الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التمثال: فلا بد أن يكون مثالا لشيء حقيقي، فإن عبد فهو صنم. وقد يتخذ التمثال للزينة كالمتخذ على جدران الأبنية أو في مداخل الجسور، وقد يكون التمثال لتذكر سيرة بعض القادة بقصد التعظيم غير الديني، كتماثيل بعض الزعماء والعلماء في الساحات العامة.
{اِجْعَلْ لَنا إِلهاً} صنما نعبده. {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} حيث قابلتم نعمة الله عليكم بما قلتموه.
{مُتَبَّرٌ} هالك، والتتبير: الإهلاك والتدمير. {وَباطِلٌ} زائل لا بقاء له. {أَبْغِيكُمْ إِلهاً} مثل أبتغيكم: أي أطلب لكم.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أنواع نعمه على بني إسرائيل، بأن أهلك عدوهم، وأورثهم أرضهم وديارهم، أتبع ذلك بالنعمة العظمى: وهي أن الله جاوز بهم البحر مع السلامة. وهذا تكملة الفصل العاشر من قصة موسى مع فرعون.
ثم ارتدوا وجهلوا وطلبوا من موسى عبادة الأصنام. وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عما رآه من يهود المدينة، فقد فعلوا ما هو أعظم مع نبيهم موسى عليه السلام. وفي بيان ذلك تذكير للمؤمنين أن يشكروا نعمة الله، وألا يكونوا مثل بني إسرائيل.
التفسير والبيان:
أنقذ الله بني إسرائيل من كيد فرعون وملئه، فعبروا البحر آمنين بالسير في أرضه دون سفن، بعد أن أوحى الله لنبيه موسى بضرب البحر فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم، ثم أغرق الله فرعون وقومه حينما لحقوا بهم، وفي وسط البحر أطبق عليهم الماء، كما وصف تعالى هذا الحادث العجيب بقوله:{فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ، فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ. وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ. وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء 63/ 26 - 67].
وبعد أن جاوز بنو إسرائيل البحر، وقد رأوا من آيات الله وعظيم سلطانه ما رأوا، وشاهدوا أنه تعالى أهلك فرعون وجنوده، وخصهم بالنجاة والسلامة، كانوا في غاية الجهالة والضلالة وجحود النعمة، إذ طلبوا من موسى اتخاذ إله من الأصنام، تأثرا بما رأوه من بعض العرب أو من غيرهم يعبدون الأصنام ويعظمونها ويلازمونها ويقبلون عليها، وتشبها بالمصريين الذين كانوا يعبدون التماثيل. وكأنهم لم يدركوا معنى التوحيد الذي دعاهم إليه موسى عليه السلام.
أما القوم الذين رأوهم فهم من الكنعانيين (وهم الذين أمر موسى عليه السلام بقتالهم) وقيل: كانوا من لخم. قال الطبري: وكانوا يعبدون أصناما على صور البقر، فلهذا أثار ذلك شبهة لهم في عبادتهم العجل بعدئذ.
فقالوا: {يا مُوسَى، اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ} ، أي اجعل لنا صنما نعكف عليه ونلازمه، {كَما لَهُمْ آلِهَةٌ} أصنام يعكفون عليها، والمراد أنهم طلبوا منه أن يعين لهم أصناما. وهذا يدل على تأثرهم بالبيئة المصرية وحنينهم لها، وعلى نزعتهم المادية بتجسيد الإله في صورة معدن أو حجر.
فأجابهم موسى تعجبا من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى والمعجزة الكبرى، فوصفهم بالجهل المطلق وأكده؛ لأنه لا جهل أعظم مما رأى منهم ولا أشنع، فإنهم جهلوا مقام التوحيد، وما يجب من إفراد الله بالعبادة بلا واسطة من إنسان أو مادة، جهلوا عظمة الله وجلاله وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل.
واتخاذ الواسطة إلى الله بهذه الأصنام كفر؛ فقد أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلها للعالم، أو اعتقدوا أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى؛ لأن العبادة نهاية التعظيم،
ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام والإكرام
(1)
.
وهذه طريقة السذّج والجهلة، وقد حدث في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل ذلك،
روى أحمد والنسائي عن أبي واقد الليثي قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل حنين، فمررنا بسدرة، فقلت: يا رسول الله، اجعل لنا هذه ذات أنواط
(2)
، كما للكفار ذات أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة، ويعكفون حولها، فقال: الله أكبر، كما قالت بنو إسرائيل لموسى:{اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ} ، إنكم تركبون سنن من قبلكم».
وتتمة ردّ موسى: إن هؤلاء يعني عبدة تلك التماثيل مدمّر مكسّر ما هم فيه، وزائل ما كانوا يعملون من عبادتها فيما سلف، فكل ما عملوه مضمحل الأثر، لا ينتفعون به، بل يعاقبون عليه، وإن كان في زعمهم تقربا إلى الله، كما قال تعالى:{وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً} [الفرقان 23/ 25].
وفي عبارة القرآن: {إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ} إشارة إلى أن عبدة الأصنام هم المعرضون للهلاك، وأن عملهم إلى زوال، وهذا بشارة بزوال عهد الوثنية من تلك الأرض.
ثم قال لهم موسى: أغير الله خالق السموات والأرض المنعم عليكم بهذه النعم أطلب لكم معبودا؟ وهو الذي {فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} ، أي عالمي زمانهم بالتوحيد وهداية الدين وتجديد ملة إبراهيم عليه السلام.
ثمّ ذكّرهم موسى عليه السلام نعم الله العظمى عليهم، من إنقاذهم من أسر
(1)
تفسير الرازي: 223/ 14.
(2)
كان للكفار سدرة أي شجرة السدر، يعكفون عندها، ويعلقون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط.