الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عمر أعتمر بها بمكة الملك بركة. وسير معه قمقمان من ماء زمزم، ودهن بلسان وغير ذلك.
وفى ذى القعدة وصل الأمير جمال الدين النجيبى نائب السلطنة بالشام فتحدث السلطان «1» معه فى مهمات، وكتب على يده تذكرة «2» ، وعاد فى ذى الحجة.
ذكر تفويض القضاة لأربعة حكام
«3»
وفى ذى القعدة سنة ثلاث وستين وستمائة فوض السلطان القضاء بالقاهرة والديار المصرية لأربعة قضاة، لكل مذهب قاض. وسبب ذلك أن الأمير جمال الدين أيدغدى العزيزى كان يكره قاضى القضاة تاج الدين بن بنت الأعز ويغض منه عند السلطان لتثبته فى أحكامه وتأنيه «4» واحترازه، فاتفق أن السلطان جلس بدار العدل فقدمت له قصة من بيت الملك الناصر تتضمن أنهم ابتاعوا دارا من القاضى بدر الدين السنجارى وأن ورثته بعد وفاته ادعوا أنها وقفت قبل ذلك، فأخذ الأمير جمال الدين أيدغدى ينتقص المتعممين فقال السلطان للقاضى تاج الدين:«هكذا تكون القضاة؟» . فأجابه بالآية: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى *
«5» . قال: «فكيف العمل فى هذا؟» . قال: «إذا ثبت الوقف يستعاد
الثمن من الورثة من مال مورثهم» . فقال السلطان: «فإن عجزوا عن الثمن؟» قال: «الوقف باق على أصله» . فامتعض السلطان لذلك. فلم يتم الكلام حتى تقدم رسول صاحب المدينة النبوية وقال: «حملت كتاب السلطان إلى قاضى القضاة أن يسلم إلى المال الذى تحت يده من الوقف؛ لأنفقه فى فقراء أهل المدينة، فلم يفعل» . فسأل السلطان القاضى عن ذلك. فقال: «صدق هذا الرجل، أنا لا أعرفه، ولا أسلم المال إلا لمن أعرفه وأثق بدينه وأمانته، فإن تسلمه السلطان أحضرته بين يديه» . فقال السلطان: «تخرجه من عنقك وتجعله فى عنقى، لا تسلم المال إلا لمن تختاره وترضاء» . وتقدم بعض الأمراء فى المجلس وشكى من القاضى تاج الدين فى قضية آخرى هى شهادة «1» لم يثبتها لبعض أولاد خوشد اشيته فقال القاضى: «لم تأتنى بينة» «2» . فقال الأمير: حضرت البينة فلم تسمعها. فسأله السلطان عن امتناعه من سماع البينة. قال: «لا حاجة إلى ذكر الجواب» .
فقال الأمير جمال الدين أيدغدى العزيزى للقاضى نحن نترك مذهب الشافعى لك ويولى السلطان من كل مذهب قاضيا «3» ، فرجع السلطان إلى قوله، وفوض النظر فى الأحكام والقضايا إلى حكام أربعة «4» وهم: قاضى القضاة تاج الدين عبد الوهاب المشار إليه، قاضى الشافعية. والشيخ شرف الدين أبو حفص عمر بن عبد الله ابن صالح بن عيسى السبكى، قاضى المالكية، والقاضى صدر الدين سليمان قاضى الحنفية والشيخ شمس الدين محمد بن الشيخ عماد الدين إبراهيم المقدسى،
قاضى الحنابلة. وجعل لهم السلطان أن يولوا فى الأعمال نوابا عنهم. وخص قاضى القضاة، تاج الدين الشافعى، بالنظر فى أموال الأيتام والأوقاف بمفرده بالديار المصرية، بتقليد سلطانى نسخته بعد البسملة، ومثال العلامة السلطانية بين السطرين المستعلى بالله.
«وبعد: فإن أحق من استوعبت كليات المحامد له بالتبعيض، وطافت الممادح من كعبة العلم بركن منه طواف المفرض لا طواف المفيض وخلد له إرضاء الأحكام وإمضاء النفويض، وريش جناحه وإن لم بك بالمهيض، وفسح مجاله وإن كان الطويل العريض، ورفع قدره على الأقدار، وتقسمت من سحائبه الأنواء، ومن أشعته الأنوار، ووغزر مدّه فجرت منه فى رياض الرشد الأنهار، وغدا تخشع لتقواه القلوب، وتنصب لفتواه الأسماع وترنو لمحياه الإبصار، من أوفد من إرشاده للامة وللائمة لطفا فلطفا، وأوقد من علمه جذوة لا تخبو، ومن عدله قبسا بالهوى لا يطفأ، وفات النظراء والنظار فلا يرسل أحد
معه طرفا، ولا يمد إليه حياء منه طرفا، وقد جاز واحتوى من العلوم على ما تفرق فى غيره وغدا «1» خير دليل إلى الحق، فلا يقتدى فى المشكلات إلا برأى اجتهاده، ولا يهتدى فى المذاهب إلا بسيره، وأصبح لفلك الشريعة المحمدية قطبا، ولجثمانها قلبا ولسوارها قلبا، وأضحى لدليلها برهانا، ولإنسانها عينا، ولعينها إنسانا، فكم أرضى بعدله وفضله بنى الأيام عن الأيام، وكم أغضى مع قدرته على الانتقام، وكم أمضى حكما لا انفصال لعروته ولا انفصام، وكم أفضى بالجور إلى ماله وبالعدل إلى الأيتام، فلو استعداه الليل على النهار لأنصفه من تعديه، ولم يداجه لكونه يستر عليه تعبده فى دياجيه، فهو الحاكم بالحق ولو على نفسه، والمسترد الحقوق الذاهبة حتى لغده من يومه وليومه من أمسه.
«خرج الأمر العالى المولوى السلطانى الملكى الظاهرى الركنى، لا زال ماضيا وبالسداد قاضيا: بتجديد هذا التقليد الشريف له بقضاء القضاة بالديار المصرية فليحكم جميعها بما أراه الله من مذهب الإمام المطلبى محمد بن إدريس الشافعى، رضى الله عنه، وأموالى اليتامى على اختلاف أجناسها هى ودائع الأموات، وذخائر كل ممنوع من التصرفات، وقد أوصى الله بها، واوسع المتعدى عليها إنكارا وتحذيرا، وخوف من أكلها ظلما، فقال جل وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً
» «1» .
وقد رأينا أن نخصص المجلس السامى بالنظر فى جميع أمورها واذ قد غدت ذخر كل منقطع فنجعله من ذخرها، فلينظر «2» فى جميع أموال الأيتام على اختلاف أجناسها بالقاهرة ومصر المحروستين والديار المصرية بمفرده وبمن يستنيبه عنه، وليحطها بنظره، ويضبطها بحسن تأثيره وأثره، وكذلك ما يختص بمذهبه من الجوامع والمناصب والمساجد والربط والتصديرات والأوقاف، ينظر فى جميعها ويولى فى أصولها وفروعها، والأوقاف العامة من الصدقات وغيرها، ينظر فيها بنفسه وبنوابه، حافظا لأمورها وملاحظا لتدبيرها، ومجتهدا فى صلاحها وتثميرها، وليستصحب من ذلك ما هو ملى باستصحابه. وليستمر على إقامة منار الحق الذى هو موثق عراء ومؤكد أسبابه، عالما بأن كل إنارة أضأتها من قبسه وأن استضأنا بها فى دياجى المنى، وكل ثمرة من مغترسه وإن مددنا إليها يد الاجتنا، وكل جدول هو من بحره وإن بسطت إليه راحة الاغتراف وكل منهج هو من جادته وإن ثنيت البه أعنة الاستطلاع للافادة والاستكشاف
وهو بحمد الله المجتهد المصيب، والمادة للعناصر وإن كان يصيبه منها أوفر تصيب، والصادق الذى ينبىء بالحق إذا وامرته «1» المراسيم، ولا ينبؤك مثل خبير، ووصاياه منها يسترشد، فلا يفاوض فيها، ومنه تتعلم فلا نكرر عليه ما يستفاد منه من معانيها، والله تعالى يسد بأحكامه الذريعة، ويحمى به حمى الشريعة إن شاء الله تعالى، وكتب فى ثامن وعشرين ذى القعدة سنة ثلاث وستمائة بالاشارة العالية المولوية الأتابكية الفارسية وأعزها الله، الحمد الله وحده وصلاته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه» .
ولما فوض السلطان القضاء بالديار المصرية لحكام أربعة، فعل مثل ذلك بدمشق «2» ، وجهز التقاليد إلى الحكام الذين وقع الاختيار عليهم، وهم: القاضى شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان الشافعى، على عادته، والشيخ زين الدين عبد السلام الزواوى المالكى قاضى المالكية، والقاضى شمس الدين عبد الله ابن محمد بن عطاء الأذرعى الحنفى قاضى الحنيفة، والشيخ شمس الدين عبد الرحمن ابن الشيخ أبى عمر الحنبلى قاضى الحنابلة، ووصلت تقاليدهم بذلك فى سادس جمادى الأول سنة أربع وستين وستمائة، فامتنع المالكى والحنبلى من قبول الولاية والدخول فى باب القضاء، فطولع السلطان بذلك، فورد جوابه بالزامهما، وأنهما إن استقرا على الامتناع وصمما عليه يعزلا عما بأيديهما من المناصب ويخرجا من بلاد السلطان، فقيلا الولاية، وامتنعا من قبول المعلوم المقرر للقضاة وقالا: