الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحنفى، والشيخ شرف الدين عمر السبكى المالكى، والشيخ شمس الدين الحنبلى.
وفيها: اشتد الغلاء بالشام «1» ، وأبيعت غرارة القمح بأربعمائة وخمسين درهما، والشعير بمائتين وخمسين، وأبيع القمح بحماة عن كل مكوك أربعمائة درهم، ثم غلت سائر الأصناف، ومات خلق كثير من الجوع.
وفيها: فى ذى الحجة ظهر بالقاهرة عند الركن المخلق معبد وفيه حجر مكتوب عليه هذا مسجد موسى بن عمران عليه السلام، فجددت عمارته. وهو إلى الآن يعرف بمعبد موسى.
ذكر وفاة شيخ الإسلام عز الدين أبى محمد ابن عبد العزيز بن عبد السلام بن أبى القاسم ابن الحسن بن أبى محمد السلمى الدمشقى الشافعى وشىء من أخياره
«2»
كانت وفاته، رحمه الله تعالى، بالمدرسة الصالحية النجمية بالقاهرة المعزية، فى يوم السبت فبيل العصر التاسع من جمادى الأول سنة ستين وستمائة، ودفن يوم الأحد قبل الظهر بسفح المقطم. ومولده تقريبا فى سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة، وولى من المناصب الدينية بدمشق: تدريس زاوية الغزالى، وخطابة الجامع الأموى. وولى بالديار المصرية: القضاء بمصر والوجه القبلى، وخطابة جامع عمرو بن العاص، وتدريس المدرسة الصالحية بالقاهرة، والنظر فى عمارة
المساجد بالقاهرة ومصر. وكان، رحمه الله تعالى، أحد أئمة المسلمين، إليه انتهت الفتيا فى زمانه، وصنف التصانيف المشهورة، منها: الإمام فى أدلة الأحكام، وقواعد الفقه الكبرى، والوسطى، والصغرى، والغابة فى اختصار النهاية، وجمع بين الحاوى والنهاية، واختصر الشامل لابن الصباغ، واختصر الكشاف، واختصر تفسير ابن عباس والماوردى، وفسر سورة البقرة فى مجلدة «1» ، وفسر من سورة يس إلى سورة الناس، واختصر صحيح مسلم فى مجلدين، وعمل عليهما حواشى مفيدة، واختصر الرعاية، وصنف فى الزهد شجرة المعارف، وغير ذلك من التصانيف المفيدة. وكان، رحمه الله، كثير الزهد والإيثار، لا يعتنى بالملابس، ولا يكترث بها، ولا تأخذه فى الله لومة لائم ولا يخشى سطوة ملك، لم يزل يصدع الملوك بمر الحق، ويفتى بحكم الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن خالف ذلك آراء الملوك واعتقادهم، وكرهوه منه، ونهوه عنه فلا يرجع عما علمه، ويطلب المناظرة عليه. واتفقت له وقائع مع الملوك راموا فيها قتله، فحماه الله تعالى منهم، وهى وقائع تدل على صلابة دينه، وحسن يقينه، وتمسكه من السبب الأقوم بمتينه. منها: واقعته مع الملك الأشرف مظفر الدين موسى ابن الملك العادل صاحب دمشق فى مسألة الكلام. وكان الملك الأشرف قد صحب جماعة من مبتدعة الحنابلة من صغره ممن يقول بالحرف والصوت، فاستمالوه إلى مذهبهم وقرروه عنده حتى أمتزج بلحمه ودمه، واعتقد كفر من يعتقد خلافه وأنه مباح الدم. وكان فى ابتداء سلطنته يميل إلى الشيخ عز الدين لما يبلغه عنه، وقصد حضوره إليه، والشيخ بأبى ذلك ويمنع منه ولا يجيب إليه. فألقى
إلى السلطان من صحبه من الحنابلة أن الشيخ مخالف لرأيه مباين لمذهبه، وأنه يقدح فيمن يعتقده ويذمه ويسبه، فأتهمهم السلطان فى ذلك، وطلب منهم تحقيقه عنده، فاجتمعوا وكتبوا فتيا فى مسألة الكلام وأرسلوها إلى الشيخ، وكان قد اتصل به خبر مكيدتهم، فلما أتته كتب عليها بما يعتقده من تعظيم الله تعالى وتنزيهه وتوحيده، وأنه حى مريد سميع بصير عليم، قدير متكلم قديم أزلى ليس بحرف ولا صوت ولا يتصور فى كلامه أن ينقلب مدادا فى الألواح والأوراق، بل الكتابة من أفعال العباد، ولا يتصور فى أفعالهم أن تكون قديمة، ويجب احترامها لدلالتها على ذاته، كما يجب احترامها لدلالتها على صفاته. وأطال فى الفتيا وبسط الكلام واستدل، ونفى عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وأكابر أصحابه خلاف ذلك، وأخرج الفتيا من يده وقد تحقق ما يؤول أمرها إليه، فعرضت على السلطان، ومن عرضها لا يشك أن فيها سفك دم الشيخ.
فلما وقف عليها استشاط غضبا وقال: صح عندى ما قالوه عنه، وتكلم فى حقه بأشنع الكلام، وكفره، وكان ذلك فى شهر رمضان، وقد اجتمع على سماطه القضاة والعلماء، فما استطاع أحد منهم أن يرد عليه لما عنده من الحرج. فقال بعضهم: السلطان أولى بالعفو والصفح لا سيما فى مثل هذا الشهر، وموّه آخرون بكلام يوهم صحة فذهب خصمه، ثم انفصلوا من المجلس. فنهض فى ذلك الشيخ جمال الدين أبو عمرو بن الحاجب المالكى، رحمه الله تعالى، وهو عالم مذهبه فى زمانه. واجتمع بالقضاة والأعيان الذين حضروا المجلس، ووبخهم ولامهم وشدد عليهم النكير كونهم ما ذكروا الحق وكونهم سألوا العفو والصفح، وقال: هذا يوهم الذنب، ولم يزل إلى أن أخذ
خطوطهم بموافقة الشيخ. فعند ذلك التمس الشيخ من السلطان أن يعقد مجلسا للشافعية والحنابلة ويحضره المالكية والحنفية وغيرهم من علماء المسلمين. وقال:
الذى يعتقد فى السلطان أنه إذا ظهر له الحق يرجع إليه، وأنه يعاقب من موه الباطل عليه، وهو أولى الناس بموافقة والده السلطان الملك العادل، تغمده الله برحمته، فأنه كان قد عزر جماعة من أعيان الحنابلة المبتدعة تعزيرا بليغا رادها وبدع «1» بهم وأهانهم.
فأجابه السلطان بخطه ما مثاله:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
وعقائد الأئمة الأربعة فيها كفاية لكل مسلم يغلب هواه ويتبع الحق ويتخلص من البدع، اللهم إلا أن كنت تدعى الاجتهاد فعليك أن تثبت، ليكون الجواب على قدر الدعوى لتكون صاحب مذهب خامس.
وأما ما ذكرته عن الذى جرى فى أيام والدى، تغمده الله برضوانه، فذلك الحال أنا أعلم به منك. وما كان له سبب إلا فتح باب السلامه، لا لأمر دينى وجرم جره سفهاه قوم فحل بغير جانيه العذاب. ومع هذا فقد ورد فى الحديث
الفتنة نائمة، لعن الله مثيرها، ومن تعرض إلى إثارتها قابلناه بما يخلصنا من الله، وما يعضد كتاب الله وسنة رسوله» .
فلما وصلت هذه الرقعة إلى الشيخ قرأها، وقال للرسول: إذهب فقد وصلت.
فقال: تقدمت الأوامر المطاعة السلطانية باحضار جوابها، فكتب الشيخ ما مثاله:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
(فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)
«1» أما بعد حمد الله الذى جلت قدرته وعلت كلمته وعمت رحمته وسبقت نعمته، فإن الله تعالى قال لأحب خلقه إليه وأكرمهم لديه:(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)
«2» وقد أنزل الله تعالى كتبه وأرسل رسله بنصائح خلقه. فالسعيد من قبل نصائحه وحفظ وصاياه. وكان فيما أوصى به خلقه أن قال: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)
«3» وهو سبحانه وتعالى أولى من قبلت نصيحته وحفظت وصيته. وأما طلب المجلس وجمع العلماء فما حملنى عليه إلا النصح للسلطان وعامة المسلمين. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدين فقال: «الدين النصيحه» ؛ قيل لمن؟
يا رسول الله: قال: «لله ولكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم» ، فنصح الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ولكتابه بالعمل بمواجبه، وللائمة بارشادهم
إلى أحكامه والوقوف عند أوامره ونواهيه، ولعامة المسلمين بدلالتهم على ما يقربهم إليه ويؤلفهم لديه. وقد أديت ما علىّ فى ذلك.
والفتيا التى وقعت فى هذه القضية يوافق عليها علماء المسلمين من الشافعية والمالكية والحنفية والفضلاء من الحنابلة، وما يخالف فى ذلك إلا رعاع لا يعبا الله بهم، وهو الحق الذى لا يجوز دفعه، والصواب الذى لا يمكن رفعه. ولو حضر العلماء مجلس السلطان لعلم صحة ما أقول، والسلطان أقدر الناس على تحقيق ذلك. وقد كتب الجماعة خطوطهم بمثل ما قلته، وإنما سكت من سكت فى أول الأمر لما رأوا من غضب السلطان. ولولا ما شاهدوه من غضب السلطان لما أفتوا أولا إلا بما رجعوا إليه آخرا. ومع ذلك فيكتب ما ذكرته فى هذه الفتيا وما ذكره الغير، ويبعث إلى بلاد الإسلام ليكتب فيها من يجب الرجوع إليه ويعتمد فى الفتيا عليه. ونحن نحضر كتب العلماء المعتبرين ليقف عليها السلطان.
وبلغنى أنهم ألقوا إلى سمع السلطان أن الأشعرى يستهين بالمصحف.
ولا خلاف بين الأشعرية وجميع علماء المسلمين أن تعظيم المصحف واجب.
وعندنا أن من استهان بالمصحف أو بشىء منه فقد كفر، وانفسخ نكاحه، وصار ماله فيئا للمسلمين، وتضرب عنقه، ولا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه، ولا يدفن فى مقابر المسلمين، بل يترك بالقاع طعمة للسباع. ومذهبنا أن كلام الله سبحانه وتعالى قديم أزلى قائم بذاته، لا يشبه كلام الخلق، كما لا تشبه ذاته ذات الخلق ولا يتصور فى شىء من صفاته أن يفارق ذاته، إذ لو فارقته لصار ناقصا، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وهو مع ذلك
مكتوب فى المصاحف محفوظ فى الصدور مقروء بالألسنة، وصفة الله القديمة ليست بمداد الكاتبين ولا ألفاظ اللافظين. ومن اعتقد ذلك فقد فارق الدين وخرج عن عقائد المسلمين بل لا يعتقد ذلك إلا جاهل غبى، وربنا المستعان على ما تصفون.
وليس رد البدع وايطالها من باب إثاره الفتن. فإن الله سبحانه وتعالى أمر العلماء بذلك، وأمرهم ببيان ما علموه. ومن امتثل أمر الله ونصر دين الله لا يجوز أن يلعنه رسول الله.
وأما ما ذكر من أمر الاجتهاد والمذهب الخامس: فأصول الدين ليس فيها مذاهب فإن الأصل واحد، والخلاف فى الفروع.
ومثل هذا الكلام مما اعتمدتم فيه قول من لا يجوز أن يعتمد قوله. والله أعلم بمن يعرف دينه ويقف عند حدوده.
وبعد ذلك فأنا نزعم أنا من جملة حزب الله وأنصار دينه وجنده، وكل جندى لا يخاطر بنفسه فليس بجندى.
وأما ما ذكر من أمر باب السلامة، فنحن تكلمنا فيه بما ظهر لنا من أن السلطان الملك العادل، تغمده الله برحمته، إنما فعل ذلك إعزازا للدين ونصرة للحق. ونحن نحكم بالظاهر والله يتولى السراير، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم» .
وكتب الشيخ هذا الجواب مسترسلا بحضرة رسول السلطان، ودفعه إليه.
فلما قرأه السلطان اشتد غضبه، وأرسل اليه أستاد داره غرس الدين خليلا برسالة،
وكان غرس الدين يحب الشيخ ويعتقده، فحضر إليه وجلس بين يديه، وتلطف به واستأذنه فى أداء الرسالة، فقال: أدها كما قيلت لك.
فقال: يقول لك السلطان: «إنا قد شرطنا عليك ثلاثة شروط، أحدها:
ألا تفتى، والثانى: ألا تجتمع بأحد، والثالث: أن تلزم بيتك» . فقال له:
إن هذه الشروط من نعم الله الجزيلة علىّ، المستوجبه للشكر لله تعالى على الدوام.
أما الفتيا: فإنى والله كنت متبرما بها وأكرهها. وأعتقد أن المفتى على شفير جهنم. ولولا أنى كنت أراها متعينة علىّ لما أفنيت. والآن فقد سقط عنى الوجوب وتخلصت ذمتى ولله الحمد والمنة. وأما ترك اجتماعى بالناس ولزومى لبيتى: فهذا من سعادتى لتفرغى لعبادة الله تعالى. والسعيد من لزم بيته وبكى على خطيئته واشتغل بطاعة الله تعالى. وهذا تسليك من الحق، وهدية من الله تعالى إلىّ أجراها على يد السلطان وهو غضبان وأنا بها فرحان. والله لو كان عندى خلعة تصلح لك على هذه الرسالة المتضمنة لهذه البشارة لخلعتها «1» عليك ونحن على الفتوح، خذ هذه السجادة صل عليها فقبلها الحاجب وقبلّها، وانصرف إلى السلطان وقص عليه ما قاله الشيخ. فقال لمن حضره: قولوا لى ما أفعل به، هذا رجل يرى العقوبة نعمة، أتركوه، بيننا وبينه الله.
وبقى على ذلك ثلاثة أيام الى أن ركب الشيخ العلامة جمال الدين الحصيرى شيخ الحنفية حماره وتوجه إلى القلعة، وكان معظما عند السلطان وقد جمع العلم والعمل، فلما بلغ السلطان وصوله إلى القلعة أرسل خواصه يتلقونه، وأمرهم أن يدخلوا إلى داره على حماره ففعل. ولما رآه السلطان وثب إليه وتلقاه،
وأنزله عن حماره وأجلسه على تكرمته واستبشر به. وكان ذلك عند غروب الشمس. فلما أذن المؤذن وصلوا المغرب قدم السلطان إليه شرابا وناوله إياه بيده. فقال: ما جئت إلى طعامك ولا إلى شرابك. فقال: يرسم الشيخ ونحن نمتثل أمره. فقال: أى شىء بينك وبين ابن عبد السلام؟ هذا رجل لو كان فى الهند أو فى أقصى الدنيا كان ينبغى للسلطان أن يسعى فى حلوله فى بلاده لتتم بركته عليه وعلى بلاده ويفتخر به على سائر الملوك. قال: عندى خطه باعتقاده فى فتيا، وخطه أيضا فى رقعة جواب، رقعة سيرتها إليه. فيقف الشيخ عليهما ويكون الحكم بينى وبينه. ثم أحضر الورقتين، فقرأهما الشيخ وقال: هذا اعتقاد المسلمين وشعار الصالحين ونفس المؤمنين، وكل ما فيهما صحيح، ومن خالف ما فيهما وذهب إلى ما قاله الخصم من إثبات الحرف والصوت فهو حمار. فقال السلطان: نحن نستغفر الله مما جرى، ونستدرك الفارط فى حقه، والله لأجعلنه أغنى العلماء.
وأرسل إليه واسترضاه، وطلب محاللته ومخاللته. وتقدم السلطان إلى الفريقين بالإمساك عن الكلام فى مسأله الكلام وألا يفتى أحد فيها بشىء سدا لباب الخصام.
ثم وصل السلطان الملك الكامل إلى دمشق. وكانت الواقعة قد اتصلت به، فرام الاجتماع بالشيخ فاعتذر إليه، فطلب أن يكتب له صورة الواقعة مستقصاة، فأمر ولده الشيخ شرف الدين أن يكتب ذلك من أوله إلى آخره ففعل. وأرسله إلى الملك الكامل فقرأه وكتمه. ثم سأل أخاه الملك الأشرف عن الواقعة. فقال:
منعت الطائفتين من الكلام فى المسألة، وانقطع بذلك الخصام. فقال له السلطان
الملك الكامل: ليست هذه سياسة حسنة، تساوى بين أهل الحق والباطل، وتمنع أهل الحق من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وتأمرهم أن يكتموا ما أنزل الله إليهم. كان الطريق أن تمكن أهل السنة أن يلحنوا بحججهم وأن يظهروا دين الله، إلى غير ذلك من الكلام. وتحقق الملك الأشرف صحة ما قاله الشيخ وصرح بخجله منه، وصار يترضاه، ويعمل بفتاويه، ويأمر أن يقرأ عليه تصانيفه الصغار مثل: الملحة فى اعتقاد أهل الحق، ومقاصد الصلاة، وكرر قراءتها عليه فى يوم ثلاث مرات.
واستمر الحال على ذلك إلى أن مرض الملك الأشرف مرضة موته «1» وأرسل أكبر أصحابه إلى الشيخ وقال: قل للشيخ محبك موسى بن العادل أبى بكر يسلم عليك ويسألك أن تعوده وتدعو له وتوصيه بما ينتفع به غدا عند الله تعالى.
فأبلغه الرسول الرسالة، فتوجه إلى السلطان فسر برؤيته، وقال له: اجعلنى فى حل، وادع لى، وأوصنى، وأنصحنى: ففعل الشيخ ذلك، وتحدث معه فى أشياء منها: إبطال المنكرات بدمشق. فأمر بأبطالها، وتولى الشيخ إزالة بعضها بنفسه، وأطلق السلطان له ألف دينار عينا، فردها عليه: هذه اجتماعه لله تعالى، لا أكدرها بشىء من الدنيا. ثم مات الملك الأشرف إثر ذلك.
ولما حضر الملك الكامل إلى دمشق وانتزعها من أخيه الصالح إسماعيل كما تقدم، حضر الشيخ إلى مجلس السلطان فأكرمه، وفوض إليه تدريس زاوية الغزالى بجامع دمشق ثم فوض إليه قضاء القضاة بعد ذلك بدمشق. فاشترط شروطا كثيرة ولم يله. وقيل إنه تولاه مدة يسيره وعزل نفسه.
ثم كانت واقعة مع الملك الصالح عماد الدين إسماعيل [بن العادل «1» ] صاحب دمشق [عند ما أذن للفرنج فى دخول دمشق وشراء السلاح
…
فأفتى الشيخ عز الدين ابن عبد السلام بتحريم بيع السلاح للفرنج
…
وكان الصالح غائبا عن دمشق فورد كتابه بعزل ابن عبد السلام. وولى خطابة] «2» دمشق، بعد عز الدين بن عبد السلام، علم الدين داود بن عمر بن يوسف بن خطيب بيت الآبار.
فلما سلم الملك الصالح صفد والشقيف وغير ذلك للفرنج وصالحهم، كما تقدم، امتنع [الشيخ ابن عبد السلام] من الدعاء له على المنبر الجامع بدمشق فكان من خبر عزله واعتقاله وخروجه من الشام ووصوله إلى الديار المصرية وولايته الخطابة بجامع عمرو بن العاص بمصر، والقضاء بمصر والوجه القبلى، وعزله نفسه مرة بعد أخرى، وغير ذلك من أحواله ما قدمناه فى أخبار الدولة الصالحيه النجمية.
ولم يزل الشيخ، رحمه الله تعالى، معظما عند الملك الصالح وغيره من الملوك بعده بالديار المصرية يرجعون إلى رأيه ويعتمدون على فتاويه، ويقف الأكابر عند أوامره إلى أن ملك السلطان الملك الظاهر فزاد فى تعظيمه وإكرامه وبره، واستشاره فى ابتداء دولته فيما بفعله مما فيه صلاح دولته، فقال له: إن الدولة لا تقوم إلا بأمرين؛ أحدهما: قيام الشرع الشريف. والثانى: تحصيل الأموال من وجوهها، ولا أرى لمنصب القضاء مثل تاج الدين عبد الوهاب، يريد ابن بنت الأعز، وللوزارة مثل بهاء الدين على. فرجع السلطان إلى رأيه وتمسك بقوله، وفوض المنصبين لهما، فقام كل منهما فى منصبه أحسن قيام. وحمدت عاقبة هذه الولاية، وشكر سداد هذا الرأى.
ولما توفى الشيخ، رحمه الله تعالى، تألم السلطان لفقده، وشيع جنازته أمراء الدولة وأكابرها، وحملوا نعشه إلى أن وضع فى قبره، رحمه الله تعالى.
وهذا الذى أوردته من أخبار الشيخ فى مسألة الكلام نقلته من خط ولده الشيخ شرف الدين محمد، رحمه الله تعالى. وفضائله ومناقبه، رحمه الله تعالى، كثيرة. وقد أتينا منها بما يدل على مجموعها.
وفيها: أيضا توفى الصاحب كمال الدين «1» عمر، ابن قاضى القضاء نجم الدين أبى الحسن أحمد بن هبة الله «2» بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى ابن عيسى بن عبد الله بن محمد بن أبى جراده الحنفى المعروف بابن العديم الحلبى، كان فاضلا أديبا شاعرا كاتبا رئيسا مؤرخا، وكانت وفاته بمصر فى العشرين من جمادى الأولى سنة ستين وستمائة، ودفن بسفح المقطم، ومولده بحلب فى العشر الأول من ذى الحجة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.