الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأثر قد ورد بأن تنزيله مفوض الى النبي صلى الله عليه وسلم، وتأويله الى علي رضي الله عنه، ثم الى سائر الحجج، وأنه لا بد من معرفتهم ليصح أن يعرف مراد الله تعالى، فجعلوا ذلك طريقا الى القدح في الإسلام والدين لأنه مبني على القرآن والسنة، وجعلوهما ظاهرين، وجعلوا المرجع إلى الباطن الذي لا يعلم إلا من جهة الحجة
…
فسدّوا باب معرفة الإسلام، وطعنوا فيه أعظم ما يمكن، عظمت مضرتهم لأنهم يتسترون بالإسلام ويظهرون الانقياد له، فاذا أوردوا على الضعفاء هذه الطريقة كان الضرر بقولهم أعظم من الضرر بالملحدة وسائر أعداء الدين، الذين ظاهر أحوالهم ينفّر عن قولهم». «1»
القاعدة الرابعة: إثبات المجاز في القرآن، ومنع الحمل عليه إلا إذا تعذرت الحقيقة
وأخيرا فان من أهم ما يتفرع على الأصل اللغوي في التفسير عند الحاكم، إثباته المجاز والتوسع في القرآن، قال في قوله تعالى:(بِيَدِهِ الْمُلْكُ)«2» إنه «يدل على أن اليد تذكر ولا يراد بها الجارحة. ويدل على أن في القرآن توسعا ومجازا» . وقال في قوله تعالى: (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ)«3» إنه- كذلك- يدل على إثبات المجاز في القرآن، لأن القرية لا تكون ظالمة ولا مقصومة، والمراد أهلها. قال «وهذا هو المجاز لأنه على ضروب، إما أن يقيد بزيادة أو بنقصان أو بشبيه»
(1) المغني 16/ 363 - 364.
(2)
الآية 1 سورة الملك، ورقة 107/ و.
(3)
الآية 11 سورة الأنبياء، ورقة 15.
وقد أثبت الحاكم أولا أن في اللغة مجازا، ثم أثبت وجوده في القرآن «خلاف ما يقوله أهل الظاهر» «1» ، قال: إن أهل اللغة نصوا على أن الكلام على ضربين، منه ما قد استعمل فيما وضع له، ومنه ما استعمل في غير ما وضع له، وأنهم سموا الأول: حقيقة لا مجاز لها، ولا يجوز أن يكون مجاز لا حقيقة له. ثم إن استعمال المجاز إنما يكون بنقل أو زيادة أو نقصان.
أما أهم الوجوه التي تفصل بين الحقيقة والمجاز، كما قدمها الحاكم بين يدي حديثه عن المجاز في القرآن، فهي:
1) نص أهل اللغة أن هذه اللفظة حقيقة في شيء، مجاز في آخر، فكما أنا نعرف بنقلهم اللغة، كذلك الحقيقة والمجاز «2»
2) الاطراد، وهو أن يطرد اللفظ في معنى ولا يطرد في معنى آخر، إلا أن يكون هناك مانع، فبذلك يعلم أن اطرادها لكونها حقيقة، واذا لم يطرد من غير مانع علمنا أنه مجاز إذ لو كان حقيقة لاطرّد، فالأول كالدار والرأس والفرس ونحوه، والثاني كالحمار للبليد، والأسد للشجاع، وكقوله:(واسأل القرية)، ويدل عليه أنه يصح نفيه مع بقاء اللغة، بخلاف الحقيقة، فتقول: هذا رجل وليس بحمار!
3) أن يكون للفظ اشتقاق وتصرّف، ثم يحصل ذلك في أحد المعنيين دون الآخر، فيحكم بأنه في الأول حقيقة، وفي الثاني مجاز،
(1) شرح العيون، ورقة 267.
(2)
المصدر السابق.
لأن تصرفه يدل على تمكنه من ذلك المعنى، قال الحاكم: «وهذا نحو ما قاله مشايخنا أن الأمر حقيقة في القول، مجاز في الفعل، لأن لهذا اللفظ تصرفا، ثم تصرفه اختص بالقول، حتى قالوا: أمر يأمر أمرا فهو آمر، وذلك مأمور، وأمر يؤمر، فتصرف فيه دون الفعل.
ولا يقال: فمن الحقائق ما لا تصرف له أصلا، كالرائحة ونحوها، لأنا لم نقل: كل ما لا تصرف له فهو مجاز، بل قلنا: إذا كان للفظ تصرف ثم وجد ذلك التصرف في موضع ومعنى، ولم يوجد في موضع آخر، علم أنه حقيقة في الأول، مجاز في الثاني، فأما عدم التصرف فقد تكون ألفاظ لا تصرف لها وإن كانت حقيقة» «1» .
4) أن يعلم أن معنى اللفظ لا يصح فيما علق به فيعلم أنه مجاز، وذلك نحو قوله:(جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) و (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) لأن الإرادة والسؤال لا تصح على الجماد، فعلمنا أن استعماله فيه مجاز.
أ) أما إثبات المجاز في القرآن، فدليله عند الحاكم «أنه تعالى خاطب بلغة العرب فجاز أن يخاطب بضروب كلامهم، يبين ذلك أنه خاطب بالعموم والخصوص، والمجمل والمبيّن، ثم من كلامهم الحقيقة والمجاز فجاز أن يخاطبهم بكل واحد منهما .. ولأنه تعالى قال:(جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) والإرادة لا يصح تعلقها بالجدار، ولأنه تعالى قال:
(يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ)(فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) وكل ذلك اتساع في الكلام».
(1) المصدر السابق.
ولا يصح الالتفات إلى ما احتج به أهل الظاهر من أن استعمال المجاز إنما يكون للحاجة، أو يوقع في اللبس، لأن المجاز باب من أبواب البلاغة والتصرف في الكلام «وكل ما كان للاتساع أكثر كان أفصح وأحسن، وربما يكون أبلغ في المعنى» ، ولأن اللّبس المزعوم يزول بالقرائن المتصلة به الدالة على المراد.
كما لا يصح أيضا الالتفات إلى قولهم إن القرآن كله حق فوجب أن يكون كله حقيقة! وإنه لا يحسن العدول عن الحقيقة مع القدرة عليها، وذلك لأن استعمال المجاز حق وصدق وإن كان استعمالا للكلام في غير ما وضع له في الأصل، وقد استعمله على ذلك أهل اللغة، ولا يمتنع أن يكون حقا ودلالة مع كونه مجازا! يدل عليه ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا أنجشة رفقا بالقوارير، قال الحاكم: فهذا من أفصح الكلام وأدلّه على المراد، وهو حق وإن لم يكن حقيقة!
كما أن العدول عن الحقيقة إلى المجاز يحسن إذا كان فيه غرض صحيح من اختصار، أو رشاقة لفظ وعذوبة، أو مبالغة في الوصف ونحوها، قال الحاكم:«وإنما لا يوصف تعالى بأنه «متجوز» - من المجاز- لما فيه من إيهام الخطا، كما لا يسمى معلّما، ولا يسمى بأسماء كثيرة للإيهام، وإن كان صحيحا». «1»
ب) والواجب عند الحاكم- في الوقوف على معاني الكلام- أن يحمل الكلام على ظاهره وحقيقته في أصل اللغة، إلا إذا قامت الدلالة على نقله
(1) شرح العيون، ورقة 267.
عن الحقيقة إلى المجاز، ويجب في هذه الحالة أن تكون الدلالة ظاهرة غير خفية لأن الكلام لا يحتمل الحذف والزيادة والنقل لدلالة غامضة، كما سنفصل ذلك عند الكلام على التأويل في الفصل التالي. ونكتفي هنا بذكر عدد من الأمثلة والشواهد التي توضح مدى حرص الحاكم على الحقيقة والظاهر، وأنه كان لا يرى معنى للعدول عنهما إلى المجاز «1» - وهنا قد يخالف كثيرا من مفسري المعتزلة قبله- إلا في نطاق محدود سنتولى الحديث عنه والإفاضة في شواهده في مبحث التأويل.
قال في قوله تعالى: (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا
(1) أما إرادة الحقيقة والمجاز معا بلفظ واحد فقد أجازه فيما يبدو، وإن كان شيوخه قد اختلفوا في ذلك، قال في قوله تعالى:(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قيل: سبح لله أي نزه إما قولا واعتقادا، وإما دلالة. (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يدل جميع ذلك على وحدانيته وكونه قادرا عالما سميعا بصيرا حكيما عدلا فلا شيء ينظر إليه إلا ويعرف به، عن أبي علي وأبي مسلم. وقيل: التسبيح عند المكلفين.
بتنزيهه عما لا يليق به، ومن الجماد على وجهين: أحدهما: الدلالة على تنزيهه.
والثاني: إذعانها لما يريد إنفاذه فيها، وخضوع كل شيء لقدرته. ثم قال الحاكم:«ومتى قيل: التسبيح الأول حقيقة، والثاني مجاز، فكيف يراد بلفظ واحد؟ قلنا: أما عند شيخنا أبي على والقاضي فيجوز لأنه لا تنافي بينهما وبين إرادتيهما، وأما عند أبي هاشم وأبي عبد الله فلا يجوز أن يريدهما بلفظ واحد، ولكن إذا ثبت أن كل واحد منهما مراد فلا بد أنه تكلم به مرتين أراد في كل مرة واحدا!» . 95/ ظ سورة الصف.
آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) «1» قيل: تنظرون أي ترونه وتعاينونه، عن أكثر المفسرين. وقيل: ليس هو الرؤية، وإنما هو كقولك: ضربت وأهلك ينظرون فما أتوك، عن الفراء. قال الحاكم:«وليس بالوجه لأنهم عاينوا فرق البحر والتطام الماء، وغرق آل فرعون، وإذا صح حمله على ظاهره فلا معنى للعدول عنه .. » .
وقال في قوله تعالى: (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ)«2» إن الآية تدل أن أبا إبراهيم، وهو آزر، كان كافرا، قال الحاكم:«ولا مانع منه فلا يصلح العدول عنه إلى أنه كان عمه، وقد نطق القرآن بذكر الأب في مواضع، ولا يحمل على المجاز إلا بدليل» .
وقال في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
…
) «3» إن الكلام على الملائكة، قيل هم صنفان: صنف حملة العرش، وصنف يطوفون به
…
وقيل:
أراد بحملة العرش: الذين يعبدون الله حوله، كما يقال: حملة القرآن، لمن تعبّد الله به، لا أنه حمله على الحقيقة قال الحاكم: «والأول الوجه لأنه الحقيقة، ويجوز أن يكونوا متعبّدين بحمله وبالتسبيح
…
».
وأورد في تفسير قوله تعالى: (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ)«4» هذه الأقوال:
(1) الآية 50 سورة البقرة، ورقة 77/ ظ.
(2)
الآية 26 سورة الزخرف، ورقة 38/ ظ.
(3)
الآية 7 سورة غافر، ورقة 18/ و.
(4)
الآية 4 سورة المدثر، ورقة 121/ و.
قيل طهرها للصلاة، عن أبي علي. وقيل: طهرها من لبسها على معصية أو عذرة، يعنى طهر الأعمال، عن ابن عباس، وأنشد:
فإني بحمد الله لا ثوب فاجر
…
لبست ولا من عذرة أتقنع
والعرب تقول لمن صدق ووفّى: طاهر الثياب، ولمن غدر ومكر:
دنس الثياب، وقال أبي بن كعب: لا تلبسها على غدر ولا ظلم ولا على إثم، ولكن البسها وأنت طاهر. وقيل: ثيابك فطهر من الذنوب، عن ابن عباس وإبراهيم وقتادة والضحاك والشعبي والزهري. وقيل: أراد طهر نفسك عن المعاصي، فكنى عن النفس بالثياب لأنها تشتمل عليه، وقيل «عملك فأصلح، عن مجاهد والضحاك. وقيل: قلبك فطهر. وقيل: خلقك فحسّن، عن الحسن ومحمد بن كعب ....
قال الحاكم: «وكل ذلك خلاف الظاهر، والظاهر ما ذهب اليه شيخنا أبو علي» وقال في الأحكام: إن الآية تدل على وجوب تطهير الثياب عند الصلاة «وإذا أمكن حمله على حقيقته فلا معنى للعدول عنه إلا بتوسع أو تعسف!» .
وذكر في تفسير قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً، كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ)«1» - في مسألة تبديل الجلود- أربعة أقوال: الأول: أنه يجدد لهم جلودا غير الجلود التي احترقت- على ظاهر التلاوة- عن قتادة وجماعة من المفسرين، قال الحاكم:«وهو الوجه» ودافع عن هذا التفسير بقوله: «ولا يقال
(1) الآية 56 سورة النساء، ورقة 166.
إن الجلد المجدّد لم يذنب فكيف يعذب؟ لأن المعذب هو الحيّ فلا اعتبار بالأطراف والجلود!». الثاني: أنها تجدّد بأن يزيل ما بها من الاحتراق ويعيدها إلى ما كان، وقد يقال مثله: غيّر وبدّل، عن الحسن وأبي علي وأبي مسلم، قال القاضي: وهذا أقرب الوجوه، وقوّى أبو علي ذلك بأنه لو أعاد جلدا آخر لعظم جسم المعاقب على مرور الأوقات! قال الحاكم:«وهذا لا يلزم لجواز أن يزيد شيئا وينقص مثله، فلا يؤدى إلى ما قال» . الثالث: أن الجلود تبدل من لحم الكافر، فيخرج من لحمه جلد آخر، عن السدي. الرابع: أن التبديل إنما هو للسراويل، وسميت بذلك للزومها جلودهم على المجاورة! قال الحاكم:
«وهذا ترك للظاهر من غير دليل» .
ونختم هذا الفصل بموقف آخر للحاكم من مسألة تمسكه بعدم العدول عن الظاهر، ردّ فيه على أبي مسلم أيضا، وعلى الأصم وأبي القاسم من مفسري المعتزلة، قال تعالى:(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)«1» أي قربت القيامة بخروج خاتم الأنبياء وآخر الأمم، قال الحاكم:«وهذا هو الوجه وعليه جماعة المفسرين» وقيل: اقتربت ساعتهم يوم بدر فإنهم يهلكون بالسيف!
(وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) قيل: انشق القمر بمكة فلقتين فلقة فوق الجبل، والأخرى أسفل من الجبال، فقال صلى الله عليه: اللهم فاشهد! وقال أيضا: اشهدوا، عن ابن مسعود، قال الحاكم: «وروى انشقاق القمر ابن مسعود وابن عمر وأنس وحذيفة وابن عباس، وجبير بن مطعم،
(1) الآية الأولى من سورة القمر، التهذيب ورقة 75/ و.
ومجاهد، وإبراهيم. وهو قول أبي علي وجماعة». وقيل: إنه ماض بمعنى المستقبل أي سينشق عند قرب الساعة، قالوا: ولو انشق لرآه كل أحد ولاشتهر، عن الحسن وعطاء والأصم وأبي القاسم. قال الحاكم:
«وهذا لا يصح لأنه خلاف الظاهر، ولأنه اشتهرت الرواية فيه» .
وقال أبو مسلم في قوله تعالى: (انْشَقَّ الْقَمَرُ) أي اتضح الأمر، قال: وهكذا عادة العرب إذا وصفوا الأمر بالظهور قالوا: هو كالشمس، ولأنه تعالى قال:(وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ .. )«1» ولم يقل: رأوا! قال الحاكم: «وهذا لا يصح لأن ما ذكره مجاز فلا يعدل عن الحقيقة، ولا مانع من حمله عليهم» .
وبعد، فإن الحاكم قد صرح في كتابه في مواطن لا تحصى برفض التفسير المجازي لعدم وجود ما يمنع من الحمل على الحقيقة.
والسؤال الآن: ما الذي يمنع من الحمل على الحقيقة والظاهر، ويحمل على العدول إلى المجاز؟ وأين يقف الحاكم من المعتزلة وسائر المفسرين، في هذا الباب؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في الفصل التالي.
(1) الآية الثانية من السورة: (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ).