الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتابُ الظِّهار
الظِّهارُ: مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّهْرِ، وإنَّما خَصُّوا الظَّهْرَ بذلك مِن بين سائِر الأعضاءِ؛ لأنَّ كلَّ مركوبٍ يُسَمَّى ظَهْرًا، لحصولِ الرُّكُوبِ على ظهرِه فى الأغْلَبِ، فشَبَّهُوا الزَّوجةَ بذلك. وهو مُحَرَّمٌ؛ لقولِ اللَّهِ تعالى:{وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} (1). ومعناه أَنَّ الزَّوجةَ ليست كالأُمِّ فى التَّحريمِ. قال اللَّهُ تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (1). وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} (2). والأَصْلُ فى الظِّهارِ الكِتابُ والسُّنَّةُ؛ أمَّا الكتابُ فقولُه تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (1). والآيَةُ الَّتى بَعْدَها. وأمَّا السُّنَّةُ، فَرَوَى أبو داوُدَ (3)، بإسنادِه عن خُوَيْلَةَ بنتِ مَالِكٍ بنِ ثَعْلَبَةَ، قالت: ظاهَرَ (4) منِّى أوسُ بنُ الصَّامِتِ، فجِئْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشْكُو (5)، ورسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُجادِلُنى فيه، ويقول:"اتَّقِى اللَّهَ؛ فإنَّه ابْنُ عَمِّكِ". فما بَرِحْتُ حتَّى نَزَلَ القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا} (6). فقال: "يَعْتِقُ رَقَبَةً". فقُلْتُ (7): لا يَجِدُ. قال: "فيَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ". فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّه شيخٌ كبيرٌ، ما به مِنْ صيامٍ. قال:"فلْيُطْعِمْ ستِّينَ مِسكينًا". قلتُ: ما عندَه من شىءٍ يتصدَّقُ بهِ.
(1) سورة المجادلة 2.
(2)
سورة الأحزاب 4.
(3)
فى: باب فى الظهار، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 513، 514.
كما أخرجه الإمام أحمد، فى: المسند 6/ 410، 411.
(4)
فى النسخ: "تظاهر".
(5)
سقط من: الأصل.
(6)
سورة المجادلة 1.
(7)
فى أ، ب، م:"فقالت".
قال: "فإنِّى (8) سأُعِينُه بِعَرَقٍ مِن تَمْرٍ". فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، فإنِّى أُعينُه بعرقٍ آخَرَ. قال:"قَدْ أحْسَنْتِ، اذْهَبِى فَأطْعِمِى عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وارْجِعِى إلَى ابْنِ عَمِّكِ". قال الأصْمَعِىُّ: العَرَقُ، بفتح العَيْنِ والرَّاءِ: هو ما سُفَّ (9) مِن خُوصٍ، كالزِّنْبِيلِ الكبيرِ. ورَوَى أيضًا (10)، بإسنادِه عن سليمانَ بن يَسارٍ، عن سَلَمَةَ بنِ صَخْرٍ الْبَياضِىِّ، قال: كنتُ أُصِيبُ من النِّساءِ ما لا يُصيبُ غيرى، فلمَّا دَخَلَ شهرُ رمضانَ، خِفْتُ أَنْ أُصيبَ من امرأتى شيئًا يتَتايَعُ (11) حتى أُصْبِحَ، فظاهَرْتُ مِنها حتَّى يَنْسَلِخَ شهرُ رمضانَ، فبيْنا هى تَخدِمُنى ذاتَ لَيْلَةٍ، إذْ تَكَشَّفَ لى منها شىءٌ، فلم أَلْبَثْ أن نَزَوْتُ عليها، فلمَّا أصبحتُ خَرَجْتُ إلى قومى، فأخبرتُهم الخبرَ، وقلتُ: امْشُوا معى إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قالوا: لا واللَّهِ. فانْطَلقْتُ إلى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فأخبرتُه الخَبَرَ، فقال:"أَنْتَ بِذَاكَ يا سَلَمَةُ؟ "(12). فقلتُ: أنا بذاكَ يا رسولَ اللَّهِ، وأنا صابِرٌ لحكمِ اللَّهِ، فاحْكُمْ فىَّ ما أراكَ اللَّهُ. قال:"حَرِّرْ رَقَبَةً". قلتُ: والَّذِى بَعَثَكَ بالحقِّ ما أمْلِكُ رَقَبَةً غيرَها. وضَرَبْتُ صَفْحَةَ رَقَبَتِى. قال: "فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ". قلتُ: وهل أَصَبْتُ الَّذى أصَبْتُ إلَّا مِن الصِّيامِ؟ . قال: "فَأطْعِمْ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ بَيْن سِتِّينَ مِسْكِينًا". قلتُ: والذى بعَثك بالحقِّ، لقد بِتْنا وَحْشَيْنِ (13)، ما لنَا طَعامٌ. قال:"فَانْطَلِقْ إلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِى زُرَيْقٍ، فَلْيَدْفَعْهَا إلَيْكَ". قال: "فَأطْعِمْ
(8) فى الأصل: "فأنا".
(9)
سُفَّ: أى نُسِج.
(10)
فى: باب فى الظهار، من كتاب الطلاق. سنن أبى داود 1/ 513.
كما أخرجه الترمذى، فى: باب ومن سورة المجادلة، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 12/ 185، 186. والدارمى، فى: باب فى الظهار، من كتاب الطلاق. سنن الدارمى 2/ 163، 164. والإمام أحمد، فى: المسند 4/ 37. وانظره فى 4/ 382.
(11)
التتابع: الوقوع فى الشر من غير فكرة ورويَّة.
(12)
أى: أنت المُلِمُّ بذاك، أو أنت المرتكب له؟
(13)
يقال: رجل وحش. إذا كان جائعا، لا طعام له.
سِتِّينَ مِسْكِينًا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ، وكُلْ أنْتَ وعِيالُكَ بَقِيَّتَهَا". فَرَجَعْتُ إلى قومى، فقلتُ: وَجَدْتُ عندَكمُ الضِّيقَ وسُوءَ الرَّأْىِ، ووَجدتُ عندَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم السَّعَةَ وحُسْنَ الرَّأْىِ، وقد أَمَرَ لى بصَدَقتِكُم.
فصل: وكلُّ زَوْجٍ صحَّ طلاقُه صحَّ ظِهارُه، وهو البالِغُ العاقِلُ، سواءٌ كان مسلمًا أو كافرًا، حرًّا أو عبدًا. قال أبو بكرٍ: وظِهارُ السَّكْرانِ مَبْنِىٌّ على طلاقِه. قال القاضى: وكذلك ظِهارُ الصَّبِىِّ مَبْنِىٌّ على طَلاقِه. والصَّحيحُ أَنَّ ظِهارَ الصَّبِىِّ غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّها يَمينٌ موجبةٌ للكفَّارةِ، فلم تَنْعَقِدْ منه، كاليمينِ باللَّهِ تعالى، ولأنَّ الكفَّارةَ وَجَبَتْ لما فيه من قَوْلِ المُنْكَرِ والزُّورِ، وذلك مرفوعٌ عن الصَّبِىِّ؛ لكَوْنِ القلمِ مرفوعًا عنه. وقد قيل: لا يَصِحُّ ظِهارُ العَبْدِ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (14). والعبدُ لا يَمْلِكُ الرِّقابَ. ولَنا، عُمومُ الآيةِ، ولأنَّه يَصِحُّ طلاقُه، فَصَحَّ ظِهارُه، كالحُرِّ. فأمَّا إيجابُ الرَّقبةِ، فإنَّما هو على مَنْ يَجِدُها، ولا يَبْقَى الظِّهارُ فى حقِّ مَنْ لا يَجِدُها، كالمُعْسِرِ، فَرْضُه الصِّيامُ. ويَصِحُّ ظِهارُ الذِّمِّىِّ. وبه قال الشَّافِعِىُّ، وقال مالِكٌ، وأبو حَنِيفَةَ: لا يَصِحُّ منه؛ لأنَّ الكفَّارَةَ لا تَصِحُّ منه، وهى الرَّافِعَةُ للتَّحْريمِ، فلا يصحُّ منه التَّحرِيمُ، ودليلُ أَنَّ الكفَّارَةَ لا تصحُّ منه، أنَّها عبادةٌ تفتقرُ إلى النِّيَّةِ، فلا تصِحُّ منه، كسائِرِ العباداتِ. ولَنا، أَنَّ مَنْ صحَّ طلاقُه صحَّ ظهارُه، كالمسلمِ. فأمَّا ما ذكَرُوه فيَبْطُلُ بكفَّارَةِ الصَّيْدِ إذا قَتَلَه فى الحَرَمِ، وكذلك الحَدُّ يُقامُ عليه. ولا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّكْفِيرَ لا يصِحُّ منه؛ فإنَّه يصحُّ منه العِتْقُ والإِطْعامُ، وإنَّما لا يصِحُّ منه الصَّوْمُ (15)، فلا تمتنعُ صحَّةُ الظِّهارِ بامتناعِ بعضِ أنواعِ الكفَّارةِ، كما فى حقِّ العَبْدِ. والنِّيَّةُ إنَّما تُعْتَبَرُ لتَعْيِين الفِعْلِ للكفَّارةِ، فلا يَمْتَنِعُ ذلك فى حقِّ الكافِرِ، كالنِّيَّةِ فى كِناياتِ الطَّلاقِ. ومَنْ يُخْنَقُ (16) فى الأحْيانِ، يصحُّ ظهارُه فى إفاقَتِه، كما يصحُّ طَلاقُه فيه.
(14) سورة المجادلة 3.
(15)
فى أ، ب:"الصيام".
(16)
الخُناق: داء يمتنع معه نفوذ النفس إلى الرئة والقلب.