الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وامتلأت بالعساكر، وتوجه إلى طرابلس على جهة جبال الطنيين «1» ، وكان البرنس قد وعّر الطرقات، فوصل السلطان فى نصف شعبان وملك هذه الجبال التى يقول فيها المتنبى:
وجبال لبنان وكيف بقطعها
…
وهو الشتاء وصيفهن شتاء
لبس الثلوج بها علّى مسالكى
…
فكأنها ببياضها سوداء
وخيم السلطان قريبا من طرابلس واستمر على الركوب إليها، والعساكر تناوش [أهلها] القتال ويرامونهم «2» بالنشاب، وافتتح برجا قد عصى فيه جماعة من الفرنج [و] ضرب رقابهم، وجرد جماعة خربوا الحرث ونهبوا تلك الجبال وأخذوا عدة مغاير بالسيف، وقطعت الأشجار وهدمت الكنائس وقنى المياه والقناة الرومانية، وقسم السلطان الغنائم فى العساكر ورحل عن طرابلس فى العشر الآخر من شعبان من السنة.
ذكر فتوح أنطاكية
«3»
لما رحل السلطان عن طرابلس لم يطلع أحدا على الجهة التى يقصدها، فتوجه إلى حمص فى سابع وعشرين شعبان. وأمر ببناء مسجد بحمص، ولما وصل إلى حماة رتب العساكر ثلاث فرق: فرقة صحبة الأمير بدر الدين الخزندار، وفرقه مع الأمير عز الدين إيغان، وفرقة صحبة الركاب السلطانى.
فتوجه الأمير بدر الدين الخزندار إلى السويدية، وتوجه الأمير عز الدين إيغان إلى الدرب ساك، فقتلوا وأسروا. وتوافوا جميعهم بأنطاكية، ونزل السلطان أفامية، ومنها إلى جسر تحت الشغر وبكاس، وأصبح مغيرا على أنطاكية وذلك فى مستهل شهر رمضان.
وتقدم فى الجاليش «1» الأمير شمس الدين أقسنقر أستاد الدار، فصادف جماعة من عسكر أنطاكية وأنتشبت الحرب بينهم، فحمل أحد أجناد الأمير شمس الدين أقسنقر وهو فلان الدين المظفرى على كنداسطبل «2» فأسره وأحضره إلى السلطان، فأمّره السلطان وأحسن إليه. وأطافت العساكر بأنطاكية من كل جانب.
وكان النزول عليها بالخيام والثقل، بكرة يوم الجمعة ثالث شهر رمضان «3» سنة ست وستين وستمائة. ولما حضر كنداسطبل إلى السلطان رآه رجلا عاقلا، فسأل أنه يدخل إلى أنطاكية ويتوسط لأهلها، فجرى السلطان على عادته فى الإنذار قبل المهاجة. فسيّر كنداسطبل [من «4» ] أحضر ولده رهينة، ودخل البلد وتحدث، وخرج مع جماعة من القسيسين والرهبان، وأقاموا يترددون ثلاثة أيام فظهر منهم قوة نفس وخوف من صاحبهم البرنس. وفى بكرة السبت أنذرهم بالزحف، وصبر حتى دخل الأقساء والرهبان إلى أنطاكية، ورسم بالزحف. فزحفت العساكر وأطافت بالمدينة والقلعة على اتساعها، وقاتل أهلها قتالا شديدا. فتسور
المسلمون الأسوار من جهة الجبل بالقرب من القلعة ونزلوا المدينة، فهرب أهلها إلى القلعة. وشرعت العساكر فى النهب والقتل والأسر، وما رفع السيف عن أحد من الرجال بالمدينة، وكان بها فوق المائة ألف نفر. وأخذ التركمان من الغنائم ما لا يحصى. ثم رسم السلطان بحفظ أبواب المدينة والإحتراز عليها.
وأما القلعة فاجتمع فيها ثمانية آلاف مقاتل غير الحريم والأولاد، فتحاشروا بها فمات عالم. وأما البالى «1» والوزير الوالى فإنهم لما شاهدوا هذا الحال هربوا رجالة فى الليل، تدلوا بالحبال، وأصبح أهل القلعة فما وجدوا أحدا منهم، ولم يكن بالقلعة ماء ولا طواحين تكفيهم. فسيروا يوم الأحد ثانى يوم الفتح يطلبون الأمان من القتل وأنهم يؤخذون أسرى. فللوقت طلع السلطان فصادف جميع من فى القلعة قد خرج إلى ظاهرها وعليهم الملابس الحسنة واستغاثوا للسلطان، فعفا عنهم من القتل، وأحضرت الحبال فربطوا بها، وتسلم كل أمير جماعة من الأسرى، وكذلك كل مقدم، والكتاب ينزلون ذلك، وكتبت كتب البشائر، ومن جملتها كتاب إلى صاحب انطاكية «2» : نسخته بعد البسملة:
المنتقلة مخاطبته بأخذ أنطاكية [منه] من البرنسية إلى القومصية، ألهمه الله رشده، وقرن بالخير قصده، وجعل النصيحة محفوظة عنده. ما كان من قصدنا طرابلس وغزونا له فى عقر الدار، وما شاهده بعد رحيلنا من إخراب العمائر، وهدم الأعمار، وكيف كنست تلك الكنائس من بساط الأرض، ودارت الدوائر على كل دار، وكيف جعلت تلك الجزائر من الأجساد على ساحل البحر كالجزائر، وكيف قتلت الرجال، واستخدمت الأولاد، وتملكت الحرائر، وكيف قطعت الأشجار، ولم يترك إلا ما يصلح لأعواد المجانيق [إن شاء الله] والستائر، وكيف نهبت لك ولرعيتك الأموال والحريم والأولاد والمواشى، وكيف استغنى الفقير وتأهل العازب «1» واستخدم الخديم وركب الماشى» .
«هذا وأنت تنظر المغشى عليه من الموت، وإذا سمعت صوتا قلت فزعا:
على هذا الصوت «2» ، وكيف رحلنا عنك رحيل من يعود، وأخرناك وما كان تأخيرك إلا لأجل معدود. وكيف فارقنا بلادك، وما بقيت ماشية إلا وهى لدينا ماشية، ولا جارية إلا وهى فى ملكنا جارية، ولا سارية إلا وهى فى أيدى المعاول سارية، ولا زرع إلا وهو محصود، ولا موجود لك إلا وهو منك مفقود، ولا منعت تلك المغاير «3» التى هى فى رءوس الجبال الشاهقة، ولا تلك الأودية التى هى فى التخوم مخترفة وللعقول خارقة. وكيف سقنا عنك ولم يسبقنا إلى مدينتك أنطاكية خبر.
وكيف وصلنا إليها وأنت لا تصدق أننا تبعد عنك، وأن بعدنا فسنعود على الأمر. وها نحن نبلغك بماتم، ونفهمك بالبلاء الذى عم» .
«كان رحيلنا عنك [و «1» ] عن طرابلس يوم الأربعاء رابع عشرين شعبان، ونزولنا أنطاكية فى مستهل شهر رمضان. وفى حالة النزول خرجت عساكرك المبارزة فكسروا، وتناصروا فما نصروا، وأسر من بينهم كنداسطبل، فسأل مراجعة أصحابك. فدخل إلى المدينة، فخرج هو وجماعة من رهبانك وأعيان أعوانك فتحدثوا معنا، فرأيناهم على رأيك فى إتلاف النفوس بالغرض الفاسد، وأن رأيهم فى الخير مختلف، وقولهم فى الشر واحد، فلما رأيناهم قد فات فيهم الفوت، وأنهم قد قدر الله عليهم الموت رددناهم وقلنا:«نحن الساعة لكم نحاصر، وهذا هو الأول فى الإنذار والآخر» فرجعوا متشبهين بفعلك ومعتقدين أنك تدركهم بخيلك ورجلك، ففى بعض ساعة مر شأن المرشان، وداخل الرهب الرهبان، ولان للبلاء القسطلان، وجاءهم الموت من كل مكان» .
«وفتحناها بالسيف فى الساعة الرابعة من يوم السبت رابع شهر رمضان، وقتلنا كل من أخترته لحفظها والمحاماة عنها، وما كان أحد منهم إلا وعنده شىء من الدنيا، فما بقى أحد منا إلا وعنده شىء منهم ومنها. فلو رأيت خيّالتك وهم صرعى تحت أرجل الخيول، وديارك والنهاية فيها تصول، والكسّابة فيها تجول، وأموالك وهى توزن «2» بالقنطار، وداماتك «3» وكل أربع منهن تباع، فتشترى من مالك بدينار، ولو رأيت كنائسك وصلبانها قد كسرت
ونشرت، وصحفها من الأناجيل المزورة قد نثرت «1» ، وقبور البطارقة قد بعثرت.
ولو رأيت عدوك المسلم وقد داس مكان القداس والمدبح، وقد ذبح فيه الراهب والقسيس والشماس، والبطارقة وقد دهموا بطارقة، وأبناء الملوك وقد دخلوا فى المملكة. ولو شاهدت النيران وهى فى قصورك تخترق، والقتلى بنار الدنيا قبل الآخرة تحترق، وقصورك وأحوالها قد حالت، وكنيسة بولص وكنيسة القسيان قد زلّت كل منها وزالت، لكنت تقول:«يا ليتنى كنت ترابا، ويا ليتنى لم أوت بهذا الخبر كتابا» ، ولكانت نفسك تذهب من حسرتك، ولكنت تطفى تلك النيران بماء عبرتك. ولو رأيت مغانيك وقد أقفرت من معانيك، ومراكبك «2» وقد أخذت فى السويدية «3» بمراكبك، فصارت سوانيك من من شوانيك، لتيقنت أن الإله الذى أنطاك «4» أنطاكية منك استرجعها، والرب الذى أعطاك قلعتها منك قلعها، ومن الأرض أقتلعها. ولتعلم أنا قد أخذنا بحمد الله منك ما كنت أخذته من حصون الإسلام وهو: دير كوش، وشقيف تلميس، وشقيف كفردنين، وجميع ما كان من بلاد أنطاكية، [و]«5» استنزلنا أصحابك من الصياصى وأخذناهم بالنواصى، وفرقناهم فى الدانى والقاصى، ولم يبق شىء يطلق عليه اسم العصيان إلا النهر، فلو استطاع لما سمى بالعاصى، وقد أجرى دموعه ندما، وكان يذرفها عبرة صافية، فهو أجراها بما سفكناه فيه دما» .