الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل:
فى أحكامِ المَفْقُودِ، إذا غاب الرجلُ عن امرأتِه، لم يَخْلُ من حالَيْنِ؛ أحدهما، أن تكونَ غَيْبَةً غيرَ مُنْقَطِعةٍ، يُعْرَفُ خَبَرُه، ويأْتِى كِتابُه، فهذا ليس لِامْرَأتِه أن تتَزَوَّجَ فى قولِ أهلِ العلمِ أجْمَعِينَ، إلَّا أن يتَعَذَّرَ الإِنْفاقُ عليها من مالِه، فلها أن تَطْلُبَ فَسْخ النكاحِ، فيُفْسَخَ نكاحُه. وأجْمَعُوا على أنَّ زَوْجةَ الأسِيرِ لا تَنْكِحُ حتى تَعْلَمَ يَقِينَ وَفاتِه. وهذا (32) قولُ النَّخَعِىِّ، والزُّهْرِيِّ، ويحيى الأنْصاريِّ، ومَكْحولٍ، والشافعىِّ، وأبي عُبَيْدٍ، وأبي ثَوْرٍ، وإسحاقَ، وأصْحابِ الرَّأْىِ. وإن أَبَقَ العَبْدُ، فزَوْجَتُه على الزَّوْجِيَّةِ، حتى تَعْلَمَ مَوْتَه أو رِدّتَه. وبه قال الأوْزَاعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، والشَّافعىُّ، وإسْحاقُ. وقال الحسنُ: إباقُهُ طَلَاقُه. ولَنا، أنَّه ليس بمَفْقودٍ، فلم يَنْفَسِخْ نِكاحُه، كالحُرِّ، ومَنْ تَعَذّرَ الإِنْفاقُ من مالِه على زَوْجَتِه، فحُكْمُها فى الفَسْخِ حكمُ ما ذكرْنا، إلَّا أن العَبْدَ نَفَقَةُ زَوْجَتِه على سَيِّدهِ، أو فى كَسْبِه، فيُعْتَبرُ تَعَذُّرُ الإِنْفاقِ من مَحَلِّ الوُجُوبِ. الحال الثانى، أن يُفْقَدَ، ويَنْقَطِعَ خَبَرُه، ولا يُعْلمَ له مَوْضِعٌ، فهذا ينقسمُ قِسْمَينِ؛ أحدهما، أن يكونَ ظاهِرُ غَيْبَتِه السلامةَ، كسَفَرِ التِّجارةِ فى غيرِ مَهْلَكةٍ، وإباقِ العَبْدِ، وطَلَبِ العِلْمِ والسّياحةِ، فلا تزُولُ الزَّوْجِيَّةُ أيضًا، ما لم يَثْبُتْ مَوْتُه. رُوِىَ (33) ذلك عن عليٍّ. وإليه ذَهَبَ ابنُ شُبْرُمةَ، وابنُ أبي لَيْلَى، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ، والشافعىُّ فى الجديدِ. ورُوِىَ ذلك عن أبي قِلَابةَ، والنَّخَعِىِّ، وأبي عُبَيْدٍ. وقال مالكٌ، والشافعىُّ فى القديمِ: تتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ، وتَعْتَدُّ للوَفاةِ أَرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا، وتَحِلُّ للأزْواجِ؛ لأنَّه إذا جاز الفَسْخُ لتَعَذُّرِ الوَطْءِ بالعُنَّةِ، وَتَعَذُّرِ النفقةِ بالإِعْسارِ، فلأَنْ يجوزَ ههُنا لتَعَذُّرِ الجميعِ أَوْلَى، واحْتَجُّوا بحديثِ عمرَ فى المفقودِ، مع مُوَافقةِ الصَّحابةِ له، وَترْكِهِم إنْكارَه. ونَقَلَ أحمدُ بن أصْرَمَ (34)، عن أحمدَ: إذا مضَى
(32) سقطت الواو من: أ، ب.
(33)
فى ب، م:"وروى".
(34)
أحمد بن أصرم بن خزيمة المزنى، سمع من الإِمام أحمد وغيره، وكان بصريا، قدم مصر وكُتب عنه، وخرج عنها فتوفى بدمشق، فى سنة خمس وثمانين ومائتين. طبقات الحنابلة 1/ 22.
عليه تِسْعُونَ سنةً، قُسِّمَ مالُه. وهذا يقَتْضِى أنَّ زَوْجَتَه تَعْتَدُّ عِدّةَ الوَفاةِ ثم تتزوَّجُ. قال أصحابُنا: إنَّما اعْتَبَرَ تِسْعِينَ سنةً من يوم وِلادَتهِ؛ لأنَّ الظاهرَ أَنَّه لا يعيشُ أكثرَ من هذا العُمْرِ، فإذا [اقْتَرنَ به انقطَاعُ](35) خَبَرِه، وَجَبَ الحُكْمُ بمَوْتِه، كما لو كان فَقْدُه بغَيْبةٍ ظاهِرُها الهَلاكُ. والمَذْهَبُ الأوَّلُ؛ لأنَّ هذه غَيْبَةٌ ظاهِرُها السَّلامةُ، فلم يُحْكَمْ بمَوْتِه، كما قبلَ الأَرْبعِ سِنِينَ، أو كما قبلَ التِّسْعِين، ولأنَّ هذا التَّقْدِيرَ بغيرِ تَوْقِيفٍ، والتَّقْديرُ لا يَنْبَغِى أن يُصارَ إليه إلَّا بالتَّوْقيفِ؛ لأنَّ تَقْدِيرَها بتسعينَ سنةً من يومِ وِلادَتِه، يُفْضِى إلى اخْتلافِ العِدَّةِ فى حَقِّ المرأةِ باختلافِ عُمْرِ الزَّوجِ، ولا نَظِيرَ لهذا، وخَبَرُ عمرَ وَرَدَ فى مَن ظاهرُ غَيْبَتِه الهلاكُ، فلا يُقَاسُ عليه غيرُه. القسم الثاني، أن تكونَ غَيْبَتُه ظاهِرُها الهلاكُ، كالذى يُفْقَدُ من بينِ أهلِه ليلًا أو نهارًا، أو يَخْرُجُ إلى الصلاةِ فلا يَرْجِعُ، أو يَمْضِى إلى مكانٍ قريبٍ لِيَقْضِىَ حاجَتَه ويَرْجِعَ، فلا يَظْهَرُ له خَبَرٌ، أو يُفْقَدُ مِن (36) بينِ الصَّفَّيْنِ، أو يَنْكَسِرُ بهمْ مَرْكِبٌ فيَغْرَقُ بعضُ رُفْقَتِه، أو يُفْقَدُ فى مَهْلَكَةٍ، كبَرِّيَّةِ الحِجازِ ونحوِها، فمذْهَبُ أحمدَ الظاهِرُ عنه، أنَّ زَوْجَتَه تَتَرَبَّصُ أرْبَعَ سِنِينَ، أكثرَ مُدَّةِ الْحَملِ، ثم تَعْتَدُّ للوَفاةِ أَرْبَعَةَ أشهرٍ وعَشْرًا. وتَحِلُّ للأزْواجِ. قال الأثْرَمُ: قيل لأبي عبدِ اللَّه: تذْهَبُ إلى حديثِ عمرَ؟ قال: هو أحْسَنُها يُرْوَى عن عمرَ من ثمانيةِ وُجُوهٍ. ثم قال (37): زَعَمُوا أن عمرَ رَجَعَ عن هذا. هؤلاء الكَذَّابِينَ (38). قلتُ: فرُوِىَ من وَجْهٍ ضعيفٍ أنَّ عمرَ قال بخلافِ هذا؟ قال: لا، إلَّا أن يكونَ إنسانٌ يَكْذِبُ. وقلت له مَرَّةً: إنَّ إنْسانًا قال لى: إنَّ أبا عبدِ اللَّه قد تَرَكَ قولَه فى المَفْقُودِ بعدَكَ. فضَحِكَ، ثم قال: مَن تَرَكَ هذا القولَ أىَّ شيءٍ يقولُ! وهو (39) قولُ عمرَ وعثمانَ وعليٍّ وابنِ عباسٍ وابنِ الزُّبَيْرِ. قال أحمدُ: خمسةٌ من أصْحابِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم. وبه قال عطاءٌ، وعمرُ بن
(35) فى أ: "انقطع".
(36)
سقط من: أ، ب، م.
(37)
فى الأصل: "قالوا".
(38)
كذا على حكاية قوله.
(39)
فى أ، ب، م:"وهذا".
عبد العزيزِ، والحسنُ، والزُّهْرِىُّ، وقَتادةُ، واللَّيْثُ، وعلىُّ بن الْمَدِينىّ، وعبدُ العزيز ابن أبي سَلَمةَ. وبه يقولُ مالكٌ، والشافعىُّ فى القديمِ، إلَّا أنَّ مالِكًا قال: ليس فى انْتِظارِ مَنْ يُفْقَدُ فى القِتالِ وَقْتٌ. وقال سعيدُ بن المُسَيَّبِ، فى امرأةِ المَفْقُودِ بين الصَّفَّيْنِ: تتَرَبَّصُ سَنَةً؛ لأنَّ غَلَبةَ هَلَاكِه ههُنا أكثرُ من غَلَبةِ غيرِه، لوُجُودِ سَبَبِه. وقد نُقِلَ عن أحمدَ، أنَّه قال:[كنتُ أقولُ](40): إذا تَرَبَّصَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثم اعْتَدَّتْ أرْبعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا. تزَوَّجَتْ. وقد ارْتَبْتُ فيها، وهِبْتُ الجَوابَ فيها، [لما اخْتَلَفَ](41) الناسُ فيها، فكأنِّي أُحِبُّ السَّلامةَ. وهذا توَقُّفٌ يَحْتَمِلُ الرُّجوعَ عمَّا قالَه، وَتَتَرَبَّصُ أبدًا، ويَحْتَمِلُ التَّوَرُّعَ، ويكونُ المَذْهَبُ ما قالَه أوّلًا. قال القاضى: أكثرُ أصْحابِنا على (42) أنَّ المذهبَ روايةٌ واحدةٌ، وعندى أنَّ المسألةَ على روايتَيْنِ. وقال أبو بكرٍ: الذى أقولُ به، إن صَحَّ الاخْتِلافُ فى المسألةِ، أن لا يُحْكمَ بحُكْمٍ ثانٍ إلَّا بدليلٍ على الانْتِقالِ، وإنْ ثَبَتَ الإِجْماعُ، فالحُكْمُ فيه على ما نصَّ عليه. وظاهرُ المَذْهَبِ على ما حَكَيْناه أوّلًا. نَقَلَه عن أحمدَ الجماعةُ، وقد أنْكَرَ أحمدُ رِوايةَ مَنْ رَوَى عنه الرُّجُوع، على ما حَكَيْناه من رِوَايةِ الأثْرَمِ. وقال أبو قِلابةَ، والنَّخَعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، وابنُ أبي لَيْلَى، وابنُ شُبْرُمةَ، وأصْحابُ الرَّأْىِ، والشافعىُّ فى الجديدِ: لا تتزوَّجُ امرأةُ المَفْقُودِ حتَّى يَتَبَيَّنَ مَوْتُه أو فِرَاقُه؛ لما (43) رَوَى المُغِيرةُ (44)، أنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قال:"امْرَأةُ المَفْقُودِ امْرَأتُهُ، حَتَّى يَأْتِيَها (45) الْخَبَرُ (46) ". ورَوَى الحَكَمُ، وحَمَّادُ، عن عليٍّ: لا تتزوَّجُ امرأةُ
(40) سقط من: أ.
(41)
فى أ: "لاختلاف".
(42)
سقط من: ب.
(43)
فى الأصل: "ولما".
(44)
فى ازيادة: "بن شعبة".
(45)
فى ب، م:"يأتى".
(46)
فى النسخ: "زوجها". والمثبت من سنن الدارقطنى، وقد أخرجه فى: باب المهر، من كتاب النكاح. سنن الدارقطنى 3/ 312.
المفْقودِ، حتى يأتِىَ مَوْتُه أو طَلاقُه (47). ولأنَّه (48) شَكٌّ فى زَوَالِ الزَّوْجِيَّةِ، فلم تَثْبُتْ به الفُرْقةُ، كما لو كان ظاهِرُ غَيْبَتِه السَّلامةَ. ولَنا، ما رَوَى الأَثْرَمُ. والجُوزَجانىُّ، بإسْنادِهِما عن عُبَيدِ بن عُمَيْرٍ، قال: فُقِدَ رَجُلٌ فى عَهْدِ عمرَ، فجاءت امرأتُه إلى عمرَ، فذَكَرَتْ ذلك له، فقال: انْطَلِقِى، فتَرَبَّصِى أَرْبَعَ سِنِينَ. ففَعَلَتْ، ثم أتَتْه، فقال: انْطَلِقِى، فاعْتَدِّى أَرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا. ففَعَلَتْ، ثم أَتَتْه، فقال: أَيْنَ وَلِىُّ هذا الرجلِ؟ [فجاءَ وَلِيُّهُ](49)، فقال: طَلِّقْها. فَفَعَلَ، فقال لها عمرُ: انْطَلِقِى، فتزَوَّجِى مَنْ شِئْتِ. فتزَوَّجَتْ، ثم جاء زَوْجُها الأوّلُ، فقال له (50) عمرُ: أينَ كنتَ؟ قال: يا أميرَ المؤمنين، اسْتَهْوَتْنِى الشَّياطينُ، فواللهِ ما أدْرِى فى أيِّ أرضِ اللهِ (51)، كنتُ عند قومٍ يَسْتَعْبِدُوننِى، حتى اغْتَزاهُم منهم قومٌ مُسْلِمون، فكنتُ فى ما غَنِمُوه، فقالوا لى (52): أَنْتَ رَجُلٌ من الإِنْسِ، وهؤلاء من (53) الجِنِّ، فمالَكَ وما لَهم؟ فأخْبَرْتُهُم خَبَرِى، فقالوا: بِأيِّ (54) أَرْضِ اللَّه تُحِبُّ أن تُصْبِحَ؟ قلتُ: المَدِينةُ هى أرْضِى. فأصْبَحْتُ وأنا أنظرُ إلى الحَرَّةِ. فخيَّره عمرُ؛ إن شاء امْرأتَه، وإن شاء الصَّداقَ، فاختارَ الصَّداقَ، وقال: قد حَبِلَتْ، لا حاجةَ لى فيها (55). قال أحمدُ: يُرْوَى عن عمرَ،
(47) أخرجه البيهقى، فى: باب من قال بتخيير المفقود. . .، من كتاب العدد. السنن الكبرى 7/ 446. وعبد الرزاق، فى: باب التى لا تعلم مهلك زوجها، من كتاب الطلاق. المصنف 7/ 90. وسعيد بن منصور، فى: باب الحكم فى امرأة المفقود، من كتاب الطلاق. السنن 1/ 402.
(48)
سقطت الواو من: م.
(49)
سقط من: م.
(50)
سقط من: م.
(51)
فى م زيادة: "كنت".
(52)
سقط من: ب.
(53)
سقط من: الأصل.
(54)
فى أ، ب:"بأيت".
(55)
أخرجه البيهقى، فى الباب السابق. السنن الكبرى 7/ 445، 446. وعبد الرزاق، فى الباب السابق. المصنف 7/ 86 - 88. وسعيد، فى الباب السابق. السنن 1/ 401، 402.