الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سألت ربي منزلة وددت أني لم أكن سألته! قلت يا رب آتيت سليمان ملكا عظيما، وفلانا كذا، وفلانا كذا، فأنزل الله تعالى:(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) فقلت بلى يا رب، فقال (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) فقلت:
بلى يا رب. فقال: (وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى) فقلت بلى يا رب.
وبعد أن ذكر الحاكم اختلافهم في مدة التأخير، وأنها وصلت إلى أربعين يوما في بعض الروايات، قال: «والصحيح إن ثبت التأخير، أن يقال: إنه تأخر للمصلحة، فأما ترك الاستثناء وإن كان تأديبا من الله وتعليما لعباده؛ فلا يجوز أن تتأخر مصالح العباد لتركه الاستثناء. وأما ما ذكروه من سؤاله ليلة المعراج وبعده فغير صحيح، لأنه صلّى
الله عليه وسلم لا يسأل إلا باذن، وإذا سأل باذن لا بد أن يجاب، لأنه لو سأل بغير إذن وهو لا يعرف المصالح فلعل ما سأل يكون مفسدة، فإذا لم يفعل يكون فيه نقرة! وهذا لا يجوز».
القاعدة الثالثة: رفض «التفسير الباطني» وأن الإمام طريق معرفة القرآن
.
وهذه القاعدة أيضا تتفرع على قاعدته الأساسية أن القرآن مأخذ تفسيره من اللغة، والرد على من زعم غير ذلك، ومنهم الباطنية الذين زعموا أن للقرآن ظاهرا وباطنا، وأن معرفة الباطن إلى الإمام. ومن هنا جاء رد الحاكم في تفسيره- في بعض المواطن- لمزاعم الباطنية وأباطيلهم في «التنزيل» و «التأويل» والظاهر والباطن، وإنكاره أن يكون الإمام طريق معرفة القرآن. وقد اعتمد الحاكم في ذلك على ما ذكرناه عند
الكلام على قاعدته الأساسية من أن الكلام إنما يدل بالمواضعة، وأن المتكلم إذا كان حكيما فلا بد- متى تجرّد الكلام- من أن يريد ما يقتضيه ظاهره، وإلا كان ملبّسا ومعميا أو فاعلا للقبيح!
وقد بينا أن هذه الطريقة تقتضي في جميع الكلام أن يدل على حد واحد، وأن الأصل في التفسير أن يجري على ظاهر اللغة، وأن يستوي في معرفة القرآن جميع الذين يعرفون طريقة اللغة، فيبطل قول من قال إن له ظاهرا وباطنا، أو أن يختص بتفسيره بعضهم، سواء أكان إماما أو حجة، أم لم يكن كذلك! قال الحاكم:«معاني القرآن ما يدل عليه لفظه إن كان مبيّنا، وبيانه إن كان مجملا. وقالت الباطنية له تأويل باطن غير الظاهر، لنا: أن الكلام يدل على المراد بالمواضعة، فإن أراد ما وضع له فهو ظاهر، ويستحيل أن يقال: يدل على ما لم يوضع له!! لأنه لو أراد غير ما يقتضيه ظاهره لكان ملغزا ومعمّيا، ولأنه إذا قالوا له باطن، فليس باطنهم أولى من باطن غيرهم، فيتسع الخرق!!» «1»
1 -
والنقطة الهامة التي ينطلق منها الحاكم في الرد على مزاعم الباطنية في التفسير، هي سؤالهم عن هذا الباطن الذي هو الواجب عندهم: هل يدل الظاهر عليه أو لا يدل؟ فإن قالوا: لا يدل عليه، جعلوا القرآن عبثا!! وإن قالوا يدل، قيل لهم: فهل يمكن لأهل اللغة أن يعرفوا هذه الدلالة أم لا؟ فإن قالوا يمكن ذلك، جعلوا الباطن ظاهرا،- لأن كل أهل اللغة يمكنهم معرفته- وإن قالوا لا يمكن ذلك، نقضوا قولهم
(1) شرح عيون المسائل، ورقة 264/ ظ.
إن الظاهر يدل عليه! لأنه إذا دل عليه فلا بد لأهل اللغة معرفته.
فإن زعموا أنه لا يمكنهم مع المعرفة باللغة وبحكمة الحكيم أن يستدلوا بذلك، فقد ناقضوا. «1»
2 -
والنقطة الثانية في رد الحاكم عليهم هي في الإمام أو الحجة الذي جعلوا إليه علم الباطن، أو علم التأويل!!، يقول الحاكم- متابعا القاضي عبد الجبار- إن طريق الإمام إلى معرفة الباطن لا تكون إلا بواحد من هذه الأمور: آ- أن يعرفه بالظاهر. ب- أو من قبل الرسول ج- أو بوحي وإلهام. فإن قالوا يعلمه بظاهر الكتاب فلا طريق يصح أن يعرف به ذلك إلا ويصح من العلماء معرفته، ولا بد! وإن قالوا يعرفه من قبل الرسول، وقد ثبت أن الرسول يبلغ الجميع؛ فيجب أن تمكن الجميع معرفته، ومتى خصوا الحجة أو الإمام بذلك، فكأنهم أخرجوا الرسول من أن يكون مبعوثا ومبينا لسائر الناس، وقد علم ضرورة بطلان ذلك! وإن قالوا يعرفه بالإلهام والوحي فقد جعلوه رسولا، وأوجبوا أنه أعظم حالا من محمد صلى الله عليه وسلم! لأنه عرف الباطن دونه، ولأنه- أي الباطن- هو المعتمد في الدين دون الظاهر!
ومن وجه آخر، فإن قول الإمام في التفسير كلام! - كما يقول الحاكم- «فإن صح أن يعرف مراده بكلامه، فكلام الله أولى!» ثم ماذا تكون الحال في أيام غيبة الإمام؟ «2»
(1) المصدر السابق، وانظر المغني للقاضي عبد الجبار 16/ 365.
(2)
انظر المصدرين السابقين.
3 -
وتلح طريقة اللغة على الحاكم في نقطة ثالثة ناقش فيها الباطنية طويلا، وهي أن القرآن- الذي ثبت أنه بلغة العرب- إن أريد به الباطن الذي لا يعقل منه، فما الفرق بين أن يكون عربيا وبين أن يكون بلغة الزنج؟ ولم صار بأن يدل على شيء أولى من أن يدل على غيره، ما دامت المواضعة لا تشهد لباطن دون باطن؟ وبم ينفصل الباطنية ممن جعل باطنهم «ظاهرا» لباطن آخر! فما معنى أن يكون القرآن- إذن- (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) وأن يقول تعالى فيه:(ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)؟
قال الحاكم في قوله تعالى: (طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ)«1» «ان الآية تدل على أن القرآن بنفسه بيان خلاف ما تقوله الحشوية والإمامية» . وقال في قوله تعالى: (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)«2» انها تدل على أنه «يجب أن يكون البيان ظاهرا، فيبطل قول الرافضة والباطنية انه يختص بالتأويل بعضهم» .
قال الحاكم: «وبعد، فان غرض هؤلاء الباطنية إبطال النبوات وهدم الإسلام، إلا أنهم جعلوا هذه المسائل سببا الى ذلك وشبهة للعوام» قال القاضي رحمه الله: «ولو أنهم بنوا الأمر على طريقة النظر لما أقدموا على هذا القول مع وضوح فساده، ولكنهم توصلوا بذلك الى الاحتيال على الناس فقالوا ان القرآن له ظاهر وباطن، وتنزيل وتأويل، وان
(1) الآيتان 1 - 2 سورة القصص، التهذيب ورقة 2/ ظ.
(2)
الآية 18 سورة العنكبوت، التهذيب ورقة 64/ ظ.