الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: ولما وصل إليه هذا الكتاب اشتد غضبه، ولم يبلغه خبر أنطاكية إلا من هذا الكتاب.
ولما تسلم السلطان القلعة سلمها للأمير بدر الدين [بيليك] الخزندار والأمير بدر الدين بيسرى الشمسى. وأما كنداسطبل فإن السلطان أطلقه وأطلق أهله وأقاربه، فاختار التوجه إلى سيس، ففسح له فى ذلك.
ذكر ملخص أخبار أنطاكية
ذهب المفسرون لكتاب الله تعالى فى قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ «2»
أن القرية أنطاكية.
وقال أصحاب لأخبار فيها: إن الملك انتيوخس قصد بناء مدينة يعمرها لتكون نسبتها إليه، فسير حكماه ووزراه «1» لاختيار مكان يكون طيب الهواء والماء، قريبا من البحر والجبل، فوجدوا هذا المكان. فاختاروه لأنه جبلى بحرى «2» يحكم عليه الهواه الغربى، وعيون الماه العذبة حوله، والبحيرة الحلوة شرقية، والبحر المقلوب، وهو العاصى، خارج سورها وعليه طواحينها، وفيه المراكب تحمل الغلات إليها وغير ذلك. فعرفوا ملكهم هذه الصفات، فأمر ببنائها، وأخرج النفقات، وطلبوا حجرا جيدا لبنائها، فوجدوه فى مسافة يومين منها.
فاستخدم لها من الرجال والبنائين ثمانين ألف رجل وثمانمائة رجل، ومن العجل ستمائة عجلة، وألف وتسعمائة حمار، ومائة زورق لنقل الحجارة، خارجا عما فى ميناء السويدية من العجل والرجال والزوارق التى تحمل الرخام والعمد والقواعد.
فنجزت فى ثلاث سنين ونصف، وبنيب أسوارها وأبراجها وهى مائة وثلاثة وخمسون برجا، ومائة وثلاثة وخمسون بدنة، وسبعة أبواب، منها خمسة كبار وبابان صغارا «3» . وجعل فيها سبع عوادى ترمى إلى النهر عند الوادى المسمى الحسكروت، وجعل منه باب «4» فى الجيل ينزل منه إلى المدينة، وعليه قناطر يعبر الناس «5» عليه، وإذا امتلأ يخرج من تحت السور، وساقوا الماء إليها «6» فى قناتين: البوليط «7» والعاوية «8» .
ولما فرغت حضر الملك إليها ورآها، فأكرم الصناع ومدّ لهم طعاما ثلاثة أيام، وأمر ببناء الأدر والدكاكين، فشرع الناس فى بنائها، ووهب كل من يحضر إليها وينزل حولها خراج ثلاث سنين، وبنى الكنائس وبيوت عباداتهم فاجتمع العالم إليها.
واتفق أن الملك جلس فى بعض الأيام وهو مسرور فرح، فقال له وزيره:«لو عرفت ما أنفقت فى هذه المدينة ما كنت تفرح» فاستيقظ لنفسه، وأمر بعمل حساب ما أنفق فيها سوى الضيافات والجواميس التى أخذت من المروج والبهائم بغير ثمن، فجاءت أربعة آلاف قنطار وخمسين قنطارا ذهبا، فعظم ذلك عنده، وأمسك عن العمارة، وشرع فى بناء مدائن تغل، فبنى سبع مدائن، وأسكن الناس فيها. واستمرت فى يد الملك، ومن ملك بعده، وعمارتها تتزايد، وكل ملك يؤثر بها تأثيرا، ويجدد بها طلسما إلى أن ظهر المسيح عليه السلام.
وما زالت فى يد الروم إلى أن فتحها المسلمون فى خلافة عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، كما قدمناه فى خلافته. ولما ولى معاوية بن أبى سفيان نقل إلى أنطاكية فى سنة اثنتين وأربعين جماعة من الفرس وأهل بعلبك وحمص، وكان منهم: مسلم بن عبد الله جد عبد الله بن حبيب بن مسلم الأنطاكى. ولم تزل بيد عمال الخلفاء فى الدولتين الأموية والعباسية، ثم استقرت فى يد بنى حمدان. فلما مات سيف الدولة ابن حمدان اتفق أهلها أنهم لا يمكنون أحدا من الحمدانية يدخلها، وولوا شخصا يسمى بغلوش الكردى، وكان قد ورد الغزاة من خراسان خمسة آلاف رجل فأمسكهم وتقوى بهم واشتد أمره، وكان منهم رجل أسود
من الصعاليك يعرف بالزعلى «1» قد جمع طائفة وسموا نفوسهم بالغزاة. فدخل يوما عليه للسلام، فقتل الكردى وهرب أصحابه، واستولى الأسود على المدينة هو ومن معه. وكان فى بغراش نائب للروم اسمه ميخائيل البرجى وبطرس. فحضرا إليها فى جمع كبير، فعجز المسلمون عن حفظها لا تساعها، فملكها الروم فى يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من ذى الحجة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة. فطرح المسلمون النار بينهم وبين الروم، وفتحوا باب البحر وخرجوا منه. وأسر الروم جميع من كان بها من المسلمين، فقوى الروم بفتحها، وتوجهوا إلى حلب فصالحهم أهلها وأهل حمص على مال يحمل فى كل سنة إلى ملك الروم وهو عشرة قناطير ذهبا، ومن كل مسلم دينار سوى ذوى العاهات، وأقامت إلى سنة ست وستين وثلاثمائة، فسير جعفر بن فلاح غلامه «فتوحا» إلى أنطاكية فحاصرها خمسة أشهر فلم يظفر بها. وحدثت فى هذه السنة زلزلة عظيمة هدمت قطعة من سورها فأنفذ ملك الروم ثانيا، اثنى عشر ألف دينارا وصناعا «2» لإصلاح ذلك، فبنيت أحسن ما كانت. وبنى قلعتها لاون بن الفقاس وحصنها، وكان فى خدمته جماعة من الأرمن، ومات فكمل عمارتها الملك بسيل «3» وهو الذى وجد له لما مات ستة آلاف قنطار ذهبا، ولما ولى كان فى حاصل بيت المال أربعة قناطير لا غير، وهو الذى ملك أرجيش من بلاد أرمينية فى سنة خمس عشرة وأربعمائة، وكان ملكه تسعا وأربعين سنة وأحد عشر شهرا. وبقيت فى أيدى الروم إلى أن فتحها الملك سليمان بن قتلمش السلجقى فى سنة سبع وسبعين وأربعمائة على ما أوردناه فى
أخبار الدولة السلجقية، وبقيت فى يده إلى أن قتل فى سنة تسع وسبعين وأربعمائة، فصارت بيد وزيره الحسن بن طاهر الشهرستانى يتولى أمرها. فلما استرد السلطان ملكشاه بلاد الشام استردها وضمها إلى الوزير المذكور، فأقام بها إلى سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، ثم فارقها [الوزير] ودخل الروم، فسلمها لباغى شيان بن ألب [أرسلان] وكانت بنته منزوجة للملك رضوان صاحب حلب.
وحدثت زلزلة بأنطاكية فى التاسع عشر من شعبان سنة أربع وثمانين وأربعمائة خربت دورها وأهلكت خلقا كثيرا، ورمت من أبراجها نحو السبعين برجا، فتقدم السلطان بعمارة ما انهدم فى سنة خمس وثمانين.
واستمرت أنطاكية بيد ملوك الإسلام إلى أن ملكها الفرنج فى جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة على ما قدمناه. وكان قد اجتمع عليها جماعة من ملوك الفرنج والملك الكبير المشار إليه منهم اسمه كندفرى، فقرر أن كل ملك من الملوك يحاصرها عشرة أيام، ومن فتحت فى نوبته فهى له، ففتحت فى نوبة ملك منهم اسمه ميمون «1» . فلما اتصل ذلك بملوك الإسلام بالشام اجتمعوا ومقدميهم ظهير الدين طغرتكين صاحب دمشق، وجناح الدولة حسن صاحب حمص، وكربغا صاحب الموصل، وحاصروا أنطاكية، وكان الفرنج فى قل، فسألوا الأمان ليخرجوا منها فلم يجيبوهم، ووقع تنافس بين المسلمين فخرج الفرنج إليهم فانهزموا من غير قتال. وبقى ميمون مالكها حتى كسره الدانشمند وأسره وقتل أكثر عسكره، وذلك فى سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، فاشترى نفسه بعد ذلك بمائة ألف دينار، واستخلف ميمون فيها ولد أخيه طنكرى،
وركب فى البحر وسار إلى بلاده ليستنجد الفرنج ويعود، فأهلكه الله تعالى.
واستمر طنكرى مالكا لأنطاكية وأعمالها إلى أن أهلكه الله تعالى فى ثانى عشر شهر ربيع الأول سنة ست وخمسمائة، وملكها بعده روجار. وكان طنكى «1» قد استدعاه من بلده وجعله ولى عهده، وهو الذى حضر الى بيت المقدس فى ملك بغدوين، وكان بغدوين شيخا كبيرا، فاجتمعا بالبيت المقدس وقررا عهدا:
أن من مات منهم قبل الآخر انتقل ملكه إلى الباقى منهما. وتزوج روجار بنت بغدوين، فقتل روجار فى حرب كانت بينه وبين نجم الدين إيلغازى بن أرتق فى يوم السبت ثامن عشر شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. فقتل روجار «2» وجميع من معه، فسار بغدوين إلى أنطاكية وملكها، وأقام بها إلى أن وصل شاب، فى ثامن عشر شهر رمضان سنة ست وعشرين وخمسمائة، من الفرنج فى البحر وادّعى أنه ميمون بن ميمون الذى كان صاحب أنطاكية، فسلم بغدوين أنطاكيه له فملكها. وكان شجاعا مقداما، وأقام بها إلى أن سار نحو الدروب فلقيه ابن الدانشمند فكسره وقتل جماعة من عسكره بأرض عين زرية، وذلك فى نصف شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وخمسمائة. وملك بعده الأبرنس، ولقى الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى على حصن الأكراد فى شهر رجب سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة فكسر المسلمون وقتل جماعة منهم، واستولى الفرنج على أثقالهم. فجمع نور الدين العساكر، والتقاه فى يوم الأربعاء الحادى والعشرين من صفر سنة أربع وأربعين وخمسمائة فقتله وقتل فرسانه واستولى على خيامه.
وولى أنطاكية بعده الأبرنس أرناط، فأقام إلى أن لقيه مجد الدين أبو بكر نائب