الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأوّل مكانة الحاكم
نقف في هذا الفصل من الباب الأخير على منزلة الحاكم في الثقافة الإسلامية على ضوء ما قدمناه من الكلام على تفسيره وسائر كتبه، كما نقف على القيمة العامة لكتابه «التهذيب» . ثم نتحدث في الفصل الثاني عن أثر هذا الكتاب لدى المفسرين.
أولا: منزلة الحاكم العامة
تتلخص هذه المنزلة في النقاط التالية:
1) يعتبر الحاكم مؤرخ المعتزلة الوحيد في الحقبة ما بين نهاية عصر أبي هاشم (ت 321) ومن هو في طبقته، إلى أواخر القرن الخامس على وجه التقريب. والتي ترجم فيها للقاضي- بتوسع مفرد- ولمن هو في طبقته، وطبقة تلامذته وتلامذتهم ممن تلقى عنهم الحاكم أو عاصرهم، فأعطانا بذلك صورة واضحة عن حالة المعتزلة في هذا العصر.
2) كما يعتبر الحاكم- على ضوء ما اتفق له الوقوف عليه من الكتب فيما يبدو، وبخاصة كتاب المقالات للكعبي- أول من وضع بين أيدينا أسماء المعتزلة- في فصول خاصة ألحقها بالطبقات- من العترة عليهم السلام،
وممن بويع له بالخلافة، وممن كان من الأمراء والرؤساء. كما أبان لنا في فصول أخرى عمن ذهب كذلك مذهب العدل من اللغويين والنحاة والشعراء والفقهاء والزهاد والرواة- من جميع الأقطار- بالإضافة إلى فصل هام ختم به الطبقات، وهو «خروج أهل العدل» تحدث فيه عن الحروب التي خاضها رجال المعتزلة، أسماهم، مع بعض الخارجين على بني أمية، أوضح فيه عمق الصلة بين الشيعة والمعتزلة من جهة، وعدم «اعتزال» أهل العدل للأمور السياسية من جهة أخرى.
3) قدمنا القول في قيمة كتابه «السفينة» في التاريخ، ومدى اعتماد الزيدية عليه في التاريخ لأئمتهم ودعاتهم، وذكرنا بعض نقولهم في ذلك «1» حتى ليمكن عن الحاكم واحدا من أهم مؤرخي الزيدية. أما منزلته في التاريخ بعامة فلا يمكن الوقوف عليها، كما لا يمكن تحديد مكانته الثابتة في التاريخ للزيدية بخاصة إلا بعد الاطلاع على كتاب «السفينة» ذاته.
وما زلت منذ أن وقع اختياري على دراسة الحاكم جادا في طلب هذا الكتاب؛ حتى وقفت عليه أخيرا في بعض المكتبات، وأرجو أن أفرغ من دراسته وتحقيقه والتعليق عليه في وقت قريب إن شاء الله.
4) قدم لنا القاضي عبد الجبار في موسوعته الكلامية الكبرى «المغنى في أبواب التوحيد والعدل» صورة جدلية دقيقة وشاملة لآراء المعتزلة بوجه عام، ولآراء المدرسة الجبائية بخاصة، حتى غد القاضي لسان هذه المدرسة وقلمها وأبرز أشياعها على الإطلاق، وقد ذكرنا أن الحاكم يعتبر آخر رجالات هذه المدرسة الكبار بعد القاضي.
والواقع أن كتاب
(1) راجع صفحة 110 - 111 من هذه الرسالة.
«المغنى» للقاضي وبعض كتبه الأخرى، على الرغم مما تشتمل عليه من إحاطة فائقة، وغوص على دقيق المعاني قد لا يتيسر تصويره والتعبير عنه ورد الاعتراضات من دونه، إلا للقليل من الأفذاذ أمثال القاضي، إلا أن كثرة التفريعات التي يحتوي عليها كتاب المغنى بخاصة، مع محاولة القاضي الدائبة لربط الفروع بالأصول، ورد المسائل البعيدة المتناثرة إلى أصولها القليلة الجامعة، خلع على هذا الكتاب شيئا من الصعوبة في كثير من المواطن، كما جعل فرص الاستفادة منه غير ميسرة على الوجه الأكمل، إلا لمن وطّن نفسه على إدامة النظر في جميع أجزاء الكتاب، وعلى القراءة الطويلة فيه، في سبيل الوقوف على مسألة من المسائل!
ومن هنا تأتي واحدة من أهم ميزات الحاكم، وهي أنه جعل من كتاباته الكلامية- كما يدل على ذلك كتابه «شرح عيون المسائل» - تلخيصا ذكيا ودقيقا لكتب القاضي ولآراء المدرسة الجبائية، بعبارة سهلة قريبة واضحة قد تفوق عبارة للقاضي- الذي وضع كتابه «المغنى» بطريقة الإملاء- على التحقيق.
فإذا أضفنا إلى ذلك النقص الواقع في كتاب المغنى، والذي يسده (شرح العيون) أدركنا أهم ميزة للحاكم- على الإطلاق- بوصفه «ملاخلّا» ضروريا وهاما- ومدرسيا كذلك- إلى المدرسة الجبائية والقاضي عبد الجبار.
5) ولعل هذا يفسر طرفا من اعتماد أئمة الزيدية وشيوخهم في اليمن على كتب الحاكم وعنايتهم بها، ونقلهم عنها في أكثر كتبهم ومصنفاتهم،- في الوقت الذي لم يكونوا يفتقدون فيه كتب القاضي- كما نجد ذلك
عند يحيى بن حميد صاحب كتاب «نزهة الأنظار» «1» ، والإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى بن المرتضى، وغيرهما. وقد قال يحيى بن الحسين في الطبقات في ترجمة الحاكم عند ذكر كتابه «عيون المسائل» إن الإمام المهدي اختصر كتاب القلائد منه «2» وقد وقفنا من كتب ابن المرتضى على كتاب «الدرر الفرائد في شرح كتاب القلائد- المذكور- في تصحيح العقائد» «3» فوجدنا اعتماده على شرح العيون للحاكم كبيرا أيضا. ولعل مراجعة شاملة لآثار ابن المرتضى (ت 840) والإمام يحيى بن حمزة (ت 749)«4» بصورة خاصة- وهما من المكثرين في التأليف في الفقه والكلام- على ضوء ما تم الوقوف عليه من كتب الحاكم، تكشف عن المزيد من هذه العناية والاعتماد.
6) ويمكننا القول- من جهة أخرى- إن الحاكم بما اتفق له الوقوف عليه من تفاسير المعتزلة وكتبهم في علم الكلام، وكتب الزيدية في الفقه والأصول، وغير ذلك من المصنفات في أنواع العلوم الأخرى، وبما فرغ الحاكم نفسه له من التوفر على هذه الكتب، جمعا ودراسة وتلخيصا وتقديما على أحسن وجوه العرض والترتيب «5» كل ذلك على نظر وبصيرة
(1) انظر النزهة ورقة 16 في بعدها.
(2)
الطبقات الزهر، ورقة 34.
(3)
مصور دار الكتب رقم 28674 ب.
(4)
انظر البدر الطالع للشوكاني ص 331 - 333 وأئمة اليمن لابن زبارة ص 228 - 234.
(5)
وهذا واضح في تفسيره كما تحدثنا عنه، وواضح في كتابه شرح العيون، وفي «التأثير والمؤثر» الذي نص في مقدمته أن جمع ما فيه مما-