الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيا: قواعده الأساسيّة في التفسير
أما قواعده الأساسية التي يمكن إرجاعها إلى أصله اللغوي السابق، فهي:
القاعدة الأولى: ليس في القرآن ما لا معنى له، أو ما لا يفهم معناه
ونقل الحاكم أن هذا هو قول أصحابه المعتزلة، ونسب إلى «الحشوية» قولهم إن فيه «ما لا معنى له وإنما أنزل ليتلى» «1» ورد الحاكم هذا القول بأن الغرض بالخطاب الإفادة ومعرفة المعاني، فلا يجوز أن يخاطب ولا يريد الإفادة! ولأنه لو جاز أن يخاطب تعالى بمثل ذلك لم يكن بأن يخاطب العرب بلغتهم أولى من العجمي، ولا بالعربية أولى من الزنجية أو أي لغة أخرى! ولو جاز على الله تعالى ألا يريد بكلامه الفائدة لكان لا فرق بينه وبين التصويت، وإيراد ما لم تقع عليه المواضعة البتة، وكان لا وجه لانقسامه إلى كونه أمرا وخبرا ووعدا ووعيدا!.
وقد ذكر أبو هاشم أنه لا يمكن الادعاء أن وجه حسنه التعبد بالتلاوة، لأنه كان لا ينفصل- لو كان هذا هو الغرض- حاله وهو عربي من حاله وهو بالزنجية «2» وقال الحاكم في قوله تعالى:
(1) شرح عيون المسائل ورقة 264/ و.
(2)
انظر المغني للقاضي عبد الجبار 16/ 356.
(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ)«1» إنها تدل على أن الاعتماد يجب أن يكون على معرفة معاني الكتاب لا تلاوته. وقال في قوله تعالى: (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ، وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ، وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ، كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ)«2» إن الآية تدل على ذنب من لا يعمل بكتاب الله مع تلاوته.
ثم قال: «وهذا سبيل علماء السوء من هذه الأمة، وبين أن حالهم كحال الجهال في أن كل واحد لا ينتفع بذلك» .
وذكر الحاكم كذلك أن من مذهبه صحة معرفة معاني القرآن خلافا «لبعضهم» ممن يقولون إن في القرآن أشياء «لا طريق لنا إلى معرفتها» «3» أو إن في القرآن ما لا يفهم معناه. وردّ هذا أيضا بأن المقصود من الخطاب معرفة مراد المخاطب، فوجب أن يكون له طريق إلى معرفة مراده وإلا كان عبثا! ولأنه إذا كان له فائدة بالمواضعة فإذا خاطب به فلا يخلو إما أن يريد به ما وضع له فلنا طريق الى معرفته، أو غير ما وضع له فلا بد أن يدل عليه، وإلا كان ملبّسا أو معمّيا أو ملغزا، وهذا لا يجوز! ولأنه قد ثبت عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم أنهم كانوا يستدلون بالقرآن ويرجعون اليه ويفسرونه من غير انكار لتفسير بعض الآيات، فدل على أن جميعه مما يعرف «4» .
(1) الآية 78 سورة البقرة: ورقة 105.
(2)
الآية 113 سورة البقرة: ورقة 145.
(3)
شرح العيون ورقة 264.
(4)
المصدر السابق، نفس الورقة.
والذي نحسبه أن محل الخلاف بين الحاكم- وسائر المعتزلة- وبين الحشوية أو بعض المفسرين: إنما هو في هذا الشق من المسألة، وهو جواز أن يكون في القرآن ما لا سبيل إلى معرفته، أما الزعم بأن في القرآن ما ليس له معنى فهو كلام فاسد لا يلتفت إليه، ولا يصح تصوير المسألة على أساسه، سواء وجد من حشوية المسلمين وسخفائهم من يقول بهذا- كما ينقل القاضي والحاكم وغيرهما- أم لم يوجد، لأن الفرق شاسع بين عدم إدراك المعنى من المخاطب، ونفى المعنى عن كلام المتكلم! ولا يصح الالتفات إلى ما نقله الحاكم من زعم هؤلاء أنه لو أراد الإفادة لما جعل فيه متشابها!! لأنه سواء قيل إن المتشابه مما يعلم المراد به أو مما لا يعلم؛ فإن الخلاف فيه فرع على الخلاف بأن في القرآن ما لا يفهم معناه، وليس فرعا عن الزعم بأن في القرآن ما ليس له معنى، فهذه مسألة لا تصح ولا يتفرع عنها شيء!.
يرى الحاكم، إذن، أنه ليس في القرآن شيء لا يعرف معناه- لأن المقصود من الكلام إفهام المعنى- فإن كان للفظ معنى واحد فلا بد أن يحمل عليه، كما يقول الحاكم، وإن كان يحتمل أكثر من معنى وكله مما يجوز؛ حمل على الكل على وجه يصح «1» قال الحاكم:«ويقال: إذا كان للفظ معان ولا دليل، وكله مما يجوز، كيف تقطعون؟ قلنا: نقطع بأن الجميع مراد» «2» .
وهذا يفسر كثرة التفسير بالمأثور عند الحاكم، وعدم ترجيحه بين
(1) مقدمة التهذيب ورقة 2.
(2)
التهذيب، المجلد الأخير ورقة 161.
رواياته المختلفة- اختلاف تنوّع لا اختلاف تضاد- في أغلب الأحيان، لأن جميعه مما يحتمله اللفظ. فإن احتمل اللفظ عدة معان ودل دليل على أن بعضه مراد وبعضه ليس بمراد عمل بمقتضى الدليل، والدليل عنده تابع لأصوله في التأويل كما سنراه فيما بعد «1» .
ومن الألفاظ كذلك ما له معنى في اللغة ومعنى في الشرع، وحمله على الشرعي أولى لأنه منقول، قال الحاكم في قوله تعالى:(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ)«2» إن الآية تدل على أن البغي اسم ذم في الشرع، ولذلك يقال للخارج على الإمام: باغ، ولقومه أهل البغي، ولذلك قال تعالى (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى) وإن كان أصله في اللغة الطلب، فكأنه منقول في الشرع إلى من طلب شيئا ليس له!
وقال في قوله تعالى: (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ)«3» - في شرحه اللغوي للإيمان والإسلام-: الإيمان في اللغة: التصديق، ومنه:(وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) وليس باسم مدح، ولذلك يصح أن يقال لليهودي: مؤمن
(1) وكذلك الحال عنده في الحمل على المجاز، لأن من الألفاظ ما هو حقيقة ومنها ما هو مجاز، والأصل عنده: الحمل على الظاهر إلا أن يدل الدليل على أن حمله على المجاز أولى فيحمل عليه (التهذيب ورقة 2 من المقدمة) وقد أفردنا لرأية في إثبات المجاز في القرآن فقرة خاصة؛ لأهميته وصلته الوثيقة بمبحث التأويل.
(2)
الآية 76 سورة القصص ورقة 59/ و.
(3)
الآية 14 سورة الحجرات ورقة 62/ ظ.