الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التي لا بدّ من الوقوف عليها في تفسير كل آية، فهي والتفسير عنده- أو علوم التفسير إن صح هذا التعبير- على حد سواء.
ومهما يكن من أمر فإن الذي نعرض له في هذا الفصل إنما هو آراء الحاكم في سائر علوم القرآن، أو في أهم علوم القرآن الأخرى، كما وقفنا عليها من خلال تفسيره.
اولا: نزول القرآن
1) نزوله إلى سماء الدنيا: ذهب كثير من العلماء إلى أن القرآن نزل مرتين، الأولى إلى سماء الدنيا نزل فيها- على قول الأكثر- جملة واحدة، والثانية على النبي صلّى الله
عليه وسلم، نزل عليه فيها منجما في بضع وعشرين سنة، ويروون في نزوله إلى بيت العزة في السماء الدنيا بضعة أحاديث وصفت أسانيدها بأنها صحيحة «1» ، وقد عرض الحاكم لهذا الموضوع في مواضع عدة من تفسيره، عند الكلام على قوله تعالى:(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ)«2» وقوله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)«3» وقوله:
(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)«4» وقوله: (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)«5» وفي مواضع أخرى.
(1) انظر الاتقان للسيوطي 1/ 68.
(2)
الآية 3 سورة الدخان، ورقة 43/ و، وقال عكرمة في هذه الليلة إنها ليلة النصف من شعبان، ورجح الحاكم رأي ابن عباس وقتادة وابن زيد وأبي علي وأبي مسلم: أنها ليلة القدر من شهر رمضان.
(3)
الآيتان 21 - 22 سورة البروج، ورقة 141.
(4)
الآية 4 سورة الزخرف، ورقة 37.
(5)
الآية 1 سورة القدر، ورقة 151/ ظ.
قال في قوله تعالى: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ) إنه يدل على «أن القرآن مؤلف في اللوح، وأنه أنزله حالا بعد حال حسب المصلحة» .
أما الآيات الأخرى فأجمع ما قال في تفسيرها، ما ذكره في آية سورة القدر، قال في قوله تعالى:(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ): «فيه ثلاثة أقوال: أولها: أنزلنا القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوما؛ عن ابن عباس. وقيل: كان ينزل في كل سنة في ليلة القدر إلى سماء الدنيا ما يريد إنزاله في تلك السنة على نبيه متفرقا، ثم كذلك في كل سنة، عن أبي علي. وقيل إنا أنزلنا ما يدل عليه العباد في ليلة القدر، بمعنى بينا وأثبتنا، حكاه القاضي. وثانيها: ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر، عن الشعبي، وكان المبعث في رمضان، وثالثها:
أنزلنا القرآن في فضل ليلة القدر» قال الحاكم: «والأول أولى، لأن أكثر المفسرين عليه، وتواتر النقل بأنه عز وجل أنزل القرآن ليلة القدر إلى سماء الدنيا» .
2) الوحي: ورد في الأحاديث عدة «كيفيات» للوحي تكفلت بجمعها كتب علوم القرآن، مثل النفث في الروع، أو أن يأتي الملك إلى الرسول في مثل صلصلة الجرس، أو أن يأتيه في صورة الرجل فيكلمه، أو يأتيه في النوم، أو أن يكلم الله تعالى رسوله من وراء حجاب «1» . ولم يعرض الحاكم لموضوع الوحي- فيما بين أيدينا- إلا من خلال تفسيره لبعض الآيات التي أبان فيها عن كيفية تكليم الله تعالى للرسل، وعن المراد بإضافة القرآن إلى جبريل، وعن بعض المسائل الأخرى التي سنعرض لها
(1) راجع الاتقان 1/ 76.
في هذه الفقرة، وبالرغم من أنه لم يبحث في بعض الكيفيات السابقة إلا أنه يذهب فيما يبدو إلى أن الأصل في إنزال القرآن أنه كان بالوحي عن طريق جبريل عليه السلام، بغض النظر عن الكيفية التي كان يأتي عليها، وإن كان المعلوم من رأي الحاكم- في تفسيره لسورة النجم- أن النبي لم ير جبريل على صورته الحقيقة إلا مرتين يوم عرج إلى السماء، ويبدو لنا رأي الحاكم في نزول القرآن على الرسول وفي موضوع الوحي عموما من خلال تفسيره للآيات التالية:
أ- قال الله تعالى: (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ)«1» قال الحاكم:
والوحي في اللغة إعلام في إخفاء، وكل أمر سريع فهو وحي، ومنه:
الوحى الوحى، وتسمى الرسالة والكتاب والإشارة وحيا. وأوحى ووحى لغتان، والإلهام يسمى وحيا.
ثم قال في الآية إنها تدل على أن كلام الله تعالى لعباده على ثلاثة أوجه: «الأول: الوحي، وإن كان جميعا وحيا. وقيل: أراد بالوحي الإلهام. وقيل هو القاء الخواطر وإقامة الأدلة وشرع الاستدلال، كما فعل إبراهيم في قوله:(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)، عن أبي مسلم. وقيل الإلهام من جنس الاعتقادات لا من جنس الكلام فلا يكون الإلهام وحيا! وقيل: الخواطر وما يراه في المنام، عن أبي علي.
والثاني: من وراء حجاب، قيل: يكلمه بكلام يسمعه ولا يرى المتكلم
(1) الآية 51 سورة الشورى، التهذيب ورقة 36/ و.
بمنزلة ما يسمع من وراء الحجاب؛ لأنه تعالى لا يجوز عليه الحجاب، ولا يكون كلامه كلام من يرى ويدرك، عن أبي مسلم، وقيل: يحجب ذلك عن جميع خلقه إلا ممن يريد أن يكلمه به، نحو كلامه لموسى عليه السلام في المرة الأولى، بخلاف كلامه في المرة الثانية لأنه سمع ذلك معه السبعون، عن أبي علي، وقيل يحصل الكلام من وراء حجاب، أي مكانه الذي خلق فيه، فالحجاب راجع إلى مكان الكلام، ولا يقال إن المتكلم من وراء حجاب؛ لما بينا أن الحجاب لا يجوز عليه لأنه من صفات الأجسام، وما يسمعه الملك من هذا القبيل لأنه يسمع الكلام من غير رؤية محله والمتكلم به، ويعلم انه كلامه بمعجزة أو ما يجري مجرى المعجزة، والحجاب ثلاثة أوجه: حجاب عن إدراك الكلام إلا
المكلّم به. والثاني حجاب بمحل الكلام. والثالث بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب.
الثالث: أو يرسل رسولا من الملك فيأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيسمعه منه فيؤديه إلى الخلق (بإذنه) قيل بعلمه. وقيل بأمره، وهو الوجه».
هذه الطرق الثلاث التي ذكرتها الآية لم ينص الحاكم في أولها- وهو الوحي- على تفسير بعينه، وإن كان قوله في الإلهام إنه يسمى وحيا، إلى جانب ميله المعهود إلى رأي أبي علي الذي ختم به هنا ما قدمه من آراء؛ يرجح ميله إليه، وذهابه إلى أن المراد بالوحي في الآية الخواطر وما يراه في المنام. أما الطريق الثاني فالمراد به عنده أن الرسول يسمع كلام الله تعالى من غير واسطة، والذي يود الحاكم تأكيده هنا إنما هو عدم جواز الحجاب على الله تعالى. أما الطريق الثالث فقد «نص» فيه على أن الرسول- جبريل- يأتي بالكلام إلى النبي- على أي صفة- «فيسمعه
الرسول منه». وعلى هذه الطريقة نزلت جميع آي القرآن على الرسول صلى الله عليه، فيما يذهب اليه الحاكم رحمه الله، كما «يبدو» ذلك لنا مما يأتي:
ب- قال الله تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ. وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ)«1» قال الحاكم: الروح الامين هو جبريل، عن ابن عباس والحسن والضحاك وابن جريج، سمي روحا لأنه روحاني، وقيل: لأن الدين يحيا به، وسمي أمينا لانه أمين الله على وحيه.
(على قلبك) يا محمد، قال الحاكم:«وهذا توسع لانه تعالى كان يسمعه جبريل فيحفظه وينزل به على الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقرأ عليه فيعيه ويحفظه بقلبه، فكأنه نزله على قلبه» (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ): من المخوفين عباد الله، (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) يعني أن القرآن بلغة العرب نزل، وكل نبي أرسل بلسان قومه ليفهموا عنه. (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أي كتب الاولين، قال الحاكم:«واختلفوا ما الذي في كتب الاولين، قيل الدعاء إلى التوحيد والعدل والاعتراف بالبعث وأقاصيص الامم الذي نزل به القرآن، وهو مذكور في تلك الكتب، عن مقاتل. وقيل: ذكر القرآن والبشارة به وبمحمد صلى الله عليه وسلم مذكور في الكتب، عن أكثر المفسرين» .
قال: «ولا يقال إن عين هذا القرآن في الكتب لأنه عربي ونزل
(1) الآيات 192 - 199 سورة الشعراء، ورقة 18 - 19.
على محمد، بخلاف تلك الكتب» ولهذا رد في «الاحكام» استدلال بعض أصحاب أبي حنيفة بقوله (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أن القرآن قرآن وإن كان بغير لغة العرب! لان معنى الآية ما قدم «ولأن القرآن ما كان بلفظه ومعناه» .
ج- وقال الحاكم في قوله تعالى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ)«1» إن سبب نزول الآية أن الرسول كان إذا نزل القرآن عجل بتحريك لسانه لحبه إياه، فنزل (لا تحرك)، عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك.
قال الحاكم: وفيه نزل (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ)«2» قال: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) يعني بالقرآن والوحي (لِتَعْجَلَ بِهِ) أن بقراءته لتحفظه ولا تنساه (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) قيل إن علينا جمعه في صدرك حتى تحفظه، وقراءته عليك حتى تعيه ويمكنك بيانه، عن ابن عباس والضحاك. وقيل إن علينا جمعه في صدرك، وتأليفه على ما نزل عليك، عن قتادة. (فإذا قرأناه) قيل: قرأه الملك عليك بأمرنا.
وقيل إذا جمعناه لك (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي أتبع قراءته بقراءتك.
وأيا ما كان رأي الحاكم في معنى القراءة في الآية، فإن ما ذكره هنا وفي الآية السابقة يشير إلى رأيه في أن جميع القرآن نزل به جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وقرأه عليه- والآثار الصحيحة في أنه كان يعارضه به كثيرة-، وأن الوحي بالقرآن، كما اتفق على ذلك جميع المسلمين،
(1) الآيات 16 - 19، سورة القيامة، ورقة 124.
(2)
الآية 114 سورة طه.
إنما كان بلفظه ومعناه جميعا، لان قوله تعالى في الآية السابقة (عَلى قَلْبِكَ) ليس له في الاصل ظاهر يصح التمسك به «1» حتى يقال إنه أولى من المجاز والتوسع، فضلا عما دلت عليه هذه الآية الثانية وآيات أخرى كثيرة، وما علم من دين الإسلام بالضرورة، وإنما المراد بقوله تعالى (عَلى قَلْبِكَ) ما قدمناه من كلام الحاكم رحمه الله.
د- أما إضافته تعالى القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى جبريل، فقد
(1) أشار السيوطي إلى أن بعضهم ذهب إلى هذا القول، وزعم أن القرآن أوحي بمعناه فقط!! ولكن السيوطي الذي أغرى بالجمع السديد تارة، وغير السديد تارة أخرى- على سعة باعه في الحديث والرواية والتفسير بالمأثور- لم يذكر لنا في هذه المرة من هو قائل هذا القول! ومن أي الناس هو، وإلى أي ملة ينتسب! وقد تكفل السيوطي- في باب الوحي أيضا- ينقل ما قيل- وما أهون أن تكتب
هذه الكلمة «قيل» ويلقي بعدها بآراء لا يعلم مصدرها إلا الله- في كيفية تلقي الرسول للوحي، و «الحالة» التي يكون عليها عند ما يهبط عليه جبريل بالقرآن؛ هل ينخلع الرسول من صورته البشرية ليتلقى عن الملك، أم يدخل الملك في صورة بشرية ليوحي إلى الرسول! وكل ذلك افتراضات لا سند لقائلها يعول عليه، وليست مثل هذه القضايا الغيبية مما يدخل تحت الفروض والاحتمالات العقلية الكثيرة، وما نعرفه من الوحي وما شاهده الصحابة بأنفسهم- ولم يزيدوا عليه من افتراضاتهم- إنما هو آثاره التي كانت تبدو على النبي صلى الله عليه وسلم من الجهد والمشقة. وما كان خبر السماء يهبط به أمين السماء الا أمرا جليلا هيأ الله تعالى له نبيه الذي اصطفاه وخاطبه بقوله:(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا). وقد أحسن الحاكم- رحمه الله في عدم خوضه في هذه الموضوعات، سواء في تفسيره أو في كتبه الأخرى التي وقفنا عليها. راجع السيوطي 1/ 74.