الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واستهلت سنة أربع وستين وستمائة
فى هذه السنة توجه الملك السلطان الظاهر إلى الشام فى مستهل شعبان «1» ، واستناب بقلعة الجبل الأمير عز الدين أيدمر الحلى، وجعله فى خدمة ولده الملك السعيد هو والصاحب بهاء الدين، وتوجه، وكان فى سفرته هذه من فتوح صفد والغارات على بلاد الفرنج ما نذكره، إن شاء الله تعالى.
ذكر عمارة جسر دامية
«2»
وفى جمادى الأول سنة أربع وستين وستمائة، رسم السلطان ببناء جسر على نهر الأردن، وهو النهر الذى يشق غور الشام، ويسمونه الشريعة. وهذا الجسر هو بقرب دامية، فيما بينها وبين فراوى. واتفق فيه أعجوبة لم يسمع بمثلها: وذلك أن السلطان ندب الأمير جمال الدين بن نهار المهندار لعمارته، ورسم أن يكون خمس قناطر، واجتمع الولاة لذلك ومنهم: الأمير بدر الدين محمد بن رحال متولى نابلس وحصلوا الأصناف وجمعوا الصناع، وعمروه على ما رسم به السلطان. فلما تكاملت عمارته وتفرق ذلك الجمع اضطرب بعض أركان الجسر، فقلق السلطان لذلك وأنكر عليهم وأعادهم لإصلاح ذلك. فتعذر عليهم لزيادة الماء وقوة جريانه، فأقاموا كذلك أياما وقد تيقنوا العجز عنه.
فلما كان فى الليلة المسفرة عن السابع عشر من شهر ربيع الأولى سنة ست وستين
انقطع ماء الشريعة حتى لم يبق بها شىء منه، فتبادروا وأشعلوا النيران الكثيرة والمشاعل واغتنموا هذه الحادثة وأصلحوا الأركان وقووها، وأصلحوا منها ما لا كان يمكن عمله. وركبوا من يكشف خبر هذه الحادثة، فساقوا الخيل فوجدوا كتارا «1» مرتفعا كان يشرف على الشريعة من الجانب الغربى، والكتار شىء يشبه الجبل وليس بحبل لأن الماء يحله بسرعة كالطين، قد سقط فى الشريعة فسدها، وانسكر الماء وتحامل على جهة الغور مما وراء السكر، قعادوا بالخبر، وانقطع الماء من نصف الليل إلى الرابعة من النهار، ثم تحامل الماء وكسر ذلك الكتار، وجاء طول رمح فلم يؤثر فى ذلك البناء لإتقانه، وحمل الماء ما كان هناك من آلات العمارة. وهذه الحادثة من عجائب الاتفاق. وهذا الجسر باق إلى وقتنا هذا.
وفى جمادى الأولى أيضا تكاملت عمارة الدار الجديدة «2» المرسوم بعمارتها عند باب السر المطل على سوق الخيل. وعمل بها دعوة للأمراء.
وفى هذه السنة اهتم السلطان بحفر خليج الإسكندرية، وندب الأمير علم الدين المسرورى لذلك. ثم توجه السلطان بنفسه وباشر الحفر وأزيلت الرملة التى كانت على الساحل بين النقيدى وفم الخليج، ثم عدى إلى برأبيار، وغرق المراكب هناك وبنى عليها بالحجارة، ثم رجع إلى القاهرة.
وفى شهر رمضان من السنة وصل إلى دمشق ولد الخليفة المستعصم بالله المسمى بالمبارك «3» الذى كان عند هولاكو، وصحبته جماعة من أمراء العربان.
فأنزله الأمير جمال الدين النجيبى فى أعز مكان. فلما وصل السلطان إلى دمشق سير إليه جمال الدين بن الدوادار والطواشى مختار، فما عرفاه. وظهر أنه بخلاف ما ادعاه، فسير إلى مصر تحت الاحتياط.
وفى ذى القعدة وصل شخص آخر أسود ادعى أنه من أولاد الخلفاء، فسير إلى مصر أيضا.
ذكر الوثوب على الأمير عز الدين الحلى «1» وضربه بالسكين وسلامته وقتل الأمير صارم الدين المسعودى
قال: لما كان فى يوم الاثنين منتصف ذى الحجة سنة أربع وستين وستمائة جلس الأمير عز الدين الحلى بدار العدل، ومعه الصاحب بهاء الدين والقضاة، وإذا بإنسان يخترق الصفوف- وبيده قصة-، فوقف قدامه، وكان بيده سكين بين أثوابه، فضرب بها حلق الأمير عز الدين. فأمسكها بيده فجرحت يده، ثم رفسه برجله ونام على ظهره وقصد أن يضربه مرة أخرى أو يضرب الصاحب.
فلما رفع يده جاءت السكين فى فؤاد الأمير صارم الدين قايماز المسعودى فمات لساعته. وكان فخر الدين متولى الجيزة حاضرا فأمسكه ورماه. فوقع على قاضى القضاة، وضرب بالسيوف فمات. وعرف الضارب أنه من الجانداريه.
وكانت به شعبة من الجنون. ولما وصل الخبر بسلامة الحلى إلى السلطان وهو راجع من أفامية أعطى مملوك الحلى ألف دينار عينا، وأعطى رفيقه ثلاثة آلاف درهم، وأحسن إلى ورثة المسعودى.
وفى هذه السنة فتحت صفد على ما نذكره، إن شاء الله تعالى. ورجع السلطان منها إلى دمشق، وأنعم على أمرائها وقضاتها وأرباب المناصب بالتشاريف.
ونظر السلطان فى أمر الجامع الأموى ومنع من مبيت الفقراء «1» به.
وفيها: أبطل السلطان ضمان الحشيشة وأمر بتأديب أهلها «2» .
وفيها: فى ثالث ذى القعدة توفى الأمير كرمون أغا بدمشق بعد منصرفه من فتح صفد «3» فشهد السلطان جنازته، ودفن برأس ميدان الحصا عند قباب التركمان.
وفيها: فى ليلة عرفة، كانت وفاة الأمير جمال الدين أيدغدى العزيزى «4» وكان قد جرح على صفد وبقى مدة والألم يتزايد به إلى أن مات، رحمه الله تعالى.
وكان من أكابر الأمراء، وسمع الحديث، وحدّث، وكان مشهورا بالشجاعة والكرم والديانة وسعة الصدر وكثرة الصدقة، وكان قد رتب على نفسه صلة للفقراء من أرباب البيوت والزوايا فى كل سنة تزيد على مائة ألف درهم وألوف أراد ب غلة، هذا غير صدقاته. وكان مقتصدا فى ملبسه يلبس الثياب القطن من الهندى والبعلبكى وغيره مما يباح ولا يكره لبسه. وكان من السلطان بالمنزلة العلية لا يخرج عن رأيه ومشورته سيما فى الأمور الدينية وأحوال
القضاة. ومما يدل على ذلك: ما تقدم «1» من إشارته بتولية الحكم لأربعة قضاة.
فرجع السلطان فى ذلك إلى رأيه، وفعله لوقته. وكان رحمه الله من حسنات الزمان، وقد ختم له بالشهادة، فإنه مات من ألم تلك الجراحة. ودفن فى مقبرة الملك النساصر بسفح قاسيون، رحمه الله.