيا والآخرة.
دعا موسى بهذا الدعاء ليرضي أخاه، ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه، فلا يشمتون به.