الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذه التأويلات تعضدها الأحاديث الصحيحة،
ففي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت له: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال:«نعم إذا كثر الخبث» .
وفي صحيح الترمذي: «إن الناس إذا رأوا الظالم، ولم يأخذوا على يديه، أو شك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» .
وفي صحيح البخاري والترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا
(1)
على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء، مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا».
ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة، وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى المؤمنين بطاعة الله والرسول في الجهاد وبذل المال وغيرهما، أردفه بالأمر بإجابة الله والرسول إذا دعاهم لما يحييهم حياة أبدية، ويصلحهم بهداية الدين وأحكامه، فكأن هذه الآيات بمثابة بيان العلة لطاعة الله والرسول، وهو تحقيق الصلاح والخير والسعادة الأبدية في الدنيا والآخرة بالتزام الدين.
التفسير والبيان:
كرر الله النداء بلفظ الذين آمنوا هذه الآيات وما قبلها، إشارة إلى أن وصف الإيمان موجب الامتثال والإجابة والإصغاء لما يرد بعده من الأوامر والنواهي.
(1)
استهموا: اقترعوا.
والمعنى: أيها المؤمنون، أجيبوا دعوة الله، ودعوة الرسول إذا دعاكم لما يحييكم حياة طيبة أبدية مشتملة على سعادة الدنيا والآخرة، وفيها صلاحكم وخيركم، وفيها كل حق وصواب، وذلك شامل القرآن والإيمان والجهاد وكل أعمال البر والطاعة. والمراد من قوله:{لِما يُحْيِيكُمْ} الحياة الطيبة الدائمة، قال تعالى:
{فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً} [النحل 97/ 16]. وقال البخاري: {اِسْتَجِيبُوا} :
أجيبوا، {لِما يُحْيِيكُمْ}: لما يصلحكم.
وأكثر الفقهاء على أن ظاهر الأمر للوجوب، فالأمر هنا للوجوب حتى يكون له معنى وفائدة، صونا للنص عن التعطيل، ولأن قوله بعدئذ:
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} جار مجرى التهديد والوعيد، وهو لا يليق إلا بالإيجاب.
فيجب بناء عليه امتثال ما أمر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بجد وعزم ونشاط من أمور الدين عبادة وعقيدة ومعاملة. أما أمور العادات كاللباس والطعام والشرب والنوم، فليست من الدين الواجب الاقتداء به.
ومن أعرض عما أمر النبي به من الإيمان والقرآن والهدى والجهاد، فهو ميت لا حياة طيبة أو روحية فيه، كما قال تعالى:{أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ، وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها} [الأنعام 122/ 6].
ومعنى قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} : بادروا إلى الاستجابة قبل ألا تتمكنوا منها بزوال العقل. والقلب: موضع الفكر. قال مجاهد في الآية: {يَحُولُ..} . أي حتى يتركه لا يعقل، والمعنى: يحول بين المرء وعقله، حتى لا يدري ما يصنع. وفي التنزيل:{إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق 37/ 50] أي عقل.
وقيل: يحول بينه وبين قلبه الموت، فلا يمكنه استدراك ما فات، قال في الكشاف: يعني أنه يميته فتفوته الفرصة. وقيل: المعنى يقلب الأمور من حال إلى حال، قال القرطبي: وهذا جامع.
روى الإمام أحمد بن حنبل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك» فقلنا: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال:«نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها» .
واختيار الطبري: أن يكون ذلك إخبارا من الله عز وجل بأنه أملك لقلوب العباد منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يدرك الإنسان شيئا إلا بمشيئة الله عز وجل.
وأرى أن اختيار الطبري والقرطبي في تفسير الآية أسلم الآراء، ومعناها أن الله مهيمن على قلب الإنسان وفكره وإرادته، يقلب الأمور بيده كيف شاء من حال إلى حال، وهو المتصرف في جميع الأشياء، يصرف القلوب بما لا يقدر عليه صاحبها، ويغير اتجاهاته ومقاصده ونياته وعزائمه حسبما يشاء. والمقصود من الآية الحث على الطاعة قبل وجود الموانع من مرض وموت مثلا.
وفسر بعضهم الآية بحسب الاختلاف في الجبر والقدر، فالقائلون بالجبر:
يرون أن الله يحول بين المرء الكافر وطاعته، ويحول بين المرء المطيع ومعصيته، فالسعيد من أسعده الله، والشقي من أضلّه الله. وكان فعل الله تعالى ذلك عدلا فيمن أضله وخذله، إذ لم يمنعهم حقا وجب عليه، فتزول صفة العدل حينئذ، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم، لا ما وجب لهم.
وقال الجبائي من المعتزلة: إن من حال الله بينه وبين الإيمان، فهو عاجز، وأمر العاجز سفه، ولو جاز ذلك لجاز أن يأمرنا الله بصعود السماء، وقد أجمعوا
على أن المريض الزّمن لا يؤمر بالصلاة قائما، فكيف يجوز ذلك على الله تعالى؟ وقد قال تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها} [البقرة 286/ 2]
(1)
.
ومما يدل على أن المقصود من الآية الحث على الطاعة قبل فوات الأوان والفرصة ما ختمت به، وهو قوله:{وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي أسرعوا في العمل وأعدوا العدة ليوم الحشر، فإنكم إلى الله مرجعكم ومصيركم، فيجازيكم بأعمالكم.
وبعد أن حذر الله تعالى الإنسان أن يحال بينه وبين قلبه، حذره من الفتن، فقال:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً..} . أي احذروا الوقوع في الفتنة وهي الاختبار والمحنة التي يعمّ فيها البلاء المسيء وغيره، ولا يخص بها أهل المعاصي، ولا من ارتكب الذنب، بل يعمهما، حيث لم تدفع وترفع. وبعبارة أخرى: واحذروا فتنة، إن نزلت بكم، لم تقتصر على الظالمين خاصة، بل تتعدى إليكم جميعا، وتصل إلى الصالح والطالح.
وكانت فتنة عثمان أول الفتن التي ما زال أثرها قائما في التاريخ، وكانت سببا في اقتتال المسلمين في وقعة الجمل وصفين ومقتل الحسين وغيرها، وفي ظهور البدع والمنكرات، واستمرت الفتن بين المسلمين، وأخذت أشكالا متعددة، من قومية، وتفرق في الدين، وانقسام إلى أحزاب دينية، وأحزاب سياسية.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} ، أي أنه تعالى شديد العذاب في الدنيا والآخرة لمن عصاه من الأمم والأفراد، وخالف هدي دينه وشرعه.
وهذا التحذير عام يعمّ الصحابة وغيرهم، وإن كان الخطاب لهم أولا.
ومقتضى التحذير منع ما يؤدي إلى العذاب العام، والعمل على إزالته ورفعه إذا وقع، كإهمال الجهاد، وشيوع المنكر، وافتراق الكلمة، والالتواء في الأمر
(1)
تفسير الرازي: 147/ 15 - 148.
بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد وردت أحاديث كثيرة تحذر من الفتن، منها:
ما رواه أحمد وأبو داود عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
ثم نبّه الله تعالى عباده المؤمنين على نعمه وإحسانه عليهم، حيث كانوا قليلين فكثرهم، ومستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم، وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات، وهذا كان حال المؤمنين قبل الهجرة من مكة إلى المدينة، فبعد أن أمرهم بطاعة الله وطاعة الرسول، ثم أمرهم باتقاء المعصية، أكد ذلك التكليف بهذه الآية، فقال: واذكروا أيها المهاجرون، وقيل: الخطاب لجميع المؤمنين في عصر التنزيل، اذكروا وقت أن كنتم قلة مستضعفين في مكة، والمشركون أعزة كثرة يذيقونكم سوء العذاب، وكنتم خائفين غير مطمئنين، {تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النّاسُ} ، أي يأخذكم مشركو العرب بسرعة خاطفة للقتل والسلب، كما كان يتخطف بعضهم بعضا خارج الحرم المكي، كما قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً، وَيُتَخَطَّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت 67/ 29] وقال: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص 57/ 28].
{فَآواكُمْ} ، أي جعل لكم مأوى تتحصنون به في المدينة، وأيّدكم، أي أعانكم وقواكم يوم بدر وغيره من الغزوات بنصره المؤزر وعونه، وسيؤيدكم بنصره على من سواكم من الروم والفرس وغيرهم، {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ} رزقا حسنا مباركا فيه وأحل لكم الغنائم، كي تشكروا هذه النعم الجليلة، والغرض التذكير بالنعمة لتكون حاملا لهم على إطاعة الله وشكر الفضل الإلهي.
أخرج ابن جرير الطبري عن قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ} قال: كان هذا الحي من العرب أذلّ الناس ذلاّ، وأشقاه عيشا، وأجوعه بطونا، وأعراه جلودا، وأبينه ضلالا،