الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يُوجِبُ القِصاصَ، كالجائِفَةِ ونحوِها، فعليه الأَرْشُ. وإنَّما جَعَلْنا عليه القِصاصَ؛ لأنَّ فعْلَ الثاني قَطَعَ سِرَايةَ جِراحِه، فصار كالمُنْدَمِلِ الذي لا يَسْرِي. وهذا مذهبُ الشافعيِّ، ولا أعلمُ فيه مخالِفًا. ولو كان جُرْحُ الأوَّلِ يُفْضِي إلى الموتِ لا مَحالةَ، إلَّا أنَّه لا يَخْرُجُ به من حُكْمِ الحياةِ، وتَبْقَى معه الحياةُ المُسْتَقِرَّةُ، مثل خَرْقِ الْمِعَى، أو أُمِّ الدِّماغِ، فضَرَبَ الثاني عُنُقَه، فالقاتلُ هو الثاني؛ لأنَّه فَوَّتَ حياةً مُسْتَقِرَّةً. وقيل:(7) هو في حُكْمِ الحياةِ، بدليلِ أن عمرَ، رضي الله عنه، لما جُرِحَ دَخَلَ عليه الطبيبُ فسَقَاه لَبَنًا، فخَرَجَ يَصْلِدُ (8)، فعَلِمَ الطبيبُ أنَّه مَيِّتٌ، فقال: اعْهَدْ إلى الناسِ. فعَهِدَ إليهم، وأَوْصَى، وجَعَلَ الخِلافةَ إلى أهْلِ الشُّورَى، فقَبِلَ الصحابةُ عَهْدَه، وأجْمَعُوا على قَبُولِ وَصَاياهُ وعَهْدِه (9). فلمَّا كان حكمُ الحياةِ باقِيًا، كان الثاني مُفَوِّتًا لها، فكان هو القاتلَ، كما لو قَتَلَ عَلِيلًا لا يُرْجَى بُرْءُ عِلَّتِه.
فصل:
إذا أُلْقِيَ رجلٌ (10) من شاهِقٍ، فتَلَقَّاه آخَرُ بسَيْفٍ فقَتَلَه، فالقِصاصُ على مَن قَتَلَه؛ لأنَّه فَوَّتَ حياتَه قبلَ المَصِيرِ إلى حالٍ يُئِسَ (11) فيها من حَياتِه، فأشْبَهَ ما لو رَمَاه إنسانٌ بسَهْمٍ قاتلٍ، فقَطَعَ آخرُ عُنُقَه قبلَ وُقُوعِ السَّهْمِ به، أو ألْقَى عليه صَخْرةً، فأطارَ آخَرُ رَأسَه بالسَّيْفِ قبلَ وُقُوعِها عليه. وبهذا قال الشافعيُّ إن رَمَاه من مكانٍ يجوزُ أن يَسْلَمَ منه، وإن رَماه من شاهِقٍ لا يَسْلَمُ منه الواقعُ، ففيه وَجْهان؛ أحدهما، كَقْولنا. والثاني، الضمانُ عليهما بالقِصاص والدِّيَةِ عندَ سُقُوطِه؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما سَبَبٌ للإِتْلافِ. ولَنا، أنَّ الرَّمْيَ سَبَبٌ والقَتْلَ مُباشَرَةٌ، فانْقَطَعَ حكمُ السَّبَبِ، كالدافعِ مع
(7) في الأصل زيادة: "من".
(8)
يصلد: يبرق. غريب الحديث، لابن قتيبة 1/ 623.
(9)
انظر: ما أخرجه الإِمام أحمد، في: المسند 1/ 42. والبيهقي، في: باب المرض الذي يجوز فيه الأعطية، من كتاب الوصايا. السنن الكبرى 6/ 282. وابن سعد، في: الطبقات الكبرى 3/ 246 - 261.
(10)
في م: "رجلا".
(11)
في م: "يئسوا".
الحافرِ، والجارِحِ مع الذَّابحِ، وكالصُّوَرِ التي ذكرْناها (12). وما ذكَرُوه باطِلٌ بهذه الأُصُولِ المذكورةِ.
1437 -
مسألة؛ قال: (وَإذَا قَطَعَ يَديْهِ ورِجْلَيْهِ، ثُمَّ عَادَ فَضَرَبَ عُنُقَهُ قَبْلَ أنْ تَنْدَمِلَ جِرَاحُهُ، قُتِلَ، ولَمْ تُقْطَعْ يَدَاهُ (1) ولَا رِجْلَاهُ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أبِى عَبْدِ اللهِ، رحمه الله. والرِّوَايَةُ الأُخْرَى، قَالَ: إنَّه لأَهْلٌ أنْ يُفْعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ. فإنْ عَفَا عَنْهُ الْوَلِىُّ، فَعَلَيْهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ)
وجملةُ ذلك أنَّ الرَّجُلَ إذا جَرَحَ رجلًا، ثم ضَرَبَ عُنُقَه قبلَ انْدِمالِ الجُرْحِ، فالكلامُ في المسألةِ في حالَيْنِ؛ أحدهما، أن يَخْتارَ الوَلِىُّ القِصَاصَ، فاخْتلَفتِ الرِّواية عن أحمدَ في كَيْفِيَّةِ الاسْتِيفاءِ؛ فرُوِى عَنه؛ لا يُسْتَوفَى إلَّا بالسَّيْفِ في العُنُقِ. وبه قال عطاءٌ، والثَّوْرِىُّ، وأبو يوسفَ، ومحمدٌ؛ لما رُوِىَ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ". روَاه ابن ماجَه (2). ولأنَّ القِصاصَ أحَدُ بَدَلَىِ النَّفْسِ، فدَخَلَ الطَّرَفُ في حُكْمِ الجُمْلةِ، كالدِّيَةِ، فإنَّه لو صار الأمْرُ إلى الدِّيَةِ، لم تَجِبْ إلَّا دِيَةُ النَّفْسِ، ولأنَّ القَصْدَ من القِصاصِ في النّفْسِ تَعْطِيلُ الكُلِّ، وإتلافُ الجُمْلةِ، وقد أمْكَنَ هذا بضَرْبِ العُنُقِ، فلا يجوزُ تَعْذِيبَهُ بإتْلافِ أطْرافِه، كما لو قَتَلَه بسيفٍ كَالٍّ (3)، فإنَّه لا يُقْتَلُ بمِثْلِه. والرِّواية الثانية عن أحمدَ، قال (4): إنَّه لأَهْلٌ أن يُفْعَلَ به كما فَعَلَ. يعني أنَّ للمُسْتَوفِى أن يَقْطَعَ أطْرافَه، ثم يَقْتُلَه. وهذا مذهبُ عمرَ بن عبد العزيز، ومالكٍ، والشافعىِّ، وأبى
(12) في، ب، م:"ذكرنا".
(1)
في م: "يده".
(2)
في: باب لا قود إلا بالسيف، من كتاب الديات. سنن ابن ماجه 2/ 889.
كما أخرجه الدارقطني، في: كتاب الحدود والديات وغره. سنن الدارقطني 3/ 87، 88، 106. والبيهقي، في: باب ما روى أن لا قود إلا بحديدة، من كتاب الجنايات 8/ 62، 63.
(3)
أي لا يقطع.
(4)
سقط من: ب.
حنيفةَ، وأبى ثَوْرٍ؛ لقَوْلِ اللَّه تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (5). وقولِه سبحانه: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (6). ولأنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم رَضَخَ (7) رأسَ يَهُودِىٍّ لِرَضْخِه (8) رأسَ جارِيةٍ من الأنصارِ بين حَجَرَيْنِ (9). ولأنَّ اللَّه تعالى قال: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} (10). وهذا قد قَلَعَ عَيْنَه، فيَجِبُ أن تُقْلَعَ عَيْنُه، للآية. ورُوِىَ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ"(11). ولأنَّ القِصاصَ مَوْضُوعٌ على المُماثلةِ، ولَفْظُه مُشْعِرٌ به، فوَجَبَ (12) أن يُسْتَوْفَى منه مثلُ ما فَعَلَ، كما لو ضَرَبَ العُنُقَ آخَرُ غيرُه. فأمَّا حديث:"لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ". فقال أحمدُ: ليس إسْنادُه بجَيِّدٍ. الحال الثاني، أن يَصِيرَ الأمْرُ إلى الدِّيَةِ، إمَّا بعَفْوِ (13) الوَلِىِّ، أو كَوْنِ الفِعْلِ خَطأً، أو شِبْهَ عَمْدٍ، أو غيرَ ذلك، فالواجبُ دِيَةٌ واحدةٌ. وهذا ظاهرُ مذهبِ الشافعىِّ. وقال بعضُهم: تَجِبُ دِيَةُ الأطْرافِ المَقْطُوعةِ ودِيةُ النَّفْسِ؛ لأنَّه لمَّا قُطِعَ سِرَايَةُ (14) الجُرْحِ بقَتْلِه صار كالمُسْتَقِرِّ، فأشْبَهَ ما لو قَتَلَه غيرُه، ولهذا لم يَسْقُط القِصاصُ فيه. ولَنا، أنَّه قاتِلٌ قبلَ اسْتِقْرارِ الجُرْحِ، قَدَخَلَ أَرْشُ الجِراحةِ في أَرْشِ النَّفْسِ، كما لو سَرَتْ إلى نَفْسِه، والقِصاصُ في الأطْرافِ على إحْدَى الرِّوايتَيْنِ لا يَجِبُ، وإن وَجَبَ فإنَّ القِصاصَ لا يُشْبِهُ الدِّيَةَ؛ لأنَّ سِرَايةَ الجُرْحِ لا تُسْقِطُ القِصاصَ فيه، وتُسْقِطُ دِيَتَه.
(5) سورة النحل 126.
(6)
سورة البقرة 194.
(7)
في م: "رض".
(8)
في م: "لرضه".
(9)
تقدم تخريجه، في صفحة 448.
(10)
سورة المائدة 45.
(11)
أخرجه البيهقي، في: باب عمد القتل بالحجر، من كتاب الجنايات. السنن الكبرى 8/ 43.
(12)
في ب: "فيجب".
(13)
في ب: "بفعل".
(14)
في م: "بسراية".