الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موقف العلماء من حديث حذيفة وحديث ابن مسعود:
إما الترجيح وإما الجمع:
قال القاضي عياض وغيره: ليس هو على ظاهره، يعني حديث حذيفة، ولا يصح حمله على ظاهره، بل المراد بتصويرها. إلخ أنه يكتب ذلك ثم يفعله في وقت آخر؛ لأن التصوير عقب الأربعين الأولى غير موجود في العادة وإنما يقع في الأربعين الثالثة، وهي مدة المضغة اهـ
(1)
.
قال ابن الصلاح: "أعرض البخاري عن حديث حذيفة بن أسيد، إما لكونه من رواية أبي الطفيل عنه، وإما لكونه لم يره ملتئماً مع حديث ابن مسعود، وحديث ابن مسعود لا شك في صحته، وأما مسلم فأخرجهما معاً، فاحتجنا إلى وجه الجمع بينهما بأن يحمل إرسال الملك على التعدد، فمرة في ابتداء الأربعين الثانية، وأخرى في انتهاء الأربعين الثالثة لنفخ الروح، وأما قوله في حديث حذيفة في ابتداء الأربعين الثانية، فصورها، فإن ظاهر حديث ابن مسعود أن التصوير إنما يقع بعد أن تصير مضغة، فيحمل الأول على أن المراد أنه يصورها لفظاً وكتابة، لا فعلاً، أي يذكر كيفية تصويرها، ويكتبها، بدليل أن جعلها ذكراً
إلا أن سماع دقات القلب بوسائلنا العادية لا يكون قبل الأسبوع 22 من الحمل، وكذا تتشكل العينان، والأذنان والأنف، والشفتان، وبراعم الأسنان، وبعض العضلات، وتكون اليدان قصيرتين، والساقان أقصر، إلا أنها واضحت المعالم، وهكذا تصورت وتخلقت المضغة، وهذا ما أثبته الحديث الشريف الصحيح، عن حذيفة بن أسيد الغفاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إلىها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها، ولحمها، وعظامها، ثم يقول: أي رب ذكر أم أنثى؟ اهـ.
(1)
نقلاً من الديباج على صحيح مسلم (6/ 8).
أو أنثى إنما يكون عند المضغة.
وقال ابن حجر متعقباً: "وقد نوزع في أن التصوير حقيقة إنما يقع في الأربعين الثالثة بأنه شوهد في كثير من الأجنة التصوير في الأربعين الثانية، وتمييز الذكر من الأنثى، فعلى هذا فيحتمل أن يقال: أول ما يبتديء به الملك تصوير ذلك لفظاً وكتباً، ثم يشرع فيه فعلاً عند استكمال العلقة، ففي بعض الأجنة يتقدم ذلك، وفي بعضها يتأخر، ويكون بقي في حديث حذيفة أنه ذكر العظم واللحم، وذلك لا يكون إلا بعد أربعين العلقة
(1)
، فيقوي ما قاله عياض ومن تبعه"
(2)
.
قال ابن القيم في التبيان: فإن قيل: قد ذكرتم أن تعلق الروح بالجنين إنما يكون بعد الأربعين الثالثة، وإن خلق الجنين يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، وبينتم أن كلام الأطباء لا يناقض ما أخبر به الوحي من ذلك. فما تصنعون بحديث حذيفة بن أسيد الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
يدخل الملك في النطفة بعد أن تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة، فيقول: أي رب أشقي أم سعيد؟ فيكتبان، أي رب، ذكر أم أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله، وأثره، وأجله، ورزقه، ثم يطوى الصحيفة، فلا يزاد فيها، ولا ينقص.
(1)
الثابت طبياً خلافه كما شرحت من قبل.
(2)
فتح الباري (11/ 592) ح 6594
قيل: نتلقاه بالقبول والتصديق، وترك التحريف، ولا ينافي ما ذكرناه إذ غاية ما فيه أن التقدير وقع بعد الأربعين الثالثة، وكلاهما حق، قاله الصادق صلى الله عليه وسلم، وهذا تقدير بعد تقدير.
فالأول: تقدير عند انتقال النطفة إلى أول أطوار التخليق، التي هي أول مراتب الإنسان. وأما قبل ذلك فلم يتعلق بها التخليق.
والتقدير الثاني: تقدير عند كمال خلقه ونفخ الروح، فذلك تقدير عند أول خلقه وتصويره، وهذا تقدير عند تمام خلقه وتصويره، وهذا أحسن من جواب من قال: إن المراد بهذه الأربعين التي في حديث حذيفة الأربعين الثالثة، وهذا بعيد جداً من لفظ الحديث، ولفظه يأباه كل الإباء، فتأمله.
فإن قيل فما تصنعون بحديثه الآخر الذي في صحيح مسلم،
(511)
فقد روى مسلم، حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، أخبرنا ابن وهب، أخبر في عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير المكي أن عامر بن واثلة حدثه أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول:
الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره. فأتى رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري، فحدثه بذلك من قول ابن مسعود، فقال: وكيف يشقى رجل بغير عمل؟ فقال له الرجل: أتعجب من ذلك؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً، فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك ثم يقول: يا رب
أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضى ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص
(1)
.
وفي لفظ آخر في الصحيح أيضاً: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين، يقول: إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة، ثم يتسور عليها الملك الذي يخلقها، فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ أسوي أم غير سوي؟ ثم يقول: يا رب ما رزقه؟ وما أجله؟ وما خلقه؟ ثم يجعله الله عز وجل شقياً أم سعيداً.
وفي لفظ آخر في الصحيح أيضاً: "أن ملكاً موكلاً بالرحم إذا أراد الله أن يخلق شيئاً بإذن الله لبضع وأربعين ليلة" ثم ذكر نحوه.
قيل: نتلقاه أيضاً بالتصديق والقبول، وترك التحريف وهذا يوافق ما أجمع عليه الأطباء من أن مبدأ التخليق والتصوير بعد الأربعين
(2)
.
فإن قيل: فكيف توفقون بين هذا، وبين حديث ابن مسعود، وهو صريح في أن النطفة: أربعين يوماً نطفة، ثم أربعين يوماً علقة، ثم أربعين يوماً مضغة .. ومعلوم أن العلقة والمضغة لا صورة فيها، ولا جلد، ولا لحم، ولا عظم
…
وليس بنا حاجة إلى التوفيق بين حديثه هذا وبين قول الأطباء؛ فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم معصوم، وقولهم عرضة للخطأ، ولكن الحاجة إلى التوفيق بين حديثه
(1)
مسلم (2645).
(2)
في كلام ابن القيم ما يشير إلى أنه في عهده كان إجماعاً من الأطباء على أن التصوير بعد الأربعين، وهذا ما فصله الطب الحديث بعد وصوله لعلم التصوير والتكبير. والله أعلم.
وحديث حذيفة المتقدم ..
قيل: لا تنافي بين الحديثين بحمد الله، وكلاهما خارج من مشكاة صادقة معصومة، وقد ظن طائفة أن التصوير في حديث حذيفة إنما هو بعد الأربعين الثالثة. وخطأ هذا ابن القيم، ثم قال: وظنت طائفة أن التصوير والتخليق في حديث حذيفة في التقدير والعلم، والذي في حديث ابن مسعود في الوجود الخارجي. والصواب يدل على أن الحد ما دل عليه الحديث من أن ذلك في الأربعين الثانية، ولكن هناك تصويران:
أحدهما: تصوير خفي، لا يظهر، وهو تصوير تقديري، كما تصور حين تفصل الثوب أو تنجر الباب: مواضع القطع، والفصل، فيعلم عليها، ويضع مواضع الفصل والوصل، وكذلك كل من يضع صورة في مادة لا سيما مثل هذه الصورة .. ينشئ فيها التصوير والتخليق على التدريج شيئاً بعد شيء، لا وهلة واحدة كما يشاهد بالعيان في التخليق الظاهر في البيضة.
أحدهما تصوير وتخليق علمي، لم يخرج إلى الخارج.
الثانية: مبدأ تصوير خفي، يعجز الحس عن إدراكه.
الثالثة: تصوير يناله الحس، ولكنه لم يتم بعد.
الرابعة: تمام التصوير الذي ليس بعده إلا نفخ الروح.
فالمرتبة الألى علمية .. والثلاث الآخر عينية.
وهذا التصوير بعد التصوير، نظير التقدير بعد التقدير .. فالرب تعالى قدر مقادير الخلائق تقديراً عاماً قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف
سنة.
وهنا كتب الشقاوة والسعادة والأعمال والأرزاق والآجال.
والثاني تقدير بعد هذا، وهو أخص منه. وهو التقدير الواقع عند القبضتين حين قبض تبارك وتعالى أهل السعادة بيمينه، وقال: هؤلاء إلى الجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، وقبض أهل الشقاوة باليد الأخرى، وقال: هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون.
والثالث: تقدير بعد هذا، وهو أخص منه عندما يمنى به، كما في حديث حذيفة بن أسيد المذكور.
والرابع: تقدير آخر بعد هذا .. وهو عندما يتم خلقه وينفخ فيه الروح، كما صرح به الحديث الذي قبله يعني: حديث ابن مسعود -
(1)
.
وفي الفتح: "وقال بعضهم يحتمل أن يكون الملك عند انتهاء الأربعين الأولى يقسم النطفة إذا صارت علقة إلى أجزاء بحسب الأعضاء، أو يقسم بعضها إلى جلد، وبعضها إلى لحم، وبعضها إلى عظم، فيقدر ذلك كله قبل وجوده، ثم يتهيأ ذلك في آخر الأربعين الثانية، ويتكامل في الأربعين الثالثة.
وقال بعضهم: معنى حديث ابن مسعود أن النطفة يغلب عليها وصف المني في الأربعين الأولى، ووصف العلقة في الأربعين الثانية، ووصف المضغة في الأربعين الثالثة، ولا ينافي ذلك أن يتقدم تصويره.
(2)
(1)
التبيان في أقسام القرآن (ص: 345)
(2)
فتح الباري (11/ 592)6594.
وذهب بعضهم إلى أن قوله: مخلقة وغير مخلقة صفة للنطفة، وليست للمضغة، روي ذلك عن ابن مسعود بسند صحيح، رواه ابن جرير الطبري عنه.
(512)
فقد روى ابن جرير الطبري في تفسيره، قال: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عامر، عن علقمة،
عن عبد الله، قال: إذا وقعت النطفة في الرحم، بعث الله ملكاً، فقال: يا رب مخلقة، أو غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة مجتها الأرحام دماً، وإن قال: مخلقة، قال: يا رب فما صفتها ما رزقها؟ ما أجلها؟ أشقي أم سعيد؟، قال: فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب، فاستنسخ منه صفة هذه النطفة، قال: فينطلق الملك، فينسخها، فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها
(1)
.
هذا ما تيسر لي جمعه من أقوال أهل العلم في الجمع بين حديث ابن مسعود، وحديث حذيفة. والله أعلم.
(1)
والحديث وإن كان رجاله ثقات إلا أنه شاذ لمخالفته ما في الصحيحين، وقد سبق بيان المخالفة.