الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واستهلت سنة إحدى وسبعين وستمائة
ذكر توجه السلطان إلى الديار المصرية على خيل البريد وعوده إلى الشام
قال: لما عاد السلطان من كشف الحصون فى خامس المحرم من هذه السنة، استشار خواص الأمراء فى أن التتار تواترت الأخبار بحركتهم، وأنهم متى قصدوا البلاد والعساكر والخزائن غير حاضرة صعب الأمر، وعرفهم أنه بتوجه إلى الديار المصرية على البريد.
وركب ليلة السادس من المحرم بعد عشاء الآخرة، وصحبته الأمير بدر الدين بيسرى، والأمير جمال الدين أقش الرومى، وجبرك «1» السلاح دار، وجرمك الناصرى، وسنقر الألفى السلاح دار، وعلم الدين شقير مقدّم البريدية. فدخل قلعته يوم السبت ثالث عشر المحرم، ولم يشعر الناس إلا وهو داخل من باب القلعة، فدخل وتوجه إلى الميدان ولعب الكرة، وكتب إلى الأمراء المقيمين بالشام أنه سطرها من البيرة، وسير علائم بخطه ليكتب عليها أجوبة البريد من دمشق إلى الأطراف. وكان الأمير سيف الدين الدوادار بقلعة دمشق لتجهيز الكتب والبريد. وفى يوم الثنين توجه إلى مصر وركب فى البحر ولعبت الشوانى. وفى ليلة الأربعاء سابع عشرين المحرم جهز العسكر المجرد إلى الشام،
وتوجه هو إلى الشام فى ليلة التاسع والعشرين من الشهر هو ومن كان معه من الأمراء. ووصل إلى دمشق فى ثالث صفر، ودخل قلعتها ليلا.
وحضر إليه رسل أبغا وكان مضمون مشافهتهم طلب الاتفاق.
ثم توجه السلطان إلى قلعة البيرة عند ما نازلها التتار. وكان من انهزامهم ما نذكره إن شاء الله تعالى فى الغزوات والفتوحات.
ثم عاد السلطان إلى الديار المصرية فدخل قلعته فى الخامس والعشرين من جمادى الآخرة سنة إحدى وسبعين وستمائة.
وفى السابع والعشرين من الشهر: أفرج عن الأمير عز الدين الدمياطى «1» وأنزله بدار الوزارة ورتب له الرواتب، وكان فى الإعتقال من شهر رجب سنة إحدى وستين وستمائة.
وفى شهر رجب: خلع السلطان على الأمراء والوزراء والقضاة «2» والمقدمين، وعم بذلك المسافرين والمقيمين.
وفى هذه السنة: نجزت عمارة قبة الصخرة الشريفة «3» ، وذلك فى يوم عرفة، وكان السلطان قد توجه إليها وجميع الصناع لعمارتها كما قدمناه.
ذكر اعتقال الشيخ خضر «4» والأسباب التى أوجبت ذلك
وفى يوم الاثنين ثانى عشر شوال سنة إحدى وسبعين: أحضر الشيخ خضر
ابن أبى بكر بن موسى العدوى المهرانى شيخ السلطان إلى قلعة الجبل، وأحضر جماعة خانقوه على أشياء كثيرة منها اللواط والزنا وغيره، فتقدم أمر السلطان باعتقاله. وكان سبب ذلك أنه تعاطى أمورا منكرة وأفحش، ثم شرع يغض من الأمير بدر الدين بيليك الخزندار نائب السلطنة، والصاحب بهاء الدين، وانتقل إلى حد المهاجرة لهما بالقول بحضرة السلطان، وهو أن السلطان أطلق له شيئا فتوقف الأمير بدر الدين فى إمضائه، فقال له بين يدى السلطان:«كأنك تشفق على السلطان وعلى أولاده، كما فعل قطز بأولاد الملك المعز» . فخشى عاقبة ذلك.
فاتفق هو والصاحب بهاء الدين على التدبير عليه وإطلاع السلطان على ما خفى عنه من حقيقة حاله، ووافقهما على ذلك الأمير عز الدين أيدمر نائب السلطنة بالشام، ورتبه، وذلك أنه طلب إسماعيل ومظفر نائبه بدمشق وآخر من أتباعه اسمه محمد بن بطيخ وتهددهم أولا، ثم وعدهم أنهم متى اعترفوا على شيخهم بما يعتمده أحسن إليهم وجعل لهم الرواتب. فذكروا عنه أشياء كثيرة وأشهدوا على أنفسهم بذلك. فكاتب السلطان فى أمره، فأمر بإرسالهم على خيل البريد فأرسلوا. ولما حضروا بين يدى السلطان سمع كلامهم. ثم أحضره وقال له:
«هؤلاء نوابك بالشام، ما تقول فيهم؟» فذكر من خبرهم وصدقهم وأنه رضى بما يقولونه فيه. فذكروا عنه من القبائح والمنكرات وارتكاب المحرمات شيئا كثيرا، وخانقوه على ذلك. فأطلقهم السلطان وأمر بإيقاع الحوطة على موجوده.
وحكى الشيخ قطب الدين اليونينى فى تاريخه: أنه لما حضر أولئك لمخانقته كان ذلك بحضور الأمير فارس الدين أقطاى المستعرب الأتابك، والأمير سيف الدين قلاون، والأمير بدر الدين بيسرى، والأمير سيف الدين قشتمر
العجمى، فخانقه أصحابه على كل عظيمة لا تصدر من مسلم. فقال:«ما أعرف ما تقولون. ومع هذا، أنا ما قلت إنى رجل صالح، أنتم قلتم هذا. فإن كان الذى تقولون صحيح فأنتم كذبتم» . فقام السلطان وقال للأمراء: «قوموا بنا لئلا نحترق بمجاورته» . فقاموا وانتقلوا إلى طرف الإيوان. فاستشار السلطان الأمراء فى أمره، فقال له الأتابك:«هذا مطلع على أسرار الدولة وبواطن أحوالها وما ينبغى إبقاؤه، ووافقه من حضر من الأمراء على هذا الرأى، وقالوا: ببعض ما قيل عنه يباح دمه. ففهم ما هم فيه، فقال للسلطان: «اسمع ما أقول لك، أنا أجلى قريب من أجلك، وما بينى وبينك إلا مدة أيام يسيرة، من مات منا لحقه الآخر عن قريب» . فلما سمع السلطان كلامه وجم، وقال للأمراء:«ما تشيرون فى هذا» ؟ فسكتوا. فقال السلطان: «أرى أن يحبس فى مكان لا يصل إليه أحد ولا يسمع كلامه، فيكون كمن قبر وهو حى» . ثم أمر به فحبس فى مكان منفرد بقلعة الجبل، ولم يدخل إليه إلا من يثق السلطان به غاية الوثوق. وكان يرسل إليه الأطعمة الفاخرة والفواكه والملابس، واستمر فى الإعتقال إلى أن توفى فى سنة ست وسبعين وستمائة قبل وفاة السلطان بأحد وعشرين يوما. وسنذكر إن شاء الله تعالى، مبدأ أمره وسياقة أخباره عند ذكر وفاته.
وفيها: هرب الأمير عمرو بن مخلول من آل فضل من قلعة عجلون هو وحامد رفيقه. وكان السلطان قد اعتقلهما فى برج من أبراج القلعة، فحفر حفيرة ملاصقة للسور ووقدوا النار حتى تكلس حجر السور، فنقباه وخرجا منه، وقد كانت أعدت لهما خيل سوابق فركباها وتوجها إلى بلاد التتار، ثم ندما على ما فعلاه، فكتبا إلى السلطان يسألان مراحمه، فحلف أنه لا يرضى عنهما إلا أن
يعودا الى قلعة عجلون ويضعا أرجلهما فى القيود على ما كانا عليه، ففعلا ذلك.
وكان عودهما من بلاد التتار فى ذى الحجة سنة اثنين وسبعين وستمائة. ولما رجعا إلى الطاعة وفعلا ما أمر السلطان به عفا عنهما وأطلقهما وأحسن إليهما.
وفى هذه السنة فى رابع عشرين ذى الحجة: توفى الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك الفائز إبراهيم بن الملك السلطان العادل سيف الدين أبى بكر محمد بن أيوب، رحمهم الله تعالى، فى معتقله بجب خزانة البنود، ودفن بتربتهم بالقرافة بجوار الإمام الشافعى. ومولده فى صفر سنة ست وستمائه، رحمه الله تعالى «1» .
وفيها: كانت وفاة الأمير سيف الدين محمد بن الأمير مظفر الدين عثمان ابن الأمير ناصر الدين منكورس بن بدر الدين خمردكين «2» صاحب صهيون وبرزية فى شهر ربيع الأول. وكانت وفاته بصهيون وقد ناف على ستين سنة، ودفن بتربة والده. وتسلم صهيون وبرزية بعده ولده الأمير سابق الدين سليمان، ثم أخذهما السلطان منه فى هذه السنة على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها: كانت وفاة الحافظ الخطيب فخر الدين أبى محمد وأبى الفرج عبد القاهر ابن الشيخ علاء الدين عبد الغنى بن محمد بن تيمية الحرانى. وكانت وفاته بدمشق فى ثانى عشر شوال من هذه السنة. ودفن بمقابر الصوفية. ومولده فى سنة ثنتى عشرة وستمائة، سمع الحديث من جده ومن ابن اللتى، وخطب بجامع حران وكان فاضلا دينيا، وهو من بيت معروف بالعلم والفضيلة، رحمه الله تعالى «3» .