الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهطل نوره بالإحسان فأغدق. وتناسبت فيه أجناس من تجنيس لفظ التفضيل، فقال الاعتراف، هذا ما تصدق، وقال العرف، هذا ما أصدق مولانا السلطان- وذكر نعوته وألقابه- أصدقها ما ملأ خزائن الأحساب فخارا وشجرة الأنساب ثمارا، ومشكاة الجلالة أنوارا، وأضاف إلى ذلك ما لولا أدب الشرع لكان أقاليم ومدائن وأمصارا. فبذل لها من العين المصرى ما هو بإسم والده قد تشرف، وبنعوته قد تعرف، وبين يدى هباته وصدقاته قد تصرف» .
ثم كان الدخول بها فى شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وستمائة.
واهتم السلطان بذلك اهتماما لم يسمع بمثله، وخلع على جميع أكابر دولته من الأمراء والمقدمين والوزراء والقضاة والكتاب. وأنعم على الأمير سيف الدين قلاون بتشريف كامل بشربوش كان السلطان قد لبسه ثم خلعه عليه.
ذكر توجه السلطان إلى الكرك واستبداله بمن فيها من الرجال وعوده
«1»
وفى يوم الخميس ثانى عشر ذى الحجة من هذه السنة: حالة انقضاء العقد، ركب السلطان على الهجن وتوجه إلى الكرك فى جمع يسير من جهة البرية، فوصل إلى قلعة الكرك فى ثالث وعشرين الشهر. وكان سبب ذلك أنه بلغه عن بعض رجال القلعة أنهم عزموا على إثارة فتنة ونقل دولة، وأنهم عزموا على الوثوب بنواب السلطان بالكرك فيقتلونهم ويسلمون الحصن لأخ كان للملك القاهر ابن الملك المعظم لأمه، كونه ينسب إلى الملك الناصر، وكان مقيما بالكرك لا يؤبه
له. فدخل السلطان إلى الكرك بغتة، واستدعى الرجالة، وكانوا زهاء ستمائة، وأمر بالقبض عليهم وشنقهم، فشفع ما كان معه فيهم، فأخرجهم من الحصن وقطع أيدى وأرجل ستة نفر منهم من خلاف، كانوا سبب الفتنة. وكان السلطان قد استخدم رجالا يثق بهم، وسفرهم إلى غزة، ولم يعرف أحدا قصده بهم، فأحضرهم إلى الكرك ورتبهم عوض من كان بها من الرجال. واستدعى السلطان الطواشى شمس الدين صواب السهيلى الصالحى- وكان يتولى صناعة الإنشاء بمصر- وسلم إليه الحصن، وفوض «1» إليه النظر فى أمواله وحواصله وذخائره.
وخرج متوجها إلى دمشق فى يوم الجمعة ثامن عشرين ذى الحجة سنة أربع وسبعين وستمائة.
واتفق للسلطان فى هذه السفرة أمور، وشاهد أبنية ومنازل غريبة فى مسيره من الديار المصرية إلى الكرك. وقد ذكرها المولى محيى الدين بن عبد الظاهر واعتذر فى بسط القول فيها «2» لغرابتها. فأحبنا أن نذكر ذلك تلخيصا.
قال: رحل السلطان من قلعته يوم الخميس المذكور فنزل بلبيس، وأقام إلى قرب وقت العصر، ورحل فنزل رأس الماء بوادى السدير، ورحل منه فى نصف ليلة السبت، فنزل الكراع وأقام إلى غروب الشمس، وحمل الماء لكفاية يومين، وتوجه على طريق البدرية، وساق سوقا عنيفا إلى وقت الفجر من يوم الاثنين، لم يرح ولم يسترح إلا بقدر ما تشرب الخيل الماء وتستوفى العليق، فنزل جبل بدر، ثم ركب بعد الإسفار لشدة الوعر فوصل إلى بدر، ونزل عند العين.
قال: وهى عين تخرج من جبل أخضر ليس فيه نبات، منبعها من جهة الغرب تحت جبل شاهق، وهى شكل مغارة منقوبة، يدخل الإنسان منها مقدار عشرة خطى، فيجد عينا تنبع عن بسرة الداخل إليها.
وكان السلطان قبل وصوله إلى العين قد بعث جماعة من العرب وأمرهم أن يجمعوا من ماء العين ما يكون حاصلا للورود، فصنعوا حول العين حياضا فى الأرض شكل البرك محوطة بالحجارة، وملأوها من ماء العين، فوردها السلطان ومن معه، وارتفقوا بها، ولولا ذلك لهلكوا من الأزدحام على الماء. ثم دخل السلطان بنفسه إلى المغارة، وجلس عند العين، وكان يملأ لمن معه قربهم بيده ويناول كل قربة لصاحبها حتى ملأوا ما معهم. ثم رحل من بدر فنزل حسنة، وهى بئر واحدة. ورحل منها حتى انتهى إلى عين تعرف بالمليحة فوردها. ورحل وبات تحت جبل يعرف بنقب الرّباعى، فلما أسفر الصبح صعد إلى الجبل وإذا هو جبل عظيم به عقاب صعبة- وهى حجارة رخوة تشبه الرمل المتجمد، متغيرة الألوان إلى الحمرة والزرقة والبياض- وثم ثقوب فى الجبل يعبر الراكب منها، وبها أمكنة تشبه السلالم من حجارة. وبها قبر هارون نبى الله أخى موسى ابن عمران، عليهما السلام، على يسرة السالك المتوجه إلى الشام. وثم قلعة تعرف بالأصوت «1» صعدها السلطان وشاهدها، فوجدها من أعجب الحصون وأمنعها لا يكون أحصن منها. ونزل من نقوب الرباعى إلى مدائن بنى إسرائيل، وهى ثقوب فى الجبال من أحسن الأشكال ذات بيوت بالعمد وأبواب، وظواهر البيوت مصوقة «2» بالنقوش فى الحجارة بالإزميل، وكلها مخربة، بها صور أشكال
وهى على قدر دور الناس المبنية الآن، وداخل هذه البيوت الأواوين المنورة المعقودة والصفف المتقابلة والخزائن والدهاليز والحرميات «1» . وليس ذلك مبنيا بل جميعه منحوت بالحديد أشكال المغاير «2» .
قال: وقد خلق الله تعالى جبلين متقابلين، بينهما طريق، وكل جبل منهما كأنه شكل سور مرتفع، والدور متصلة يمينا وشمالا. ثم خرج السلطان من تلك الأمكنة إلى وادى المدرة، ثم منه إلى قرية تعرف بالعذبا «3» ، عرفت بذلك لأن بها العين التى يحسها موسى بن عمران عليه السلام بعصاه، وكانت تجرى دما، فقال:
«عد بأمر الله ماء عذبا» فعادت العين ماء حلوا رائقا باردا. فبات السلطان بها، ورحل منها ليلة السبت حادى عشرين الشهر، فوصل قلعة الشوبك نصف نهار الأحد، وخيم هناك، وحضر أمراء بنى عقبة وغيرهم من أمراء العربان، وقدموا الخيول والهجن وغير ذلك، ثم رحل من الشوبك نصف نهار الاثنين على طريق الحسا، فوصل إلى الكرك نصف نهار الثلاثاء ثالث عشرين الشهر.
قال: ولما كان فى سابع وعشرين الشهر يوم الجمعة خرج السلطان إلى باب قلعة الكرك، وأحضر رجالها، وذكر من خبر إخراجهم نحو ما تقدم.
وفى هذه السنة: توفى الملك المسعود جلال الدين عبد الله بن الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب.
وكانت وفاته بدمشق فى خامس عشر جمادى الآخرة ودفن بسفح قاسيون. وكان من أجمل الناس صورة وألطفهم خلقا وأكثرهم أدبا، كثير المكارم وحسن العشرة، رحمه الله تعالى.
وفيها: توفى الصاحب موفق الدين أبو الحسن على بن محمد بن على بن محمد المذحجى الآمدى، وكان من أعيان الأكابر ممن يرشح للوزارة، وولى نظر الدواوين ثم رتب آخرا ناظر الكرك والشوبك، فباشر ذلك مكرها، واستمر على ذلك إلى أن مات بالكرك. وكانت وفاته فى ثامن عشر ذى الحجة، ودفن قريبا من مشهد جعفر التيار رضى الله عنه.
وفيها: فى يوم الأحد ثالث عشر شهر ربيع الأول كانت وفاة الأمير ركن الدين خاص ترك الكبير بدمشق ودفن بقاسيون «1» .
وفيها: فى العشرين من شهر رمضان توفى الشيخ الإمام الفاضل تاج الدين أبو الحسن على بن الأنجب البغدادى- المعروف بابن الساعى- المؤرخ خازن كتب المدرسة المستنصرية «2» . كان فاضلا، وله تاريخ مذيل على تاريخ ابن الأثير الجزرى، رحمهما الله تعالى.