الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هم الذين ينسب إليهم أيضا كثيرا من الأقوال ويسميهم «أهل العدل» أو مشايخه أو «مشايخ العدليين» - كما سنجد كل ذلك في شواهده التي ننقلها عنه- وغالبا ما تكون المواطن التي ينقل فيها عن أهل التفسير أو أهل العدل- جملة- موطن اتفاق بين أولئك، أو بين هؤلاء.
خامسا: حول طريقته في الافادة من المصادر
وطريقة الحاكم التي جرى عليها في وضع كتابه، والتي ألمح إليها في مقدمته حين قال إن للأولين فضل السبق، وللآخرين جودة التهذيب وزيادة الفوائد، وإنه قد جمع في كتابه جملا وجوامع من علوم القرآن قد أعفي معها- إلى حد بعيد- من ذكر أدلة الأقوال التي يوردها، وبخاصة أقوال مفسري المعتزلة الذين يأتي على رأسهم: الثلاثة الذين تحدثنا عنهم، وفي مقدمتهم أبو مسلم الذي انفرد بكثير من الآراء ووجوه التأويل، وبعض الأدلة الموجزة العارضة التي كان يذكرها لبعض الأقوال لا يمكنها أن تثبت للمناقشة والجدل، سواء أكان ذلك من الحاكم نفسه- كما كان يفعل في بعض الأحيان- أم من غيره. وبالرغم من أننا خسرنا بذلك الكثير، إلا أن حشد مثل هذا العدد الكبير من «التفاسير» على صعيد واحد، والموازنة بين آراء أصحابها والترجيح بين أدلتهم، لم يكن من هم الحاكم في شيء، بل لعله لو فعل ذلك لزاد حجم تفسيره على حجم كتاب الرازي، ولصعب علينا الوقوف على معالم شخصيته في التفسير والتأويل من وراء ركام الردود والمناقشات. ونورد فيما يلي- في سبيل إيضاح مدى طريقته في التهذيب والاختصار- بعض الشواهد، مقارنة بنقول بعض المفسرين الآخرين في نفس الآيات:
قال الحاكم في تفسير قوله تعالى: (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً
…
فلم يزد في النقل عن أبي مسلم على ذكر قوله إن الجنة كانت في الأرض، وإن قوله (اهبطوا) لا يقتضي نقيضه، ثم رد عليه ذلك، في حين أن الرازي ينقل أبي مسلم في التدليل على ما ذهب إليه كلاما طويلا نثبته فيما يلي:
قال: «تأويل الآية: هذه الجنة كانت في الأرض، والإهباط:
الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله تعالى (اهْبِطُوا مِصْراً) واحتج عليه بوجوه: أحدها: أن هذه الجنة لو كانت هي دار الثواب لكانت جنة الخلد، ولو كان آدم في جنة الخلد لما لحقه الغرور من إبليس بقوله:
(هل أدلّك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) ولما صح قوله:
(1) الآية 35 من سورة البقرة.
(2)
التهذيب، المجلد الأول، ورقة 60/ ظ.
(ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ). وثانيهما: أن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله تعالى: (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ). وثالثها: أن إبليس لما امتنع من السجود لعن، فما كان يقدر مع غضب الله على أن يصل إلى جنة الخلد! ورابعها: أن الجنة التي هي دار الثواب لا يفنى نعيمها لقوله تعالى: (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) ولقوله تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) إلى أن قال (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي غير مقطوع، فهذه الجنة لو كانت هي التي دخلها آدم عليه السلام لما فنيت لكنها تفنى لقوله تعالى:(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ولما خرج منها آدم عليه السلام، لكنه خرج منها، وانقطعت تلك الراحات.
وخامسها: أنه لا يجوز في حكمته تعالى أن يبتدئ الخلق في جنة يخلّدهم فيها ولا تكليف، لأنه تعالى لا يعطي جزاء العاملين من ليس بعامل، ولأنه لا يهمل عباده، بل لا بد من ترغيب وترهيب ووعد ووعيد. وسادسها:
لا نزاع في أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام في الأرض، ولم يذكر في هذه القصة أنه نقله إلى السماء، ولو كان تعالى قد نقله إلى السماء لكان ذلك أولى بالذكر، لأن نقله من الأرض إلى السماء من أعظم النعم، فدل ذلك على أنه لم يحصل. وذلك يوجب أن المراد من الجنة التي قال الله تعالى (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) جنة أخرى غير جنة الخلد» «1» .
وبالرغم من أن الحاكم قد يجزئ النقل عن المفسرين والاستشهاد
(1) ملتقط جامع التأويل، ص 2 - 3 (التفسير الكبير 3/ 3).
بتأويلاتهم في الآية الواحدة- أو الآيات- تبعا لتقسيمه لها إلى جمل ومقاطع «تفسيرية» حتى يظن أنه أسرف في الاختصار والتلخيص، أو أنه- على العكس من ذلك- لم يصل في اختصاره إلى الحد الذي ألمحنا اليه، فإنه في الواقع لم يخالف طريقته المعهودة في «التهذيب» في جميع الأحوال، ولنا أن نضرب على ذلك مثالا آخر من نقوله عن أبي مسلم أيضا، وهو تفسيره لآية (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ
…
) «1» التي ألمحنا إلى اطالته القول فيها فيما تقدم، فنقوله المبعثرة فيها عن أبي مسلم قد تتجاوز ما نقله الرازي عنه في نفس الآية، ولكن الحاكم لم يزد في النقل عنه في تفسير قوله تعالى:(وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) على القول: قال أبو مسلم:
«أي لم ينزل السحر على الملكين- وكان الحاكم قد قدم في إعراب الآية أن أبا مسلم يذهب إلى أن «ما» نافية- لأن ما ينزل عليهما ينزله الله تعالى، والسحر لا يضاف اليه، ولهذا أضافه إليهم وكفّرهم به، ويعلمون الشياطين دون الملكين» «2» .
في حين أن الرازي ينقل عن أبي مسلم في إنكاره أن يكون السحر نازلا عليهما الوجوه الآتية: «الأول: أن السحر لو كان نازلا عليهما لكان منزله هو الله، وذلك غير جائز لأن السحر كفر وعبث، ولا يليق بالله
(1) الآية 102 من سورة البقرة.
(2)
التهذيب ورقة 132.
تعالى إنزال ذلك. الثاني: أن قوله: (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) يدل على أن تعليم السحر كفر، فلو ثبت في الملائكة أنهم يعلمون السحر لزمهم الكفر، وذلك باطل. الثالث: كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لتعليم السحر فكذلك في الملائكة بطريق الأولى. الرابع:
أن السحر لا ينضاف إلا إلى الكفرة والفسقة والشياطين المردة، فكيف يضاف إلى الله ما ينهى عنه ويتوعد عليه بالعقاب؟ وهل السحر إلا الباطل المموّه؟! وقد جرت عادة الله تعالى بإبطاله كما قال في قصة موسى عليه السلام:(ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ)«1» .
وبعد، فإن في نقول الحاكم والرازي عن أبي القاسم وأبي مسلم والقاضي مزيدا من الأمثلة «2» ، وفي نقول الشريف المرتضى عنهما وعن الجبائيين والرماني وأبي القاسم، ما يصلح لمزيد من المقارنات والشواهد، وإن كانت طريقة الشريف المرتضى في الأعم هل طريقة الحاكم نفسه.
(1) ملتقط جامع التأويل، ص 8 والآية 81 من سورة يونس.
(2)
أورد الحاكم رأي أبي مسلم في تفسير قوله تعالى: (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ثم أورده أدلته الكثيرة على رأيه، ويبدو أنه رأى أنها ما تزال مطولة بالرغم مما أورده، فختمها بقوله:(ذكر جميع ذلك أبو مسلم وطول الكلام فيه) التهذيب ورقة 32.
الباب الثالث منهج الحاكم في تفسير القرآن