الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال في قوله تعالى: (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ)«1» انه تعالى يغفر بشرط التوبة والإيمان- على ما علم من آيات أخرى- ويعذب من يشاء بترك الإيمان والطاعة والإصرار على الكبائر. وقيل: أراد بهذا بيان قدرته، أي هو قادر على أن يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، ولكن لا يفعل إلا الحكمة، فيغفر للمؤمنين ويعذّب الكافرين.
خامسا: منهج الحاكم في التأويل بين اللغة والعقل
هذا طرف من شواهد الحاكم في التأويل في ميدانه الحقيقي عنده، وتلك هي عنايته الكبيرة باللغة واعتماده عليها في التأويل والتفسير جميعا- كما أوضحنا ذلك في هذا الفصل والفصل السابق- ولا بد لنا هنا من كلمة نصف بها هذا المنهج قبل أن نقف على آثاره في كتاب الحاكم:
يلتقي الحاكم مع أسلافه من مفسّري المعتزلة في أصوله الفكرية التي يصدر عنها في التأويل، وربما لا يختلف معهم في ذلك إلا في بعض النقاط والأمور الفرعية، أو في تشدده في بعض المسائل. كما يلتقي معهم أيضا في عنايته الكبيرة بموضوع اللغة في تفسير القرآن. والوصف الجامع الذي ينطبق على منهجه في التفسير والتأويل- وإن شئت قلت: التأويل، حيث يبدو أثر المناهج أكثر وضوحا- ينطبق عليهم كذلك.
ونستطيع أن نصف هذا المنهج الذي يتخذ فيه العقل والمقدمات العقلية- كما رأينا- أساسا للتأويل بأنه «المنهج العقلي في التفسير» .
وربما وصف بعضهم هذا المنهج بأنه: المنهج اللغوي في التفسير، لما يجده من عناية المعتزلة الفائقة باللغة في التفسير والتأويل.
(1) الآية 14 سورة الفتح، ورقة 57/ ظ.
والذي نراه أن «اللغة» لا تعدو أن تكون «الأداة» التي أعانت المعتزلة على تأويلاتهم، كما رأينا ذلك في تفسير الحاكم، ولكنها لم تكن- على أي تقدير- الحامل لهم على هذا التأويل أو الباعث عليه، وهم في عنايتهم هذه باللغة يلتقون مع كثير من مفسري الأشاعرة وأهل السنة، كالراغب الأصفهاني وأبي منصور الماتريدي، ومع ذلك فإن اختلاف المناهج يبقى ظاهرا بينهم وبين هؤلاء، على تفاوتهم في سلوك التقادير البعيدة والمجازات المعقدة في كثير من الأحيان.
وعندنا أن اختلاف المناهج وتمييز منهج الحاكم وسائر المعتزلة لا يمكن الوقوف عليه من خلال ثقافة المعتزلة اللغوية الكبيرة، وحسن إفادتهم من هذه الثقافة في التفسير والتأويل، سواء في ذلك إحاطتهم بفقه اللغة، وقواعد النحو والاعراب، ووقوفهم على شواهد لا تحصى من شعر العرب «1» .. وإنما يمكن الوقوف عليه من خلال مجموعة الأصول والقواعد التي يسير عليها المفسر، والتي كشفنا عنها عند الحاكم.
ولعل منهج المعتزلة في التفسير- بعامة- تفسره وتبين مدى اختلافه
(1) قال المبرد: «ما رأيت أفصح من أبي الهذيل والجاحظ، وكان أبو الهذيل أحسن مناظرة، شهدته في مجلس وقد استشهد في جملة كلامه بثلاثمائة بيت» شرح العيون للحاكم. وقد عقد الحاكم في هذا الكتاب- كما قدمنا- فصلا ذكر فيه «من ذهب إلى العدل من الشعراء وأئمة اللغة» قال في أوله: «أكثر نحاة البصرة وكثير من أهل اللغة وجملة من الشعراء وأئمة الأدب يذهبون مذهب العدل» انظر الأوراق 163 - 166.
عن مناهج كثيرة أخرى، مثل هذه الكلمة العابرة التي نقلها الحاكم في ترجمته لجعفر بن مبشّر من رجال الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة، «قال الخياط: سألت جعفر بن مبشر عن قوله تعالى: (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ)، وعن الختم والطبع، فقال: أنا الآن مبادر إلى حاجة! ولكني ألقي إليك جملة تعمل عليها: اعلم أنه لا يجوز على أحكم الحاكمين أن يأمر بمكرمة ثم يحول دونها، ولا أن ينهى عن قاذورة ثم يدخل فيها! ثم تأوّل الآيات بعد هذا كيف شئت!» «1» .
ولهذا يمكننا القول: إن الخلاف في التأويل بين المعتزلة، كما رأينا صورة ذلك في كتاب الحاكم، إنما كان اختلاف تنوع، كل يحمل الآية على وجه أو مبدأ يوافق أصولهم المشتركة، بعد أن يخرج بها من الظاهر إلى المجاز، وربما اكتنف الغموض هنا شخصية الحاكم المفسر حين نراه يذهب في هذه الوجوه العديدة- في مواطن كثيرة- إلى القول بأن الكل محتمل!
على أن ما أسعفت به اللغة الحاكم وشيوخ الاعتزال من قبله، في التفسير والتأويل- كما نطالع ذلك جليا في كتاب الحاكم وكتب شيخه القاضي عبد الجبار- بدون تعسف أو شطط في أكثر الأحيان، يمكن أن يسهم في الحكم على منهجهم بأنه لم يكن قولا بالهوى، أو تأويلا بالباطل، كما يحاول خصومهم أن يزعموا ذلك. وأقرب ما يمكن أن نصف به هذا المنهج بأنه منهج متكامل لا ينقض فيه أصل بفرع. أما الحكم عليه بالصحة
(1) شرح العيون 1/ 76.
أو الفساد فذلك فرع عن الحكم على آرائهم في أمور كثيرة، أهمها نظرتهم الخاصة- المتقدمة- إلى معرفة الله تعالى وصفاته، أو نظريتهم في «المعارف» بعامة، وإن كنا نشك في سلامة «استقلال» العقل بمعرفة الله تعالى وصفاته على النحو الذي لا بد منه ابتداء عند المعتزلة! - والموضوع جدير بأن يفرد بالبحث «1» - كما أن هذا المنهج لا يخلو من بعض الثغرات الكبيرة، كالإفراط في قياس الغائب على الشاهد، وتطبيق الاعتبارات الإنسانية في الأمور الإلهية- مما يؤخذ على المعتزلة في الغالب- إلى جانب عدم تفريق كثير من أصحاب هذا المنهج بين ما يقضي العقل ببطلانه، ولو بحسب قوانين عالم الشهادة، مثل مسألة الرؤية، وبين ما لا سبيل له إلى الحكم عليه، لأنه مما لا يدخل تحت الحواس، ونتوقف معرفته على الخبر، مثل عذاب القبر والمعراج ونزول عيسى، مما أنكره بعضهم! حتى أنكر عليهم ذلك مفسرنا الحاكم الذي كان فيما يبدو شديد التفريق بين هذين الأمرين.
وبعد، فإن هذا المنهج العقلي، وما يلازمه من ثقافة كلامية واسعة قد تركا في تفسير الحاكم أثرا واضحا، كما سنتحدث عن ذلك في الفصل التالي.
(1) تعرضنا لهذا الموضوع بالتفصيل في دراستنا لمنهج المعتزلة في تفسير القرآن، التي أشرنا إليها في صفحة سابقة.