الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولبسوا الخلع وقبلوا الأرض وخرجوا بشعار السلطنة، والأتابك فى خدمتهم، وتوجهوا صحبة الخليفة على ما نذكره.
فاتفق انفصالهم منه فى أثناء الطريق لأسباب جرت، وتوجه كل منهم إلى مملكته: فأما الملك الصالح فتوجه إلى الموصل وأقام بها، فاتفق اجتماع التتار عليها وحصارها. وأما أخواه فإنهما خافا مهاجمة العدو فعادا إلى الشام، واستأذنا فى الحضور، فأذن لهما السلطان فحضرا، وسألا السلطان إنجاد أخيهما فجرد الأمير شمس الدين سنقر الرومى وجماعة من البحرية والحلقة. فتوجهوا فى رابع جمادى الأولى سنة ستين وستمائة، وكتب [السلطان] إلى دمشق بخروج عسكرها صحبة الأمير علاء الدين طيبرس «1» ورحل العسكر المصرى والشامى من دمشق فى عاشر جمادى الآخرة.
ذكر وصول الخليفة المستعصم بالله إلى الديار المصرية ومبايعته وتجهيزه بالعساكر إلى بلاد الشرق وما كان من أمره إلى ان قتل
قال المؤرخ: وفى العشر الآخر من جمادى الآخر «2» سنة تسع وخمسين وستمائة ورد كتاب علاء الدين طيبرس، والأمير علاء الدين البندقدار «3» مضمونه أنه وصل
إلى جهة دمشق فى أول الغوطة رجل ادعى أنه أحمد بن الإمام الظاهر بن الإمام الناصر ومعه جماعة من عرب خفاجة فى قريب من خمسين فارسا، وأن الأمير سيف الدين قليج البغدادى عرف أمراء العرب المذكورين وقال:«بهؤلاء يحصل القصد من العراق» فكتب السلطان بخدمته وتعظيم حرمته وأن يسير صحبته حجاب. فكان وصوله إلى القاهرة فى يوم الخميس التاسع من شهر رجب من السنة، فخرج السلطان للقائه وساير أهل المدينتين، وكان يوما مشهودا، وشق القاهرة وهو لابس شعار بنى العباس، وطلع إلى القلعة راكبا، ونزل فى المكان الذى أخلى له.
وفى يوم الإثنين ثالث عشر أحضر السلطان الفقهاء والأئمة والعلماء والأمراء والصوفية والتجار وغيرهم بقاعة العمد، وحضر الخليفة وأثبت نسبه على ما قدمنا ذكره فى أخبار الدولة العباسية. ولما ثبت النسب بايعه السلطان على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والجهاد فى سبيل الله، وأخذ الأموال بحقها وصرفها فى مستحقها، ثم قلد الخليفة السلطان الملك الظاهر البلاد الإسلاميه وما سيفتحه الله من أيدى الكفار. وكتب بذلك تقليد شريف عن الخليفة للسلطان، وبايع الناس الخليفة على اختلاف طبقاتهم. وكتب السلطان إلى سائر الأعمال بأخذ البيعة له وأن يخطب باسمه على المنابر وتنقش السكة باسمه.
ولما كان فى يوم الجمعة سابع عشر شهر رجب خطب الخليفة بالناس فى جامع القلعة «1» ، واهتم السلطان بذلك ونثرت جمل من الذهب والفضة. وحصل
للخليفة توقف فى الخطبة.
وفى يوم الإثنين رابع شعبان ركب السلطان إلى خيمة ضربت فى البستان الكبير والناس فى خدمته، وحملت الخلع صحبة الأمير مظفر «1» الدين وشاج الخافجى وخادم الخليفة. ودخل السلطان إلى خيمة أخرى ولبس الخلعة الخليفية، وهى عمامة سوداء مزركشة، ودرّاعة بنفسجى، وطوق، وعدة سيوف تقلد منها وحملت خلفه، ولواءان، وسهمان كبيران، وترس، وغير ذلك مما جرت العادة به. وقدم له فرس أشهب فى رقبته مشدة سوداء، وعليه كنبوش «2» أسود.
وطلب الأمراء وخلع عليهم، وعلى الصاحب بهاء الدين، وقاضى القضاة، وصاحب ديوان الإنشاء الشريف: وهو القاضى فخر الدين بن لقمان، وطلع ابن لقمان على منبر قد جلل بالأطلس الأصفر، وقرىء التقليد على كافة الناس وهو:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «3» *
الحمد لله الذى أضفى على الإسلام ملابس الشرف، وأظهر بهجة درره وكانت خافية بما استحكم عليها من الصدف. وشيد ما وهى من علاثه حتى أنسى ذكر ما سلف. وقبض لنصره ملوكا اتفق عليهم من اختلف. أحمده على نعمه التى تسرح الأمين منها فى الروض الأنف، وألطافه التى وقف الشكر عليها فليس عنها منصرف «4»
وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له، شهادة توجب من المخاوف أمنا، وتسهل من الأمور ما كان حزنا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذى جبر من الدين وهنا، وأظهر من المكارم فنونا لافتا، صلّى الله عليه وعلى آله الذين أضحت مناقبهم باقيه لا تفنى، وأصحابه الذين صحبوه فى الدنيا فاستحقوا الزيادة من الحسنى، وسلم تسليما» .
«وبعد: فإن أولى الأولياء بتقديم ذكره، وأحقهم أن يصبح القلم راكعا وساجدا فى تسطير مناقبه وبره، من سعى فأضحى سعيه الحميد متقدّما، ودعا إلى طاعته فأجابه من كان منجدا ومتهما، وما بدت يد من المكرمات إلا كان لها زندا ومعصما، ولا استباح بسيفه حمى وغى إلا أضرمه نارا وأجراه دما.
ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصة بالمقام العالى المولوى السلطانى الملكى الظاهرى الركنى- شرفه الله وأعلاه- ذكرها الديوان العزيز النبوى «1» تنويها لشريف قدره، واعترافا بصنعه الذى تنفد العباره ولا تقوم بشكره، وكيف لا وقد أقام الدولة العباسية بعد أن أفعدتها زمانة الزمان، وأذهبت ما كان لها من محاسن وإحسان «2» ، وعتب دهرها المسىء فأعتب، وأرضى عنها زمنها وقد كان صال عليها صولة مغضب، وأعاده لها سلما بعد أن كان عليها حربا، وصرف لها اهتمامه فرجع كل مضيق من أمرها واسعا رحبا. ومنح أمير المؤمنين عند القدوم عليه حنوا وعطفا، وأظهر من الولاء رغبة فى ثواب الله ما لا يخفى، وأبدى من الاحتفال بأمر الشريعة والبيعه أمرا لو رامه غيره لا متنع عليه، ولو تمسك
بحبله متمسك لانقطع به قبل الوصول إليه، لكن الله أدخر هذه الحسنة ليثقل بها ميزان ثوابه، ويخفف بها يوم القيامه حسابه. والسعيد من خفف حسابه، فهذه منقبة أبى الله إلا أن يخلدها فى صحف صنعه، ومكرمة [قضت «1» ] لهذا البيت الشريف النبوى بجمع شمله بعد أن حصل الإياس من جمعه» .
«وأمير المؤمنين يشكر الآن [لك] هذه الصنائع. ويعترف أنه لولا اهتمامك بأمره لا تسع الخرق على الرافع. وقد قلدك الديار المصرية والبلاد الشامية والديار الجزرية «2» ، والبكرية، والحجازية، واليمنية وما يتجدد من الفتوحات فورا ونجدا، وفوض أمر جندها ورعاياها إليك حتى أصبحت بالمكارم فردا: وما جعل منها بلدا من البلاد ولا حصنا من الحصون مستثنى ولا جهة من الجهات تعد فى الأعلى ولا فى الأدنى» .
فلاحظ أمور الأمة فقد أصبحت لثقلها حاملا، وخلص نفسك اليوم لك التبعات، ففى غد تكون مسئولا عنها لا سائلا. ودع الاغترار بأمر الدنيا، فما نال أحد منها طائلا، وما لحظها أحد بعين الحق إلا رآها خيالا زائلا، فالسعيد من قطع منها آماله الموصولة، وقدم لنفسه زاد التقوى فتقدمته غير التقوى مردودة لا مقبولة. وأبسط يدك بالإحسان والعدل، فقد امر الله بالعدل والإحسان. وكرر ذكره فى مواضع من القرآن، وكفر به عن المرء ذنوبا كتبت عليه آثاما، وجعل يوما واحدا منه كعبادة ستين عاما ما سلمك [أحد «3» ] سبيل العدل واجتنيت ثماره من أفنان، ورجع الأمن بعد
تداعى أركانه مشيد الأركان، وتحصن به من حوادث الزمان فكانت أيامه فى الأيام أبهى من الأعياد، وأحسن من الغرر فى أوجه الجياد، وأحلى من العقود إذا حلى بها عاطل الأجياد» .
«وهذه الأقاليم المنوطة بنظرك تحتاج إلى حكام وأصحاب رأى من أرباب السيوف والأقلام، فإذا استعنت بأحد منهم فى أمرك فنقب عليه تنقيبا، واجعل عليه فى تصرفاته رقيبا، وسل عن أحواله، ففى يوم القيامة تكون عنه مسئولا وبما اجترم مطلوبا، ولا تول منهم إلا من تكون مساعيه حسنات لك لا ذنوبا.
وأمرهم بالأناة فى الأمور والرفق، ومخالفة الهوى إذا ظهرت أدلة الحق، وأن يقابلوا الضعفاء فى حوائجهم بالثغر الباسم والوجه الطلق. وألا يعاملوا أحدا على الإحسان والإساءة إلا بما يستحق، وأن يكونوا لمن تحت أيديهم من الرعية إخوانا، وأن يوسعوهم برا وإحسانا، وألا يستحلوا حرماتهم إذا استحل لهم الزمان حرمانا، والمسلم أخو المسلم، وإن كان أميرا عليه أو سلطانا. فالسعيد من نسج ولاته فى الخير على منواله، واستنوا بسنته فى تصرفاته وأحواله، وتحملوا عنه ما تعجز قدرته عن حمل أثقاله» .
«ومما يؤمرون به أن يمحى ما أحدث من سيىء السنن، وجدّد من المظالم التى هى على الخلائق من أعظم المحن، وأن يشترى بإبطالها المحامد، فإن المحامد رخيصة بأغلى الثمن. ومهما جنى منها من الأموال فإنها فانية «1» وإن كانت حاصله، وأجياد الخزائن وإن أصبحت بها خالية فإنما هى الحقيقة عاطلة. وهل أشقى ممن احتقب إثما، واكتسب بالمساعى الذميمة ذما، وجعل السواد الأعظم يوم القيامة له
خصما، وتحمل ظلم الناس مما صدر عنه من أعماله، وقد خاب من حمل ظلما.
وحقيق بالمقام الشريف السلطانى الملكى الظاهرى الركنى أن تكون ظلامات الأيام مردودة بعدله، وغزائمه نخفف عن الخلائق ثقلا لا طاقة لهم بحمله «1» ، فقد أضحى على الإحسان قادرا، وصنعت له الأيام ما لم تصنعه لمن تقدم من الملوك وإن جاء آخرا، فأحمد الله على أن وصل إلى جنابك إمام هدى، وأوجب لك مزية التعظيم وتنبيه الخلائق على ما خصك الله به من هذا الفضل العظيم. وهذه أمور ينبغى أن تلاحظ وترعى، وأن توالى عليها حمد الله، فإن الحمد يجب عليها عقلا وشرعا. وقد تبين أنك صرت فى الأمور أصلا، وصار غيرك فرعا» .
ومما يجب ذكره: الجهاد الذى أضحى على الأمة فرضا، هو والعمل الذى يرجع به مسود الصحائف مبيضا. وقد وعد الله المجاهدين بالأجر العظيم، وأعد لهم عنده المقام الكريم، وخصّهم بالجنة لا لغو فيها ولا تأثيم» .
«وقد تقدمت لك فى الجهاد يد بيضاء أسرعت فى سواد الحساد، وعرف منك عزمة هى أمضى «2» مما تحت ضمائر الأغماد. واشتهرت لك مواقف فى القتال هى أبهى وأشهى إلى القلوب من الأعياد. وبك صان الله حمى الإسلام من أن يبتذل، ويعزمك حفظ على المسلمين نظام هذه الدول، وبسيفك الذى أثر فى الكافرين قروحا لا تندمل، وبك يرجى أن يرجع مقر الخلافة المعظمة إلى ما كان عليه من الأيام الأول. فأيقظ لنصرة الإسلام جفنا ما كان هاجعا، وكن فى مجاهدة أعداء الله إماما متبوعا لا تابعا. وأيد كلمة التوحيد فما تجد فى تأييدها إلا مطيعا سامعا» .
«ولا تخل الثغور من اهتمام بأمرها تبتسم له الثغور، واحتفال يبدل ما دجى من ظلماتها بالنور، واجعل أمرها على الأمور مقدما، وسد منها ما غادره العدو متداعيا متهدما. فهذه حصون يحصل منها [الانتفاع «1» ] وبها تحصم الأطماع، وهى على العدو داعية افتراق لا اجتماع» .
«وقد سنى الله لك من السعادة كل مطلب، وأتاك من أصالة الرأى الذى يريك المغيب، وبسط بعد القبض منك الأمل، ونشط من السعاده ما كان قد كسل، وهداك إلى مناهج الحق وما زلت مهتديا إليها، وألهمك المراشد فلا تحتاج إلى تنبيه عليها، والله تعالى يؤيدك بأسباب نصره، ويوزعك شكر نعمه.
فإن النعم تستتم بشكره، بمنه وكرمه» .
ثم ركب السلطان وشق المدينة بعد أن زينت، وحمل التقليد الأمير جمال الدين النجيبى استاد الدار العالية، والصاحب الوزير بهاء الدين فى بعض الطريق «2»
وبسط أكثر الطريق للسلطان بالثياب الفاخرة، [و «1» ] مشى عليها بفرسه، ووصل إلى القلعه.
وشرع السلطان فى الستخدام للخليفة: فكتب للأمير سابق الدين بوزبا أتابك العسكر بألف فارس، وللأمير ناصر الدين محمد بن صيرم الخازندار بمائنى فارس، وللأمير الشريف نجم الدين استاد الدار بخمسمائة فارس. وأمر جماعة من العربان، وحملت إليهم الطلبخاناة والصناجق، وأنفق فيهم الأموال لعدة شهور.
واشترى السلطان مائة مملوك «2» جمدارية وسلاح دارية للخليفة، وأعطى لكل واحد منهم ثلاثة أرؤس خيلا وجملا لعدته، ولم يبق أحد ممن تدعو الحاجة إليه من صاحب ديوان وكاتب إنشاء وديوان وأئمه ومؤذنين وغلمان وحكماء وجرائية إلا استخدموا. ولما تكامل ذلك كله تقدم السلطان بتجهيز العساكر.
وفى يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان من السنة ركب السلطان هو والخليفة فى السادسة من النهار، ونزل كل منهما فى دهليزه، واستمرت النفقه فى أجناد الخليفة.
وفى يوم العيد ركب الخليفة والسلطان تحت الجتر، وصليا العيد، وفى هذه الليلة حضر الخليفة إلى خيمة السلطان وألبسه الفتوة بحضور «3» من يعتبر حضوره فى ذلك.
وفى يوم السبت سادس شوال رحلا متوجهين إلى الشام، فلما وصلا إلى الكسوة خرج عسكر الشام للقائهما، ودخلا دمشق فى يوم الإثنين سابع ذى القعدة. ونزل السلطان بالقلعة، ونزل الخليفة فى تربة الملك الناصر بجبل الصالحية «1» . وجرد الأمير سيف الدين بلبان الرشيدى، والأمير شمس الدين سنقر الرومى إلى جهة حلب، وأمرهم السلطان بالمسير إلى الفرات، وأنه متى ورد عليهم كتاب الخليفة يطلب أحدا منهم إلى العراق يتوجه إلى خدمته لوقته.
وركب السلطان وودع الخليفة، وسير إليه الملوك الذين ذكرناهم.
ثم ورد كتاب الخليفة يذكر أنه وصل إلى حديثة وعانا، وولى فيها «2» ثم كان ما ذكرنا من خروج طائفة من التتار وقتال الخليفة لهم واستشهاده، رحمه الله تعالى، على ما قدمناه فى أخباره، فى أخبار خلفاء الدولة العباسية.
وحسب ما أنفق فى مهم الخليفة والملوك فكان ألف ألف دينار عينا وفى هذه السنة قبل مسير السلطان إلى الشام، كتب منشور الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا «3» بالإمرة على جميع العربان، وأطلق السلطان للعريان الغلال من بلد حلب، وذلك قبل خروج السلطان إلى الشام.