الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. والصلاة على سيدنا محمد الذي أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، وأوحى إليه هذا القرآن لينذر به الذين كفروا، وبشرى للمؤمنين.
وبعد:
1 -
هذا بحث في أحد أعلام التفسير وعلم الكلام في القرن الخامس، وقفت على ضرورته وأنا أعد دراستي السابقة في «الماجستير» عن القاضي عبد الجبار وكتابه «متشابه القرآن» ففي الوقت الذي أعانني فيه تفسير الحاكم على تحقيق كتاب القاضي، وجدت فيه كذلك صورة من أدق كتب التفسير وأغزرها مادة، وأجودها في الترتيب والتهذيب.
والواقع انني أدركت في هذا الوقت أمرين: أولهما ضرورة الكتابة في «منهج المعتزلة في تفسير القرآن» نظرا لأهمية هذا الموضوع وتجدد البحث فيه على ضوء ما تم الوقوف عليه من تراث المعتزلة في اليمن، من جهة، ورفعا لظلامة ركبت المعتزلة قرونا متطاولة كانت آراؤهم فيها- في التفسير والحديث والكلام- تؤخذ من كتب خصومهم، من جهة
أخرى. أما الأمر الثاني فهو ضرورة دراسة الحاكم الجشمي، وتحقيق كتابه القيم:«التهذيب في التفسير» .
2 -
ثم خرجت من ذلك كله وأنا بسبيل اختيار موضوع لهذه الرسالة إلى الجمع بين هذين الأمرين في دراسة الحاكم ومنهجه في التفسير، تمهيدا لتحقيق كتابه إن شاء الله، بعد أن تبينت أن منهجه في هذا الكتاب يشير إلى خلاصة منهج المعتزلة في تفسير القرآن، في الوقت الذي لا أعفي فيه نفسي من دراسة الحاكم والكشف عن تراثه وبيان منزلته في الفكر والثقافة الاسلامية، بعد أن أتيحت لي فرصة الوقوف على أخباره من وراء القرون الطويلة التي طوي فيها وراء حدود اليمن.
3 -
ولن أتحدث في هذه المقدمة عن قيمة كتاب الحاكم وأهميته وما يتمتع به من ميزات شكلية وموضوعية، فذلك ما سيوضحه هذا البحث، ولكنني أشير هنا إلى بعض جوانب الجدّة والأهمية في دراستنا هذه لكتاب الحاكم، التي تتلخص في أنها:
- أول دراسة تتناول علما من أعلام التفسير في القرن الخامس.
- وتقوّم- على الجملة- حركة التأليف في التفسير وعلم الكلام في هذا القرن.
- كما أنها تحتوي للمرة الأولى عرضا لتفاسير المعتزلة الكبيرة قبل الحاكم، مع التعريف الدقيق بها وبمؤلفيها، وذكر بعض النماذج مما وصل إلينا من هذه التفاسير الخطية التي لم يتيسر للباحثين سبيل الاطلاع على أكثره بعد.
وقد ركّزت هذه الدراسة على أهمية القاعدة الفكرية في دراسة منهج أي مفسر- في التفسير والتأويل- وفهم هذا المنهج حق الفهم.
- كما أنها قد تعقبت هذا الأثر في أطراف كتاب الحاكم.
- يضاف إلى ذلك: الفرصة التي هيأتها هذه الدراسة لإعادة النظر في تقويم الزمخشري.
وقد كشف هذا البحث عن بعض هذه المكانة عند الكلام على أثر الحاكم في المفسرين من بعده.
وعلى الرغم من أن أكثر جوانب هذه الدراسة يكاد يكون جديدا على ميدان البحث، فإن وجهها الأول عندي أنها تمهد لي السبيل- إن شاء الله- إلى تحقيق تفسير الحاكم وبعض ما وقفت عليه من كتبه الأخرى، وهي كتب جديرة أن تتبوأ مكانها اللائق في المكتبة العربية الإسلامية.
4 -
أما العقبات التي اعترضت سبيلي في هذا البحث فتعود إلى أن أكثر مصادره مخطوط أو مصوّر، كما أن المطبوع من هذه المصادر لم يكن الحصول عليه- وقد نشر أكثره في مواطن متفرقة- سهلا طول الوقت. وقد حاولت التغلب على مشكلة الكتب الخطية بالتوفر على ما صورته دار الكتب المصرية من مكتبة الجامع الكبير بصنعاء وبعض المكتبات اليمنية الخاصة، فاستنسخت بعض هذه الكتب وصورت بعضها الآخر- مكبّرا أو على شريط- عن صورته التي ما تزال على «الأفلام» أو الأشرطة، كما أدمت النطر في بعضها الآخر في دار الكتب.
أما الكتب اليمنية الأخرى التي لم تصورها دار الكتب من الأصل- ومنها بعض كتب الحاكم- فقد تعذر عليّ تصويرها من تلك الديار، وقد
وافاني بما أريده منها بعض علماء اليمن الأفاضل، كما أشرت إلى ذلك في موضعه من هذه الرسالة.
5 -
وقد سلكت في هذه الدراسة سبيل البحث العلمي المتجرد عن التعصب للحاكم، فأوردت من آرائه ما وقفت عليه مشفوعا ببعض الشواهد- التي كنت أرجو أن أجتزئ منها في بعض المواطن لو كان تفسير الحاكم بين يدى القارئ- وإن كان هذا لم يمنعني من بعض التعقيبات والتعليقات الموجزة.
كما أنني لم أتعصب للمعتزلة وآرائهم، أو أتعصب عليهم، ولم أذكر شيئا من آرائهم مشفوعا بمحاولة التحسين أو التقبيح، على الرغم من أن الصورة التي يحملها أكثرنا للمعتزلة لا تزال سوداء أو كالسوداء، وقد تراءت هذه الصورة في نفسى في مواطن قليلة من تفسير الحاكم، ولكن هذا لم يمنعني من الإعجاب بهذا التفسير، والدعوة إلى الإفادة منه ومن سائر تراث المعتزلة في التفسير وعلم الكلام وأصول الفقه، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى الإفادة من منهج المعتزلة العقلي- ومن سائر المناهج الكلامية الأخرى- في الدفاع عن الإسلام وشرح حقائقه أمام مناوئيه ومخالفيه من أتباعه والغرباء على حد سواء!
وليس في تاريخ الإسلام فرقة واحدة تستطيع أن تزعم لنفسها حقّ فهم العقيدة الإسلامية على الوجه الأكمل حتى يكون كلّ من خالفها في شيء ضالا ومبتدعا أو من أهل الزيغ والأهواء! ولا تخلو فرقة واحدة من الغلو في جانب، والتفريط في جانب آخر. وليست مهمتنا اليوم: الانتصار لفرقة على أخرى، أو تعميق الخلاف بين هذه الفرق،
الذي نشأ في الأصل هينا ثم عمّق بفعل التعصب، ولكن مهمتنا هي التقريب بين مواطن الخلاف وقواعد النظر، والتأكيد على وحدة الفكر الإسلامي، ومحاولة الوصول إلى الحق على ضوء هذه الحقيقة، ومن خلال دراسة تراث جميع الفرق في ظلال القرآن.
6 -
أما الطريقة التي اتبعتها في هذا البحث فقد حددتها على ضوء منهج الحاكم نفسه وطريقته في تفسيره، ويتلخص هذا المنهج في أنه منهج كلامي تصرف فيه العناية إلى آيات العدل والتوحيد دون آيات الفقه والشرائع وسائر الآيات، ولهذا عنيت في المقام الأول بالكشف عن هذا المنهج وبيان القاعدة الفكرية التي أسس عليها، والآثار التي خلّفها- دون غيره- في كتاب الحاكم وحاولت في هذا المجال- ما استطعت إلى ذلك سبيلا- رد الفروع إلى الأصول، والوقوف على القواعد العامة التي تحكم رأي الحاكم ومذهبه في نقاط كثيرة، دون محاولة الخوض في الجزئيات. كما أنني لم أحاول «التعديل» من طغيان جانب الكلام والرد على الخصوم وأهل الأهواء في تفسير الحاكم على جانب الفقه والتشريع، بالكلام عليهما على نحو متقارب، وإن كان الحاكم لم يهمل العناية بالفقه وآيات الأحكام، ولكن هذه العناية ليست هي الطابع المميز لكتابه حتى يسمح لنا بإدراجها في كلامنا على «المنهج» بمعناه العلمي أو الفكري الذي يحكم تفسيره، دون موضعها الصحيح في مكان آخر.
7 -
وقد جعلت هذا البحث في تمهيد وخمسة أبواب: تحدثت في التمهيد عن عصر الحاكم، أو القرن الخامس. ورتبت الأبواب وما تشتمل عليه من الفصول على النحو التالي:
الباب الأول: حياة الحاكم وآثاره. ويشتمل على فصلين
الفصل الأول: حياة الحاكم.
الفصل الثاني: آثاره.
الباب الثاني: مدخل إلى تفسير الحاكم. وتحته فصلان:
الفصل الأول: تفاسير المعتزلة قبل الحاكم.
الفصل الثاني: مصادر الحاكم في التفسير.
الباب الثالث: منهج الحاكم في تفسير القرآن. ويشتمل على أربعة فصول:
الفصل الأول: قاعدة الحاكم الفكرية ومحوره في تفسيره.
الفصل الثاني: قواعده الأساسية في التفسير.
الفصل الثالث: حدوده في التأويل.
الفصل الرابع: أثر منهجه العقلي وثقافته الكلامية في تفسيره.
الباب الرابع: طريقة الحاكم في تفسيره، وآراؤه في علوم القرآن.
وتحته فصلان.
الفصل الأول: طريقته في كتاب «التهذيب»
الفصل الثاني: آراؤه في علوم القرآن
الباب الخامس: مكانة الحاكم وأثره من التفسير. وتحته فصلان:
الفصل الأول: مكانة الحاكم
الفصل الثاني: أثره في المفسرين من بعده
8 -
وبعد، فلست أرى ما أذكره في هذا الموطن خيرا من الكلمة التي كتبها أستاذنا العلامة الجليل الشيخ محمد أبو زهره في كتابه «تاريخ
المذاهب الاسلامية» وعقّب بها على آراء المعتزلة ومذهبهم ومواقفهم في الجملة.
قال حفظه الله: «أولا: إن هؤلاء يعدون فلاسفة الإسلام حقا، لأنهم درسوا العقائد الإسلامية دراسة عقلية مقيدين أنفسهم بالحقائق الإسلامية غير منطلقين في غير ظلها، فهم يفهمون نصوص القرآن في العقائد فهما فلسفيا، ويغوصون في فهم الحقائق التي تدل عليها، غير خالعين للشريعة، ولا متحللين من النصوص.
ثانيا: أنهم قاموا بحق الإسلام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورد كيد الزنادقة والملاحدة والكفار في نحورهم، وكان لا بدّ من وجودهم ليقفوا تيار الزندقة الذي طم في أول ظهور الدولة العباسية، ولذا كان الخلفاء الأول من هذه الدولة يشجعونهم، وقد ناوأهم الرشيد زمانا واعتقل بعضهم، ولكنه اضطر لإطلاقهم لما علم أنهم الذين يستطيعون منازلة الوثنيين من السّمنيّة وغيرهم.
ثالثا: أن لهم شذوذا في الفكر، وشذوذا في الفعل. وذلك يحدث كثيرا ممن يطلق لعقله العنان ولو في ظلال النصوص»
9 -
وأخيرا فإنني أتوجه بجزيل الشكر وجميل العرفان إلى أستاذي الجليل الشيخ محمد أبو زهرة الذي وجدت في علمه ورحابه صدره خير باعث لي على المضي في هذا العمل، والفراغ من مناقشته في أقرب وقت.
كما أشكر الأستاذ المشرف الدكتور مصطفى زيد الذي قعد به المرض عن النظر في هذه الرسالة حين صح منه العزم على ذلك.
وأدعوا الله تعالى أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه، وأن يجعله في عداد حسناتي يوم العرض عليه، وأن يوفقني لخدمة شريعته وإعلاء كلمته، إنه سميع قريب مجيب.
القاهرة: 29 رمضان المبارك 1388 هـ
19 كانون الأول (ديسمبر) 1968 م
عدنان محمد زرزور
تمهيد عصر الحاكم
(القرن الخامس الهجري)