الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قول أبى بكرٍ. وكذلك (4) قال: لو قَطَعَ المُقْتَصُّ اليَدَ الأُخْرَى عُدْوانًا، لَسَقَطَ القِصاصُ؛ لأنَّهما تَساوَيا في الألَمِ والدِّيَةِ والاسْمِ، فتَقاصَّا وتساقَطَا، ولأنَّ إيجابَ القِصاصِ يُفْضِى إلى قَطْعِ يَدَىْ كلِّ واحدٍ منهما، وإذْهابِ مَنْفَعةِ الجِنْسِ، وإلْحاقِ الضَّرَرِ العظيمِ بهما جميعا. ولا تَفْرِيعَ على هذا القولِ لوُضُوحهِ. وكلُّ واحدٍ من القَطْعَيْنِ (5) مَضْمُونٌ (6) بسِرَايتِه (7)؛ لأنَّه عُدْوانٌ. وقال ابنُ حامدٍ: إن كان أخَذَها عُدْوانًا، فلكلِّ واحدٍ منهما القِصاصُ على صاحِبه، وإن أخَذَها بتَراضِيهِما، فلا قِصاصَ في الثانيةِ؛ لرِضَا صاحِبها ببَذْلِها، وإذْنِه في قَطْعِها، وفى وُجُوبِه في الأولَى وجهان؛ أحدهما، يَسْقُطُ؛ لما ذكَرْنا. والثانى، لا يَسْقُطُ؛ لأنَّه رَضِىَ بتَرْكِه بعِوَضٍ لم يَثْبُتْ له (8)، فكان له الرُّجُوعُ إلى حَقِّه، كما لو باعَه سِلْعةً بخَمْرٍ وقَبَّضَه إيَّاه. فعلى هذا، له القِصاصُ إلَّا أنَّه لا يَقْتَصُّ إلَّا بعدَ انْدِمالِ الأُخْرَى، وللجانِى دِيَةُ يَدِه. فإذا وَجَبَ للمَجْنِى عليه دِيَةُ يَدِه، وكانت الدِّيَتانِ واحدةً، تَقاصَّا، وإن كانت إحْداهما أكثرَ (9) من الأُخْرَى، كالرَّجُلِ مع المرأةِ، وجَبَ الفَضْلُ (10) لصاحِبِه.
فصل:
وإذا قال المُقْتَصُّ للْجانِي: أَخْرِجْ يَمِينَكَ لأَقْطَعَها. فأخْرَجَ يَسارَه، فقَطَعَها، فعلى قولِ أبى بكرٍ، يُجْزِئُ ذلك، سَواءٌ قَطَعَها عالِمًا بها أو غيرَ عالمٍ. وعلى قوْلِ ابن حامدٍ، إن أخْرَجَها عَمْدًا عالمًا بأنَّها يَسارُه، وأنَّها لا تُجْزِئُ، فلا ضَمانَ على قاطِعِها ولا قَوَدَ؛ لأنَّه بذَلَها بإخْراجِه لها لا (11) على سَبِيلِ العِوَضِ، وقد يقومُ الفِعْلُ في
(4) في م: "ولذلك".
(5)
في ب: "المقطعين".
(6)
في الأصل: "مصونه". وفى ب: "مضمونه".
(7)
في الأصل: "سرايته".
(8)
سقط من: ب، م.
(9)
في ب، م:"أكبر".
(10)
في ب، م:"القصاص".
(11)
في الأصل: "إلا".
ذلك مَقامَ النُّطْقِ، بدليلِ أنَّه لا فَرْقَ بين قَوْلِه: خُذْ هذا فكُلْه. وبين اسْتِدْعاءِ ذلك منه، فيُعْطِيه إيَّاه. ويفارِقُ هذا ما لو قَطَعَ يَدَ إنسانٍ وهو ساكِتٌ؛ لأنَّه لم يُوجَدْ منه البَذْلُ، ويُنْظَرُ في المُقْتَصِّ، فإن فَعَلَ ذلك عالِمًا بالحالِ (12)، عُزِّرَ؛ لأنَّه مَمْنُوعٌ منه لحَقِّ اللَّه تعالى. وهل يَسْقُطُ القِصاصُ في الْيَمِينِ؟ على وَجْهَيْن؛ أحدهما، يسقطُ؛ لأنَّ قاطِعَ اليَسارِ تَعَدَّى بقَطْعِها، ولأنَّه قَطَعَ إحْدَى يَدَيْه، فلم يَمْلِكْ قَطْعَ اليَدِ الأُخْرَى، كما لو قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ اليُسْرَى مَكان يَمِينِه، فإنَّه لا يَمْلِكُ قَطْعَ يَمِينِه. والوَجْهُ الثاني، أنَّه لا يَسْقُطُ. وهو مذهبُ الشافعىِّ. وفَرّقُوا بين القِصاصِ وقَطْعِ السارِقِ من ثلاثة أوْجُه؛ أحدها، أنَّ الحَدَّ مَبْنِىٌّ على الإِسْقاطِ، بخلافِ القِصاصِ. والثانى، أنَّ (13) اليَسارَ لا تُقْطَعُ في السَّرِقةِ وإن عُدِمَتْ يَمينُه؛ لأنَّه يُفَوِّتُ مَنْفَعةَ الجِنْسِ في الحَدِّ، بخِلافِ القِصاصِ. والثالث، أنَّ اليَدَ لو سَقَطَتْ بأكِلَةٍ (14) أو قِصاصٍ، سَقَطَ القَطْعُ في السَّرِقةِ، فجاز أن يَسْقُطَ بقَطْعِ (15) اليَسارِ، بخلافِ القِصاصِ، فإنَّه لا يَسْقُطُ، ويَنْتَقِلُ إلى البَدَلِ، لكن لا تُقْطَعُ يَمِينُه حتى تَنْدَمِلَ يَسارُه؛ لئلَّا يُؤَدِّىَ إلى ذهابِ نَفْسِه. فإن قيل: أليس لو قَطَعَ يَمِينَ رَجُلٍ ويَسارَ آخرَ، لم يُؤَخَّرْ أحَدُهما إلى انْدِمالِ الآخَرِ؟ قُلْنا: الفَرْقُ بينهما أنَّ القَطْعَيْنِ مُسْتَحقَّانِ قِصاصًا، فلهذا جَمَعْنا بينهما، وفي مَسْأَلَتِنا أحَدُهما غيرُ مُسْتَحَقٍّ، فلم نَجْمَعْ بينهما، فإذا انْدَمَلَتِ الْيَسارُ قَطَعْنا اليَمِينَ، فإن سَرَى قَطْعُ اليسارِ إلى نَفْسِه، كانت هَدْرًا، ويجبُ في تَرِكَتِه دِيَةُ اليَمِينِ (16)؛ لتَعَذُّرِ الاسْتِيفاءِ فيها بمَوْتِه. وإن قال المُقْتَصُّ منه: لم أعْلَمْ أنَّها اليَسارُ، أو ظَنَنْتُ أنَّها تُجْزِئُ عن اليَمِينِ. نَظَرْتَ في المُسْتَوْفِى، فإن عَلِمَ أنَّها يَسارُه، وأنَّها لا تكونُ قِصاصًا، ضَمِنَها بدِيَتِها ويُعَزَّرُ. وقال بعضُ الشافعيةِ: عليه القِصاصُ؛ لأنَّه قَطَعَها مع العِلْمِ بأنَّه
(12) في ب: "بحال".
(13)
سقط من: الأصل.
(14)
الأكلة، كفَرِحَة: داء في العضو يأتكل منه.
(15)
في ب: "بقلع".
(16)
في ب: "اليمنى".
ليس له قَطْعُها. ولَنا، أنَّه قَطَعَها ببَذْلِ صاحبِها، فلم يجبْ عليه القِصاصُ، كما لو عَلِمَ باذِلُها. وإن كان جاهِلًا، فلا تَعْزِيرَ عليه، وعليه الضَّمانُ بالدِّيَةِ؛ لأنَّه بذَلَها له (17) على وَجْهِ البَذْلِ، فكانتْ مَضْمُونةً عليه، ولأنَّها مَضْمُونةٌ لو كان القاطِعُ عالمًا بها، وما وَجَبَ ضَمانُه في العَمْدِ، وَجَبَ في الخَطإِ، كإتْلافِ المالِ، والقِصاصُ باقٍ له في اليَمِينِ، ولا تُقْطَعُ حتى تَنْدَمِلَ الْيَسارُ، فإذا انْدَمَلَتْ، فله قَطْعُ الْيَمِينِ (18)، فإن عَفَا، وَجَبَ بَدَلُها، ويتقاصَّان، وإن سَرَتِ اليَسارُ إلى نفسِه، كانت مَضْمونةً بالدِّيَةِ الكاملةِ، وقد تعذَّرَ قَطْعُ اليَمِينِ (18)، ووَجَبَ له نِصْفُ الدِّيَةِ، فيتقاصَّان به، ويَبْقَى نِصْفُ الدِّيَةِ لِوَرَثةِ الجانِى. وإن اخْتَلَفَا في بَذْلِها، فقال الجانِى: إنَّما بذَلْتُها بَدَلًا عن اليَمِينِ. وقال المَجْنِىُّ عليه: بذَلْتَها بغيرِ (19) عِوَضٍ. أو قال: أخْرَجْتُها دَهْشَةً. فقال: بل عالِمًا. فالقولُ قولُ الجانِى؛ لأنَّه أعْلَمُ بنِيَّتِه، ولأنَّ الظاهِرَ أنَّ الإِنسانَ لا يَبْذُلُ طَرَفَه للقَطْعِ تَبَرُّعًا، مع أنَّ عليه قَطْعًا مُسْتَحقًّا. وهذا مَذْهَبُ الشافعىِّ. وإن كان باذِلُ اليَسارِ مجنونًا مثل أن يُجَنَّ بعدَ وُجُوبِ القِصاصِ عليه، فعلى قاطِعِها ضَمانُها بالقِصاصِ إن كان عالِمًا، وبالدِّيَةِ إن كان مُخْطِئًا؛ لأنَّ بَذْلَ المجنونِ ليس بشُبْهةٍ. وإن كان مَنْ له القِصاصُ مجنونًا، ومَن عليه القِصاصُ عاقِلًا، فأخْرَجَ إليه يَسارَه أو يَمِينَه فقَطَعها، ذَهَبَتْ هَدْرًا؛ لأنَّه لا يَصِحُّ منه الاسْتِيفاءُ، ولا يجوزُ البَذْلُ له، ولا ضَمانَ عليه؛ لأنَّه أتْلَفَها ببَذْلِ صاحِبها، لكنْ إن كان المقطوعُ اليُمْنَى، وقد (20) تعَذَّرَ استيفاءُ القِصاصِ فيها لتَلَفِها، فيكونُ للمَجْنُونِ دِيَتُها. وإن وَثَبَ المجنونُ عليه فقَطَعَ يَدَه التي لا قِصاصَ فيها، فعلى عاقِلَتِه دِيتُها، وله القِصاصُ في الأُخْرَى، وإن قَطَعَ الأُخْرَى، فهو مُسْتَوْفٍ حَقَّه، في أحَدِ الوَجْهينِ؛ لأنَّ حَقَّه مُتَعَيِّنٌ فيها، فإذا أخَذَها قَهْرًا، سَقَطَ حَقُّه، كما لو أتْلَفَ وَدِيعَتَه. والثاني، لا يَسْقُطُ حقُّه، وله عَقْلُ يَدِه، وعَقْلُ يَدِ الجاني على عاقِلَتِه؛
(17) سقط من: ب، م.
(18)
في الأصل: "اليمنى".
(19)
في م: "في غير".
(20)
في الأصل، م:"فقد".