الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أكثرُ أهلِ العلمِ يَرَوْنَ القَتْلَ مُنْقَسِمًا إلى هذه الأقْسامِ الثَّلاثةِ، رُوِىَ ذلك عن عمرَ، وعلىٍّ. وبه قال الشَّعْبِىُّ، والنَّخَعِىُّ، وقَتادةُ، وحَمَّادٌ، وأهلُ العِراقِ، والثَّوْرِىُّ، والشافعيُّ، وأصْحابُ الرَّأْىِ. وأَنكَرَ مالكٌ شِبْهَ العَمْدِ، وقال: ليس في كتابِ اللهِ إلَّا العَمْدُ والخَطَأُ، فأمَّا شِبْهُ العَمْدِ، فلا يُعْمَلُ به عندَنا. وجعَله من قِسْمِ العَمْدِ. وحُكِىَ عنه مثلُ قَوْلِ الجماعةِ. وهو الصَّوابُ؛ لما رَوَى عبدُ اللَّه بن عمرِو بن العاصِ، أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"أَلا إنَّ دِيَةَ الْخَطَإِ شِبْهَ الْعَمْدِ، مَا كَانَ بِالسَّوْطِ والْعَصَا، مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ في بُطُونِها أوْلَادُها". روَاه أبو داودَ (1). وفِي لفظٍ: "قَتِيلِ خَطَإِ الْعَمْدِ". وهذا نَصٌّ يُقَدَّمُ على ما ذكَره. وقَسَّمَه أبو الخَطَّابِ أرْبعةَ أقسامٍ، فزاد قِسْمًا رابعًا، وهو ما أُجْرِىَ مُجْرَى الْخَطَإِ، نحو أن يَنْقَلِبَ نائمٌ على شَخْصٍ فيَقْتُلَه، أو يَقَعَ عليه من عُلْوٍ، والقَتْل بالسَّبَبِ، كحَفْرِ البِئْرِ ونَصْبِ (2) السِّكِّين، وقَتْلِ غيرِ المُكلَّفِ، أُجْرِىَ مُجْرَى (3) الخَطَإِ وإن كان عَمْدًا. وهذه الصُّورةُ التي ذكَرها عندَ الأَكْثَرِينَ من قِسْمِ الخَطَإِ، فإنَّ صاحِبَها لم يَعْمِدِ الفِعْلَ، أو عَمَدَه وليس هو من أهْلِ القَصْدِ الصَّحِيحِ، فسَمَّوْه (4) خَطَأً (5)، فأعْطَوْه حُكْمَه. وقد صَرَّحَ الْخِرَقِىُّ بذلك، فقال في الصَّبِىِّ والمجنونِ: عَمْدُهما خَطَأٌ.
1416 - مسألة؛ قال: (فَالْعَمْدُ مَا ضَرَبَهُ بِحَدِيدَةٍ، أوْ خشَبَةٍ كَبِيرَةٍ فَوْقَ عَمُودِ الفُسْطَاطِ، أو حَجَرٍ كَبِيرٍ الْغَالِبُ أنْ يَقْتُلَ مِثْلُهُ، أوْ أعَادَ الضَّرْبَ بخَشَبَةٍ صَغِيرَةٍ، أوْ فَعَلَ بِهِ فِعْلًا الْغَالِبُ مِنْ ذلِكَ الْفِعْلِ أنَّه يُتْلِفُ)
وجملةُ ذلك أن العَمْدَ نوعان:
(1) تقدم تخريجه، في: 6/ 240. ويضاف إليه: المسند 2/ 164، 166.
(2)
في م: "ونصل".
(3)
سقط من: م.
(4)
سقط من: ب.
(5)
سقط من: الأصل.
أحدُهما، أن يَضْرِبَه بمُحَدَّدٍ (1)، وهو ما يَقْطَعُ، ويَدْخُلُ في البَدَنِ، كالسَّيْفِ والسِّكِّينِ والسِّنَانِ، وما في معناه ممَّا يُحَدِّدُ فيَجْرَحُ، من الحَدِيدِ، والنُّحاسِ، والرَّصَاصِ، والذَّهَبِ، والفِضَّةِ، والزُّجَاج، والحَجَرِ، والقَصَبِ، والخَشَبِ، فهذا كلُّه إذا جَرَحَ به جُرْحًا كبيرًا، فمات (2)، فهو قَتْلٌ عَمْدٌ، لا خِلافَ (3) فيه بينَ العُلماءِ، فيما عَلِمْناه. فأمَّا إنْ جَرَحَه جُرْحًا صغيرًا، كشَرْطَةِ الحَجَّامِ، أو غَرَزَهُ بإبْرَةٍ، أو شَوْكةٍ، نَظَرْتَ؛ فإن كان في مَقْتَلٍ، كالعَيْنِ، والفُؤادِ، والخاصِرَةِ، والصُّدْغِ، وأصْلِ الأُذُنِ، فمات، فهو عَمْدٌ أيضًا؛ لأنَّ الإِصابةَ بذلك في المَقْتَلِ، كالجَرْحِ بالسِّكِّينِ في غيرِ المَقْتَلِ، وإن كان في غيرِ مَقْتَلٍ؛ نَظَرْتَ، فإن كان قد بالَغَ في إدْخالِها في البَدَنِ، فهو كالجُرْحِ الكبيرِ؛ لأنَّ هذا يَشْتَدُّ ألَمُه، ويُفْضِى إلى القَتْلِ، كالكبيرِ، وإن كان الغَرْزُ (4) يَسِيرًا، أو جَرَحَهُ بالكبيرِ (5) جَرْحًا لَطِيفًا، كشَرْطةِ الحَجَّامِ فما دُونَها، فقال أصحابُنا: إن بَقِىَ من ذلك ضَمِنًا (6) حتى مات، ففيه القَوَدُ؛ لأنَّ الظَّاهرَ أنَّه مات منه، وإن مات في الحالِ، ففيه وَجْهان؛ أحدهما، لا قِصَاصَ فيه. قاله ابنُ حامدٍ؛ لأنَّ الظاهرَ أنَّه لم يَمُتْ منه، ولأنَّه لا يَقْتُلُ غالِبًا، فأشْبَهَ العَصَا والسَّوْطَ. والتَّعْلِيلُ الأَوَّلُ أَجْوَدُ؛ لأنَّه لمَّا احْتَمَلَ حُصُولَ الموتِ بغيرِه ظاهِرًا، كان ذلك شُبْهةً في دَرْءِ القِصَاصِ، ولو كانت العِلَّةُ كَوْنَه لا يَحْصُلُ به القَتْلُ غالِبًا، لم يَفْتَرِق الحالُ بين مَوْتِه في الحالِ، وموتِه مُتَراخِيًا عنه، كسائرِ ما لا يَجِبُ به القِصَاصُ. والثانى، فيه القِصاصُ؛ لأنَّ المُحَدَّدَ لا يُعْتَبَرُ فيه غَلَبَةُ الظَّنِّ في حُصُولِ القَتْلِ به، بدليلِ ما لو قَطَعَ شَحْمَةَ أُذُنِه، أو قَطَعَ أُنْمُلَتَه، ولأنَّه لمَّا لم يُمْكِنْ إدارةُ الحُكْمِ، وضَبْطُه بغَلَبةِ الظَّنِّ،
(1) في ب: "محدود".
(2)
سقط من: الأصل، ب.
(3)
في ب: "اختلاف".
(4)
في م: "الغور".
(5)
في ب: "الكبير".
(6)
الضمن: الزَّمِن والمبتلى في جسمه.
وَجَبَ رَبْطُه بكَوْنِه مُحَدَّدًا، ولا يُعْتَبَرُ ظُهورُ الحِكْمةِ (7) في آحادِ صُوَرِ (8) المَظِنَّةِ، بل يَكْفِى احْتمالُ الحِكْمةِ، ولذلك ثَبَتَ الحكمُ به فيما إذا بَقِىَ ضَمِنًا، مع أنَّ العَمْدَ لا يخْتلِفُ مع اتِّحادِ الآلةِ والفِعْلِ، بسُرْعةِ الإِفضاءِ وإبْطائِه، ولأنَّ في البَدَنِ مَقاتِلَ خَفِيَّةً، وهذا له سِرَايةٌ ومَوْرٌ، فأشْبَهَ الجُرْحَ الكبيرَ. وهذا ظاهرُ كلامِ الْخِرَقِىِّ؛ فإنَّه لم يُفَرِّقْ بين الصغيرِ والكبيرِ. وهو مذهبُ أبى حنيفةَ، وللشافعىِّ، من التفصيلِ نحوٌ ممَّا ذكَرْنا.
النَّوعُ الثاني، القتلُ بغيرِ المُحَدَّدِ، ممَّا يَغْلِبُ على الظَّنِّ حُصُولُ الزُّهُوقِ به عندَ استعمالِه، فهذا عَمْدٌ مُوجِبٌ للقِصَاصِ أيضًا. وبه قال النَّخَعِىُّ، والزُّهْرِىُّ، وابنُ سِيرِينَ، وحَمَّادٌ، وعمرُو بن دِينارٍ، وابنُ أبي لَيْلَى، ومالكٌ، والشافعيُّ، وإسْحاقُ، وأبو يوسفَ، ومحمدٌ. وقال الحسنُ: لا قَوَدَ في ذلك. ورُوِىَ ذلك عن الشَّعْبِىِّ. وقال ابنُ المُسَيَّبِ، وعَطاءٌ، وطَاوُسٌ: العَمْدُ ما كان بالسِّلاحِ. وقال أبو حنيفةَ: لا قَوَدَ [في ذلك](9)، إلَّا أن يكونَ قَتَلَه بالنَّارِ. وعنه في مُثَقَّل الحَدِيدِ رِوَايتَان. واحْتَجَّ بقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"أَلَا إنَّ في قَتِيلِ عَمْدِ الْخَطَإِ، قَتِيلِ السَّوْطِ والْعَصَا والْحَجَرِ، مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ"(10). فسَمَّاهَ عَمْدَ الخَطإِ، وأوْجَبَ فيه الدِّيَةَ دُونَ القِصَاصِ، ولأنَّ العَمْدَ لا يُمْكِنُ اعْتبارُه بنَفْسِه، فيَجِبُ ضَبْطُه بمَظِنَّتِه، ولا يُمْكِنُ ضَبْطُه بما يَقْتُلُ غالِبًا، لحُصُولِ العَمْدِ بدُونِه في الجُرْحِ الصغيرِ، فوَجَبَ ضَبْطُه بالجرْحِ. ولَنا، قولُ اللَّه تعالى:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} (11). وهذا مَقْتُولٌ ظُلْمًا، وقال اللَّه تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (12). وروى أَنَسٌ، أنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ
(7) في ب، م:"الحكم".
(8)
في ب، م:"صورة".
(9)
سقط من: الأصل، ب.
(10)
أخرجه الإِمام أحمد، في: المسند 3/ 410. وانظر ما تقدم في صفحة 445.
(11)
سورة الإسراء 33.
(12)
سورة البقرة 178.
جارِيةً على أَوْضاحٍ (13) لها بحَجَرٍ، فقَتَلَه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بينَ حَجَرَيْنِ. مُتَّفَقٌ عليه (14). ورَوَى أبو هُرَيْرةَ، قال: قام رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إمَّا يُودَى، وإمَّا (15) يُقَادُ". مُتَّفَقٌ عليه (16). ولأنَّه يقْتُل غالبًا، فأشْبَهَ المُحَدَّدَ. وأمَّا الحديثُ، فمَحْمولٌ على المُثَقَّل الصَّغِيرِ؛ لأنَّه ذَكَرَ العَصَا والسَّوْطَ، وقَرَنَ به الحَجَرَ. فدَلَّ على أنَّه أراد ما يُشْبِهُهما. وقولُهم: لا يُمْكِنُ ضَبْطُه. ممنوعٌ؛ فإنَّنا نُوجِبُ القِصَاصَ بما نتَيَقَّنُ حُصُولَ الغَلَبةِ به، وإذا شَكَكْنا، لم نُوجِبْه مع الشَّكِّ، وصغيرُ الجُرْحِ قد سَبَقَ القولُ فيه، ولأنَّه لا يَصِحُّ ضَبْطُه بالجُرْحِ، بدلِيل ما لو قَتَلَه بالنارِ، أو بمُثَقَّلِ (17) الحدِيدِ. إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ هذا النَّوْعَ يتَنَوّعُ أنواعًا؛ أحدها، أن يَضْرِبَه بمُثَقَّلٍ كبيرٍ، يَقْتُلُ مِثْلُه غالبًا، سواءٌ كان من حديدٍ، كاللَّتِّ (18)، والسَّنْدَانِ، والمِطْرَقَةِ، أو حَجَرٍ ثقيلٍ، أو خَشَبةٍ كبيرةٍ. وحَدَّ الخِرَقِيُّ الخشبةَ الكبيرةَ، بما فَوْقَ عَمُودِ الفُسْطاطِ، يعني العُمُدَ التي تَتَّخِذُها الأعْرابُ (19) لِبُيُوتِها،
(13) الأوضاح: حلى الفضة. انظر غريب الحديث 3/ 188.
(14)
أخرجه البخاري، في: باب إذا قتل بحجر أو بعصا، من كتاب الديات. صحيح البخاري 9/ 5، 6. ومسلم، في: باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره، من كتاب القسامة. صحيح مسلم 3/ 1299، 1300.
كما أخرجه أبو داود، في: باب يقاد من القاتل، وباب القود بغير حديد، من كتاب الديات. سنن أبي داود 2/ 487 - 489. والنسائي، في: باب القود من الرجل للمرأة، وباب القود بغير حديدة، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 20، 32. والإِمام أحمد، في: المسند 3/ 170، 171.
(15)
في أ، م زيادة:"أن".
(16)
أخرجه البخاري، في: باب كيف تعرف لقطة أهل مكة، من كتاب اللقطة، وفي: باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، من كتاب الديات. صحيح البخاري 3/ 165، 9/ 6. ومسلم، في: باب تحريم مكة. . .، من كتاب الحج. صحيح مسلم 2/ 988، 989.
كما أخرجه أبو داود، في: باب ولي العمد يرضى بالدية، من كتاب الديات. سنن أبي داود 2/ 481. والنسائي، في: باب هل تؤخذ من قاتل العمد الدية، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 34.
(17)
في م: "بمثل".
(18)
اللت: ما يُلَتُّ به، أي يُدَقُّ أو يُسْحَق.
(19)
في ب: "العرب".
وفيها دِقَّةٌ، فأمَّا عُمُدُ الخِيامِ فكبيرةٌ، تَقْتُلُ غالبًا، فلم يُرِدْها الْخِرَقِيُّ، وإنما حَدَّ المُوجِبَ للقِصاصِ بما (20) فَوْقَ عَمُودِ الفُسْطاطِ؛ لأنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا سُئِلَ عن المرأةِ التي ضَرَبَتْ جارِيَتَها بعَمُودِ فُسْطاطٍ فقَتَلَتْها وجَنِينَها، قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ، وقَضَى بالدِّيَةِ على عاقِلَتِها (21). والعاقِلةُ لا تَحْمِلُ العَمْدَ، فدَلَّ على أنَّ القَتْلَ بعَمُودِ الفُسْطاطِ ليس بعَمْدٍ. وإن كان أعْظَمَ منه، فهو عَمْدٌ؛ لأنَّه يَقْتُلُ غالبًا. ومن هذا النَّوعِ أن يُلْقِىَ عليه حائطًا، أو صخرةً، أو خشبةً عظيمةً، أو ما أشْبَهَ ممَّا يُهْلِكُه غالبًا، فيُهلِكَه، ففيه القَوَدُ؛ لأنَّه يَقْتُلُ غالبًا. النَّوع الثاني، أن يَضْرِبَه بمُثَقَّلٍ صغيرٍ، كالعَصَا، والسَّوْطِ (22)، والحجَرِ الصغيرِ، أو يَلْكُزَه بيَدَيْه في مَقْتَلٍ، أو في حالِ ضَعْفٍ من المَضْرُوبِ؛ لمَرَضٍ أو صِغَرٍ، أو في زَمَنٍ مُفْرِطِ الْحَرِّ أو البَرْدِ، بحيث تَقْتُلُه تلك الضَّرْبةُ، أو كَرّرَ الضربَ حتى قتَلَه بما يَقْتُلُ غالبًا، ففيه القَوَدُ؛ لأنَّه قَتَلَه بما يَقْتُلُ مثلُه غالبًا، فأشْبَهَ الضَّرْبَ بمُثَقَّلٍ كبيرٍ. ومن هذا النَّوعِ، لو عَصَرَ خُصْيَتَه عَصْرًا شديدًا، فقَتلَه بعَصْرٍ يَقْتُلُ مثلُه غالبًا، فعليه القَوَدُ. وإن لم يكُن كذلك في جميعِ ما ذكرناه، فهو عَمْدُ الخطَإِ، وفيه الدِّيَةُ، إلَّا أن يَصْغُرَ جدًّا، كالضَّرْبةِ بالقَلَمِ والإِصْبَعِ في غيرِ مَقْتَلٍ، ونحوِ هذا ممَّا لا يُتَوَهَّمُ القَتْلُ به، فلا قَوَدَ فيه، ولا دِيَةَ؛ لأنَّه لم يَمُتْ به. وكذلك إن مَسَّهُ بالكبيرِ، ولم يَضْرِبْه به؛ لأن الدِّيةَ إنما تَجِبُ بالقَتْلِ، وليس هذا بقَتْلٍ.
النَّوع الثالث، أن يَمْنَعَ خُرُوجَ نَفَسِه، وهو ضَرْبانِ؛ أحَدُهما، أن يَجْعَلَ في عُنُقِه خِرَاطةً (23)، ثم يُعَلِّقَه في خَشَبةٍ أو شيءٍ، بحيثُ يرْتَفِعُ عن الأرضِ، فيَخْتَنِقُ
(20) في م: "مما".
(21)
أخرجه مسلم، في: باب دية الجنين. . .، من كتاب القسامة. صحيح مسلم 3/ 1310، 1311، وأبو داود، في: باب دية الجنين، من كتاب الديات. سنن أبي داود 2/ 498. والترمذي، في: باب ما جاء في دية الجنين، من أبواب الديات. عارضة الأحوذي 6/ 180. والنسائي، في: باب صفة شبه العمد، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 44. والدارمي، في: باب في دية الجنين، من كتاب الديات. سنن الدارمي 2/ 196. والإِمام أحمد، في: المسند 4/ 245، 246، 249.
(22)
سقط من: الأصل، ب.
(23)
الخراطة: ما يعرف اليوم بالمشنقة.
ويمُوتُ، فهذا عَمْدٌ، سواءٌ مات في الحالِ، أو بَقِيَ زَمَنًا؛ لأنَّ هذا أَوْحَى (24) أنْواعِ الخَنْقِ، وهو الذي جَرَتِ العادةُ بفِعْلِه من الوُلاةِ في اللُّصُوصِ وأشْباهِهِم من المُفْسِدِينَ. والضَّرْبُ الثانِي، أن يَخْنُقَه وهو علَى الأرْضِ بيَدَيْه، أو مِنْدِيلٍ، أو حَبْلٍ، أو يَغُمَّه بوِسَادةٍ، أو شيءٍ يَضَعُه على فِيهِ وأنْفِه، أو يَضَعَ يَدَيْه عليهما فيَمُوتَ، فهذا إن فَعَلَ به ذلك مُدَّةً يَمُوتُ في مِثْلِها غالِبًا فمات، فهو عَمْدٌ فيه القِصاصُ. وبه قال عمرُ بن عبد العزيزِ، والنَّخَعِيُّ، والشافعيُّ. وإن فَعَلَه في (25) مُدَّةٍ لا يموتُ في مثلِها غالبًا فمات، فهو عَمْدُ الخَطَإِ، إلَّا أن يكونَ ذلك يَسِيرًا في العادةِ (26)، بحيثُ لا يُتَوَهَّمُ الموتُ منه، فلا يُوجِبُ ضمانًا؛ لأنَّه بمَنْزِلةِ لَمْسِه. وإن خَنَقَه، وترَكه مُتأَلِّمًا (27) حتى مات، ففيه القَوَدُ؛ لأنَّه مات من سِرَايةِ جِنايَتِه، فهو كالمَيِّتِ من سِرَايةِ الجُرْحِ، وإن تَنَفّسَ وصَحَّ، ثم مات، فلا قَوَدَ؛ لأنَّ الظَّاهرَ أنَّه لم يَمُتْ منه، فأشْبَهَ ما لو انْدَمَلَ الجُرْحُ ثم مات.
النَّوع الرابع، أن يُلْقِيَه في مَهْلَكةٍ، وذلك على أربعةِ أضْرُبٍ، أحدها؛ أن يُلْقِيَه من شاهِقٍ، كرَأْسِ جَبَلٍ، أو حائطٍ عالٍ، يَهْلِكُ به غالبًا، فيَمُوتَ، فهو عَمْدٌ (28). الثاني، أن يُلْقِيَهُ في نارٍ، أو ماءٍ يُغْرِقُه، ولا يُمْكِنُه التَّخَلُّصُ منه، إمَّا لكَثْرةِ الماءِ والنَّارِ (29)، وإمَّا لعَجْزِه عن التَّخَلُّصِ، لمَرَضٍ، [أو ضَعْفٍ](30)، أو صِغَرٍ، أو كَوْنِه مَرْبُوطًا، أو مَنَعَه الخُروجَ، أو كَوْنِه في حُفْرةٍ (31) لا يَقْدِرُ على الصُّعودِ منها، ونحو هذا، أو ألْقاهُ في بئرٍ ذاتِ نَفَسٍ (32)، فمات به، عالِمًا بذلك، فهذا كله عَمْدٌ؛ لأنَّه يَقْتُلُ غالبًا. وإن ألْقاهُ في ماءٍ يَسِيرٍ، يَقْدِرُ على الخُرُوجِ منه، فلَبِثَ فيه اخْتيارًا حتى مات،
(24) أوحى: أسرع.
(25)
سقط من: الأصل، ب.
(26)
في الأصل: "الغاية".
(27)
في م: "مثلا".
(28)
في ب زيادة: "محض".
(29)
في م: "أو النار".
(30)
سقط من: أ، م.
(31)
في م: "حفيرة".
(32)
ذات نفس: أي رائحة متغيرة.
فلا قَوَدَ فيه ولا دِيَةَ؛ لأنَّ هذا الفعلَ لم يَقْتُلْه، وإنَّما حَصَلَ موتُه بلُبْثِه فيه، وهو فِعْلُ نَفْسِه، فلم يَضْمَنْه غيرُه. وإن تَرَكه في نارٍ يُمْكِنُه التَّخلُّصُ منها لقِلَّتِها، أو كَوْنِه في طَرَفٍ منها يُمْكِنُه الخُروجُ بأدْنَى حَرَكة؛ فلم يَخْرُجْ حتى مات، فلا قَوَدَ؛ لأنَّ هذا لا يَقْتُلُ غالبًا، وهل يَضْمَنُه؟ فيه وَجْهان؛ أحدهما، لا يَضْمَنُه؛ لأنَّه مُهْلِكٌ لنَفْسِه بإقامَتِه، فلم يَضْمَنْه، كما لو ألْقاهُ في ماءٍ يسيرٍ، لكنْ (33) يضْمَنُ ما أصابتِ النَّارُ منه. والثاني، يضمنُه؛ لأنَّه جاء بالإِلْقاءِ المُفْضِى إلى الهلاكِ، وتَرْكُ التخلُّصِ لا يُسْقِطُ الضَّمانَ، كما لو فَصَدَه فتَرَكَ شَدَّ فِصَادِه مع إمكانِه، أو جَرَحَه فتركَ مُداواةَ جُرْحِه، وفارَقَ الماءَ؛ لأنَّه لا يُهْلِكُ بنَفْسِه، ولهذا يَدْخُلُه الناسُ للغُسْلِ والسِّباحةِ والصَّيْدِ، وأمَّا النَّارُ فيَسِيرُها يُهْلِكُ. وإنَّما تُعْلَمُ قُدْرَتُه على التخلُّصِ بقَوْلِه: أنا قادرٌ على التخلُّصِ. أو نحو هذا؛ لأنَّ النَّارَ لها حَرارةٌ شديدةٌ، فربَّما أزْعَجَتْه حَرارَتُها عن مَعْرِفةِ ما يَتَخلَّصُ به، أو أَذْهَبَتْ عقلَه بأَلَمِها ورَوْعَتِها. وإن ألْقاه في لُجَّةٍ لا يُمْكِنُه التَّخَلُّصُ منها، فالْتَقَمَه حُوتٌ، ففيه وَجْهان؛ أحدهما، عليه القَوَدُ؛ لأنَّه ألْقاهُ في مَهْلَكةٍ فهَلَكَ، فأشْبَهَ ما لو غَرِقَ فيها. والثاني، لا قَوَدَ عليه؛ لأنَّه لم يَهْلِكْ بها، أشْبَهَ ما لو قَتَلَه آدَمِيٌّ آخرُ. وإن ألْقاهُ في ماءٍ يَسِيرٍ، فأكَلَه سَبُعٌ، أو الْتَقَمَه حُوتٌ أو تِمْساحٌ، فلا قَودَ عليه؛ لأنَّ الذي فَعَلَه لا يَقْتُلُ غالِبًا، وعليه ضَمانُه؛ لأنَّه هَلَكَ بفِعْلِه. الضَّرْب الثالث، أن يَجْمَعَ بينَه وبينَ أسَدٍ أو نَمِرٍ، في مكانٍ ضَيِّقٍ، كزُبْيَةٍ (34) ونحوِها، فيَقْتُلَه، فهذا عَمْدٌ، فيه القِصاصُ إذا فعَل السَّبُعُ به فِعْلًا يَقْتُلُ مثلُه، وإن فَعَلَ به فِعْلًا لو فَعَلَه الآدَمِيُّ لم يكُنْ عَمْدًا، لم يجبِ القِصاصُ به؛ لأنَّ السَّبُعَ صار آلَةً للآدَمِيِّ، فكان فِعْلُه كفِعْلِه. وإن ألْقاهُ مَكْتوفًا بينَ يَدَيِ الأسَدِ، أو النَّمِرِ، في فَضاءٍ، فأكَلَه، فعليه القَوَدُ. وكذلك إن جَمَعَ بينَه وبين حَيَّةٍ في مكانٍ ضَيِّقٍ، فنَهَشَتْه فقَتَلَتْه، فعليه القَوَدُ. وقال القاضي: لا ضَمانَ عليه في
(33) في ب: "ولكن".
(34)
الزبية: حفرة للأسد.
الصُّورتينِ. وهو قولُ أصحابِ الشافعيِّ؛ لأنَّ الأسَدَ والحَيَّةَ يَهْرُبانِ من الآدَمِيِّ، ولأنَّ هذا سَبَبٌ غيرُ مُلْجِئٍ. ولَنا، أنَّ هذا يَقْتُلُ غالبًا، فكان عَمْدًا مَحْضًا، كسائرِ الصُّوَرِ. وقولُهم: إنَّهما يَهْرُبانِ غيرُ صحيحٍ، فإنَّ الأسدَ يأخُذُ الآدَمِيَّ المُطْلَقَ، فكيف يَهْرُبُ من مكتوفٍ أُلْقِىَ إليه (35) ليَأْكُلَه! والحَيّةُ إنَّما تَهْرُبُ في مكانٍ واسعٍ، أمَّا إذا ضاق المكانُ، فالغالبُ أنَّها تَدْفَعُ عن نَفْسِها بالنَّهْشِ، على ما هو العادةُ. وقد ذكر القاضي في مَن أُلْقِيَ مكتوفًا في أرضٍ مَسْبَعَةٍ، أو ذاتِ حَيَّاتٍ، فقَتَلَتْه، أنَّ في وُجُوبِ القِصاصِ روايتَيْن. وهذا تَناقُضٌ شديدٌ؛ فإنَّه نَفَى الضَّمانَ بالكُلِّيَّةِ في صُورةٍ كان القتلُ فيها أغْلَبَ، وأوْجَبَ القِصاصَ في صُورةٍ كان فيها أنْدَرَ. والصَّحِيحُ أنَّه لا قِصاصَ ههُنا، ويجبُ الضَّمانُ؛ لأنَّه فَعَل به فِعْلًا مُتَعَمّدًا تَلِفَ به. لا يَقْتُلُ مثلُه غالِبًا. وإن أنْهَشَه حَيّةً أو سَبُعًا فقَتَلَه، فعليه القَوَدُ إذا كان ذلك ممَّا يَقْتُلُ غالِبًا، فإن كان ممَّا لا يقْتلُ غالبًا، كثُعبانِ الحِجازِ، أو سَبُعٍ صغيرٍ، ففيه وَجْهان؛ أحدهما، فيه القَوَدُ؛ لأنَّ الجُرْحَ لا يُعْتَبرُ فيه غَلَبةُ حُصُولِ القَتْلِ به، وهذا جُرْحٌ، ولأنَّ الحَيَّةَ من جِنْسِ ما يَقْتُلُ غالبًا. والثاني، هو [شِبْهُ عَمْدٍ](36)؛ لأنَّه لا يقتلُ غالبًا، أشْبَهَ الضَّرْبَ بالعَصَا والحَجَرِ. وإن كَتَفه وألْقاه في أرْضٍ غيرِ مُسْبَعَةٍ، فأكلَه سَبُعٌ، أو نَهَشَتْه حَيَّةٌ، فمات (37)، فهو شِبْهُ عَمْدٍ (38). وقال أصحابُ الشافعيِّ: هو خَطَأٌ مَحْضٌ. ولَنا، أنَّه فَعَلَ به فِعْلًا لا يَقْتُلُ مثلُه غالبًا عَمْدًا، فأَفْضَى إلى هَلاكِه، أشْبَهَ ما لو ضَرَبَه بِعَصًا فمات. وكذلك إن ألْقاه مَشْدُودًا في موضعٍ لم يَعْهَدْ وُصُولَ زِيادةِ الماءِ إليه. فأمَّا إن كان في مَوْضعٍ يعْلَمُ وصولَ زيادةِ الماءِ إليه في ذلك الوقتِ، فمات بها، فهو عَمْدٌ مَحْضٌ. وإن كانتْ غيرَ مَعْلُومةٍ، إمَّا لكَوْنِها تَحْتَمِلُ (39) الوُجُودَ (40) وعَدَمَه، أو لا تُعْهَدُ أصْلًا،
(35) في الأصل، ب:"له".
(36)
في م: "شبه العمد".
(37)
سقط من: ب.
(38)
في أ، م:"العمد".
(39)
في ب: "تحمل".
(40)
في أ، م:"الوجوب" تحريف.
فهو شِبْهُ عَمْدٍ. الضَّرْب الرابع، أن يَحْبِسَه في مكانٍ، ويَمْنَعَه الطَّعامَ والشرابَ مُدَّةً لا يَبْقَى فيها حتى يَمُوتَ، فعليه القَوَدُ؛ لأنَّ هذا يَقْتُلُ غالبًا، وهذا يخْتلِفُ باخْتلافِ الناسِ والزَّمانِ والأحوالِ، فإذا كان عَطْشانَ في شِدَّةِ الحَرِّ، مات في الزَّمَنِ القليلِ، وإن كان رَيَّانَ والزمنُ باردٌ أو معتدلٌ، لم يَمُتْ إلَّا في زمنٍ طويلٍ فيُعْتَبَرُ هذا فيه. وإن كان في مُدَّةٍ يمُوتُ [في مثلِها](41) غالبًا، ففيه القَوَدُ. وإن كان لا يَموتُ في مثلِها غالبًا (42)، فهو عَمْدُ الخَطَإِ. وإن شَكَكْنا فيها، لم يَجِب القَوَدُ؛ لأنَّنا شكَكْنَا في السببِ، ولا يَثْبُتُ الحُكْمُ مع الشَّكِّ في سَبَبِه، سِيَّما القِصاصُ الذي يَسْقُطُ بالشُّبُهاتِ.
النوع الخامس، أن يَسْقِيَه سُمًّا، أو يُطْعِمَه شيئًا قاتلًا، فيموتَ به، فهو عَمْدٌ موجِبٌ للقَوَدِ، إذا كان مثلُه يقْتُلُ غالبًا. وإن خَلَطَه بطعامٍ، وقَدَّمَه إليه، فأكَلَه أو أهْداهُ إليه فأكلَه (43)، أو خَلَطه بطَعامِ رَجُلٍ، ولم يَعْلَمْ (43) ذلك فأكَلَه، فعليه القَوَدُ؛ لأنَّه يقْتُلُ غالبًا. وقال الشافعيُّ، في أحدِ قَوْلَيْه: لا قَوَدَ عليه؛ لأنَّه أكَلَه مُخْتارًا، فأشْبَهَ ما لو قَدَّمَ إليه سِكِّينًا، فطَعَنَ بها نَفْسَه، ولأنَّ أنَسَ بن مالكٍ رَوَى، أنَّ يَهُودِيَّةً أتتْ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم بشَاةٍ مَسْمُومةٍ، فأكَلَ منها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ولم يَقْتُلْها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (44). قال (45): وهل تجبُ الدِّيَةُ (46)؟ فيه قَوْلان. ولَنا، خبرُ اليَهُوديَّةِ، فإنَّ أبا سَلَمةَ، قال فيه: فماتَ بِشْرُ بن الْبَراءِ، فأمَر بها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فقُتِلَتْ. أخْرجه أبو داودَ (47). ولأنَّ هذا يقْتُلُ
(41) في الأصل، ب:"فيها".
(42)
في م زيادة: "ففيه القود وإن كان لا يموت في مثلها غالبا". تكرار.
(43)
سقط من: أ، م.
(44)
أخرجه البخاري، في: باب قبول الهدية من المشركين، من كتاب الهبة. صحيح البخاري 3/ 214. وأبو داود، في: باب في من سقى رجلا سما أو أطعمه فمات أيقاد منه، من كتاب الديات. سنن أبي داود 2/ 481. والإِمام أحمد، في: المسند 3/ 218.
(45)
سقط من: ب.
(46)
في م: "القود".
(47)
في: باب في من سقى رجلا سما أو أطعمه فمات أيقاد منه، من كتاب الديات. سنن أبي داود 2/ 482، 483.
غالبًا، ويُتَّخَذُ طريقًا إلى القَتْلِ كثيرًا، فأوْجَبَ القِصاصَ، كما لو أكْرَهَه على شُرْبِه. فأمَّا حديثُ أنسٍ، فلم يذكُرْ فيه أنَّ أحدًا مات منه. ولا يجبُ القِصاصُ إلَّا أن يُقْتَلَ به، ويجوزُ أن يكونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم[لم يَقْتُلْها قبلَ أن يموتَ بشرُ بن الْبَراءِ، فلما مات، أَرْسَلَ إليها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم](48)، فسأَلَها، فاعْتَرفتْ، فقَتَلَها، فنَقَلَ أنسٌ صَدْرَ القِصَّةِ دُونَ آخرِها. ويَتَعَيّنُ حملُه عليه، جَمْعًا بين الخَبَرَيْنِ. ويجوزُ أن يتْرُكَ قَتْلَها؛ لكَوْنِها ما قَصَدَتْ بشرَ بن الْبَراءِ، إنَّما قَصَدتْ قتلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فاخْتَلَّ العَمْدُ بالنِّسْبةِ إلى بِشْرٍ، وفارَقَ تَقْديمَ السِّكِّينِ؛ لأنَّها لا تُقَدَّمُ إلى الإِنْسانِ (49) ليَقْتُلَ بها نَفْسَه، إنَّما تُقَدَّمُ إليه ليَنْتَفِعَ بها، وهو عالمٌ بمَضَرَّتِها ونَفْعِها، فأشْبَهَ ما لو قُدِّمَ إليه السُّمُّ وهو عالِمٌ به. فأمَّا إن خَلَطَ السُّمَّ بطعامِ نَفْسِه، وتَرَكَه في منزِلِه، فدخلَ إنسانٌ فأكَلَه، فليس عليه ضَمانٌ بقِصاصٍ ولا دِيَةٍ؛ لأنَّه لم يقْتُلْه، وإنَّما الدَّاخلُ قَتَلَ نَفْسَه، فأشْبَهَ ما لو حَفَرَ في دارِه بِئرًا، فدخلَ رجلٌ، فوَقَعَ فيها، وسَواءٌ قَصَدَ بذلك قَتْلَ الآكلِ، مثل أن يَعْلَمَ أنَّ (50) ظالمًا يُريدُ هُجومَ دارِه، فترَكَ السُّمَّ في الطَّعامِ ليَقْتُلَه، فهو كما لو حَفَرَ بئرًا (51) في دارِه ليَقَعَ فيها اللِّصُّ إذا دخلَ ليَسْرِقَ منها، ولو دخلَ رجلٌ بإذْنِه، فأكَلَ الطعامَ المَسْمومَ بغيرِ إذْنِه، لم يَضْمَنْه لذلك. وإن خَلَطَه بطعامِ رجلٍ، أو قَدَّمَ إليه طَعامًا مَسْمومًا، وأخْبَرَه بسُمِّه فأكَلَه، لم يضْمَنْه؛ لأنَّه أكَلَه عالمًا بحالِه، فأشْبَهَ ما لو قَدَّمَ إليه سِكِّينًا، فوَجَأَ بها نَفْسَه. وإن سَقَى إنسانًا سُمًّا، أو خَلَطَه بطعامِه (52)، فأكَلَه ولم يَعْلَمْ به، وكان ممَّا لا يقْتُلُ مثلُه غالبًا، فهو شِبْهُ عَمْدٍ. فإن اخْتُلِفَ فيه هل يَقْتُلُ مثلُه غالبًا أو لا؟ وثَمَّ بَيِّنةٌ تَشْهَدُ، عُمِلَ بها. وإن قالت البَيِّنةُ: هو يَقْتُلُ النِّضْوَ الضَّعِيفَ دُونَ القَويِّ. أو غير هذا، عُمِلَ (53)
(48) سقط من: الأصل. نقل نظر.
(49)
في م: "إنسان".
(50)
سقط من: م.
(51)
سقط من: ب.
(52)
في ب: "بطعام".
(53)
في م: "عملت".
على حَسبِ ذلك. وإن لم يكُنْ مع أحدِهِما بَيِّنَةٌ، فالقولُ قولُ السَّاقِي؛ لأنَّ الأصْلَ عدمُ وُجوبِ القِصاصِ، فلا يَثْبُتُ بالشَّكِّ، ولأنَّه أعْلَمُ بصِفَةِ ما سَقَى. وإن ثَبَتَ أنَّه قاتلٌ، فقال: لم أعْلَمْ أنَّه قاتلٌ. ففيه وَجْهان؛ أحدهما: عليه القَوَدُ؛ لأنَّ السُّمَّ من جِنْسِ ما يَقْتُلُ (54) غالبًا، فأشْبَهَ ما لو جَرَحَه، وقال: لم أعْلَمْ أنَّه يموتُ منه. والثاني: لا قَوَدَ عليه؛ لأنَّه يجوزُ أن يَخْفَى عليه أنَّه قاتلٌ. وهذه (55) شُبْهةٌ يَسْقُطُ بها القَوَدُ.
النَّوع السادس، أن يَقْتُلَه بسِحْرٍ يَقْتُلُ غالبًا، فيَلْزَمُه القَوَدُ؛ لأنَّه قَتَلَه بما يقْتُلُ غالبًا، فأشْبَهَ ما لو قَتَلَه بسِكِّينٍ. وإن كان ممَّا لا يقْتُلُ غالبًا، أو كان (56) ممَّا يقْتُلُ ولا يقْتُلُ، ففيه الدِّيَةُ دُونَ القِصاصِ؛ لأنَّه عَمْدُ الخَطَإِ، فأشْبَهَ ضَرْبَ العَصَا.
النَّوع السابع، أن يَتَسَبَّبَ إلى قَتْلِه بما يقْتلُ غالبًا، وذلك أربعة أضْرُبٍ؛ أحدها، أن يُكْرِهَ رجلًا على قَتْلِ آخَرَ، فيقتلَه، فيَجِبُ القِصاصُ على المُكْرِهِ والمُكْرَهِ جميعًا. وبهذا قال مالكٌ. وقال أبو حنيفةَ، ومحمدٌ: يجبُ القِصاصُ على المُكْرِهِ دُونَ المُباشِرِ؛ لقولِه عليه الصلاة والسلام: "عُفِيَ لأمّتِي عَنِ الْخَطَإِ والنِّسْيانِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْه"(57). ولأنَّ المُكْرَهَ آلةٌ للمُكْرِه، بدليلِ وُجُوبِ القِصاصِ على المُكْرِهِ، ونَقْلِ فِعْلِه إليه، فلم يجبْ على المُكْرَهِ، كما لو رَمَى به عليه فقَتَلَه. وقال زُفَر: يجبُ على المُباشِرِ دُونَ المُكْرِهِ؛ لأنَّ المُباشرةَ تَقْطَعُ حُكْمَ السَّبَبِ (58)، كالحافرِ مع الدَّافعِ، والآمِرِ مع القاتلِ. وقال الشافعيُّ: يجبُ على المُكْرِهِ، وفي المُكْرَهِ قَوْلان. وقال أبو يوسفَ: لا يجبُ على واحدٍ منهما؛ لأنَّ المُكْرِهَ لم يُباشِر القَتْلَ، فهو كحافرِ البِئْرِ، والمُكْرَهَ ملْجَأٌ، فأشْبَهَ المَرْمِيَّ به على إنْسانٍ. ولَنا، على وُجُوبِه على المُكْرِهِ، أنَّه تَسَبَّبَ إلى قَتْلِه بما يُفْضِي إليه غالبًا، فأشْبَهَ ما لو أَلْسَعَهُ (59) حَيَّةً، أو ألْقَاهُ على أسَدٍ في زُبْيَةٍ. ولَنا، على
(54) في م زيادة: "به".
(55)
في الأصل، ب:"وهذا".
(56)
في ب: "وكان".
(57)
تقدم تخريجه، في: 1/ 146.
(58)
في الأصل، ب:"النسب".
(59)
في م: "ألسعته".
وُجُوبِه على المُكْرَهِ، أنَّه قَتَلَه عمْدًا ظُلْمًا لاسْتِبْقاءِ نَفْسِه، فأشْبَهَ ما لو قَتَلَه في المَخْمَصةِ ليَأْكُلَه. وقولُهم: إنَّ المُكْرَهَ مُلْجَأٌ. غيرُ صحيحٍ، فإنَّه مُتَمَكِّنٌ من الامْتِناعِ، ولذلك أَثِمَ بقَتْلِه، وحَرُمَ عليه، وإنَّما قَتَلَه عند الإِكراهِ ظَنًّا منه (60) أن في قَتْلِه نجاةَ نَفْسِه، وخَلَاصَه من شَرِّ المُكْرِهِ، فأشْبَهَ القاتلَ في المَخْمَصةِ ليَأكُلَه. وإن صار الأمْرُ إلى الدِّيَةِ، وَجَبَتْ عليهما. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفةَ، ومحمدٌ: لا دِيَةَ على المُكْرَهِ؛ بناءً منهما على أنَّه آلةٌ. وقد بَيَّنَّا فسادَه، وإنَّما هما شَرِيكانِ، يجبُ القِصاصُ عليهما جميعًا، فوَجَبَتِ الدِّيَةُ عليهما، كالشَّرِيكَيْنِ بالفِعْلِ، وكما يَجِبُ الجزاءُ على الدَّالِّ على الصَّيْدِ في الإِحْرامِ والمُباشِر (61)، والرّدْءِ والمُباشِرِ (62) في المُحارَبةِ. فعلى هذا، إن أحَبَّ الوَلِيُّ قَتْلَ أحَدِهما، وأخْذَ نِصْفِ الدِّيَةِ من الآخَرِ، أو العَفْوَ عنه، فله ذلك. الضَّرْب الثاني، إذا شَهِدَ رَجُلانِ على رجلٍ بما يُوجِبُ قَتْلَه، فقُتِلَ بشهادَتِهما، ثم رَجَعا، واعْتَرفا بتَعَمُّدِ القَتلِ ظُلْمًا، وكَذِبهِما في شَهادَتِهما، فعليهما القِصاصُ. وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفةَ: لا قِصاصَ عليهما؛ لأنَّه تَسَبُّبٌ غيرُ مُلْجِئٍ، فلا يُوجِبُ القِصاصَ، كحَفْرِ البِئْرِ. ولَنا، ما رَوَى القاسمُ بن عبد الرحمنِ، أنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدا عندَ عليٍّ، كَرَّمَ اللهُ وجهَه، على رجلٍ أنَّه سَرَقَ، فقَطَعَه، ثم رَجَعَا عن (63) شهادَتِهما، فقال عليٌّ: لو أعْلَمُ أنَّكُما تعَمَّدْتُما، لَقَطعْتُ أيْدِيَكُما. وغَرَّمَهُما دِيَةَ يَدِه (64). ولأنَّهما توَصَّلَا إلى قَتْلِه بسَبَبٍ يَقْتُلُ غالبًا، فوَجَبَ عليهما القِصاصُ، كالمُكْرَهِ، الضَّرْب الثالث، الحاكمُ إذا حَكَمَ على رجلٍ بالقَتْلِ، عالِمًا بذلك مُتَعَمِّدًا
(60) سقط من: الأصل، ب.
(61)
في ب: "والمباشرة".
(62)
في ب: "والمباشرة". وفي م: "كالمباشر".
(63)
في م: "على".
(64)
أخرجه البخاري، في: باب إذا أصاب قوم من رجل. . .، من كتاب الديات. صحيح البخاري 9/ 10. والدارقطني، في: كتاب الحدود والديات وغيره. سنن الدارقطني 3/ 182. والبيهقي، في: باب الاثنين أو أكثر يقطعان يد رجل معا، من كتاب الجنايات. السنن الكبرى 8/ 41. وابن أبي شيبة، في: باب الرجلان يشهدان على رجل بالحد، من كتاب الديات. المصنف 9/ 408، 409. كلهم عن الشعبي.