الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين في مسائل الفقه.
وإذا اعتبرنا القاضي عبد الجبار المتوفى سنة 415 - والذي عمّر حتى جاوز التسعين- من أعلام القرن الرابع، فإن الحاكم لم يحفل بتفسير أحد من أعلام الاعتزال في القرن الخامس، وليس في كتانة ذكر لأبي الفتح الديلمي أو الماوردي أو القزويني، ولعل طريقة هؤلاء في التفسير طريقة الحاكم نفسه، وإن كان كتاب الحاكم أغنى من كتابي الديلمي والماوردي، وأقرب ما يكون- من حيث القدر ومن حيث الجمع والتهذيب- إلى تفسير القزويني، وقد مرّ ما ذكره ابن النجار أنه رأى من تفسير القزوينى مجلدا- من خمسمائة- في آية واحدة «1» وهي من قوله تعالى:(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا)«2» ويبدو أن موافقة الحاكم له في المنهج- الاعتزالي- والطريقة جعلته أيضا يطيل الوقوف أمام هذه الآية، ويتبع الكلام عليها ب «الكلام في أحكام السحر» الذي اشتمل على ستة فصول «3» .
2 - عمده الرئيسية من هذه التفاسير، وموقفه من تفسير القاضي:
أ- ويعتمد الحاكم من هذه التفاسير بالدرجة الأولى، على تفاسير أبي علي الجبائي، وأبي مسلم الاصفهاني، وأبي القاسم البلخي «4» ، وأبي
(1) انظره الفقرة 19 من الفصل السابق. والمجلدات التي يشار إليها عادة في مثل هذه العبارات: مجلدات حديثية، كالملازم والكراكيس.
(2)
الآية 102 من سورة البقرة.
(3)
انظر الورقات: 130 - 136 من التهذيب: المجلد الأول.
(4)
غالب نقل الحاكم عنه بعبارة: أبي القاسم.
بكر الأصم، بحيث يمكن عد هذه التفاسير الأربعة عمده الأساسية ومصادره التي لم يغفل عن النقل عنها في الأعم الأغلب.
وقد تحدثنا عن كلف الجبائي بتفسير الأصم وعنايته بالوقوف على آرائه في التفسير، ولكن يبدو أن الجبائي كان كثير المخالفة له كما تدل نقول الحاكم عنهما، بحيث يصبح الاعتماد عليهما اعتمادا على مصدرين كبيرين غنيين، لا على مصدر واحد مكرر كما هي الحال في كتب بعض المعتمدين على المتقدمين والمعاصرين، وقد كان بين الرجلين مناظرات طويلة، على كل حال، كما ذكر القاضي عبد الجبار. وكما أشرنا إلى ذلك عند الكلام على تفسير الأصم.
أما أبو مسلم الأصفهاني فقد كانت عناية الحاكم بالنقل عنه تفوق عناية الشريف المرتضى وأبي جعفر الطوسي والقاضي عبد الجبار، وإن كانت شهرة أبي مسلم عند القاضي تحمله دائما عند النقل عنه على الاكتفاء بقوله:
قال أبو مسلم، أو قال أبو مسلم في تفسيره «1» ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إن تفسير أبي مسلم كان أبعد التفاسير أثرا عند الحاكم وعند كثير من المفسرين، وإن وجوه التأويل الكثيرة التي كان يذكرها أبو مسلم لقيت أوسع الصدى عندهم. ويلمح المتتبع لآرائه في تفسير الحاكم بعض الخطوط الخاصة لمنهجه في التفسير- الذي كان متفقا مع منهج المعتزلة في خطوطه العامة بالطبع- ولعل هذا، إلى جانب ما ذكرناه، هو ما جعله من أهم مصادر الحاكم.
(1) انظر متشابه القرآن للقاضي بتحقيق المؤلف، ص 102 و 568.
ب- ويعترضنا هنا إشكال لا يسعنا التغاضي عنه، هو قلة نقول الحاكم عن تفسير القاضي عبد الجبار إذا قيست بنقوله عن التفاسير الثلاثة السابقة، في حين كان من المتوقع أو المفروض أن يكون دائم النقل عنه كثير الاستشهاد بآراء القاضي فيه وتأويلاته، نظرا لمكانة القاضي عنده، وأخذه عن تلامذته، واعتداده بآرائه في كثير من مسائل الفقه والكلام.
والجواب عن ذلك: أن القاضي نفسه إنما اعتمد في تفسيره على تفسير شيخه أبي علي الجبائي، ولم يخالفه فيما يبدو مخالفة تذكر، يدل على ذلك- بعد أن افتقدنا تفسير القاضي- ما نجده في كتابه «اعجاز القرآن» - أحد أجزاء المغنى- من النقول عن مقدمة تفسير أبي علي، وإحالته فيه على كتب شيخه في علوم القرآن، منها كتابه: نقض الدامغ «1» ، الذي رد فيه أبو علي على ابن الراوندي طعنه على القرآن بالتناقض، قال القاضي: «وقد تقصّى شيخنا أبو علي القول في ذلك- أي في بيان فساد ما يتعلقون به من التناقض في القرآن- في نقض كتاب الدامغ، وشفى الصدر رحمه الله بما أورده، وقد نبهنا على الأصل في ذلك، ولولا أن الكلام يطول لذكرنا بعضه
…
» ثم قال: «ونحن نورد اليسير مما أورده ابن الراوندي وادعى به المناقضة، ليعرف به
(1) جاء اسم كتاب ابن الراوندي في مقدمة التحقيق القيمة التي صدر بها المحقق الفاضل الأستاذ السيد أحمد صقر كتاب «إعجاز القرآن للباقلاني» :
«الدافع» ولم ينبه الأستاذ المحقق إلى هذا السهو في جدول التصويب، تاركا لبعضهم فيما يبدو مجالا «للبحث»
…
سخفه فيما ادعاه، وتمرده وتجرؤه، فالقليل يدل على الكثير. ونحيل في الباقي على ما نقض به شيخنا أبو علي رحمه الله كلامه
…
» «1»
هذا إلى جانب نقول القاضي الكثيرة عن تفسير شيخه أبي علي في كتابه المتشابه «2» ، وعنايته الفائقة والمعروفة بكتب شيخيه- كما يحب أن يدعوهما- أبي علي وأبي هاشم رحمهما الله.
وأوضح من هذا في الدلالة على إفادة القاضي من كتاب أبي علي واعتماده له- حتى إن الحاكم لم يجد في تفسير القاضي ما يركن إليه من آرائه الخاصة إلا القليل- اتهام أبي بكر بن العربي القاضي عبد الجبار أنه أخذ كتابه في التفسير من تفسير أبي الحسن الأشعري!! قال ابن العربي: «وانتدب أبو الحسن الأشعري إلى كتاب الله فشرحه في خمسمائة مجلد، وسماه بالمختزن، فمنه أخذ الناس كتبهم، ومنه أخذ عبد الجبار الهمذاني كتابه في تفسير القرآن، الذي أسماه «المحيط» في مائة سفر، قرأته في خزانة المدرسة النظامية بمدينة السلام» «3»
وهذا اتهام باطل سبق لنا أن ناقشناه مطولا في دراستنا السابقة لكتاب القاضي عبد الجبار «متشابه القرآن» ولكن دلالته على اعتماد القاضي لتفسير شيخه أبي علي صحيح فيما نرجح، لأن الأشعري إنما وضع تفسيره
(1) إعجاز القرآن- الجزء 16 من المغني- ص 390.
(2)
نقل عنه في أكثر من أربعين موضعا، انظر الكتاب، وراجع إعجاز القرآن أيضا ص 158 وصفحة 397.
(3)
العواصم والقواصم لابن العربي ورقة 26 مخطوطة دار الكتب.
- أصلا- للرد على تفسير شيخه أبي علي والنقض عليه، وذلك بعد أن اعتزل الاعتزال- وكما أشرنا إلى ذلك عند الكلام على تفسير الجبائي.
ويبدو أن الأشعري قد تتبع تفسير شيخه في المواضع التي اعتقد أنه أوّلها على رأيه أو على ما وسوس له به شيطانه- على حد قوله- قال ابن عساكر: «ثم ذكر- أي الأشعري- بعض المواضع التي أخطا فيها الجبائي في تفسيره وبين ما أخطا فيه من تأويل القرآن» «1» ولا بد أن هذه المواضع هي الآيات المشكلة والمتشابهة التي أقامها الأشعري على مذهبه الجديد، في حين ترك القول في سائر الآيات إلى ما ينقله أبو على فيها من وجوه اللغة والإعراب والنزول والقراءة .. أو لما يقارب كلامه في تفسيرها، حتى إن بعض المؤرخين يذكر أن الأشعري قد ألف تفسيره على طريقة المعتزلة!! وبهذا فإن تفسير الأشعري يقارب- على وجه- تفسير شيخه أبي علي، فإذا صح ما ذكره ابن العربي من تشابه تفسير القاضي لتفسير الأشعري- وهو صحيح وإن لم يكن القاضي فيه عالة على أبي الحسن- صح لنا القول إن القاضي اعتمد في تفسيره على كتاب شيخه أبي علي- فعل الأشعري، وإن كان اعتماد كل منهما كان على وجه مغاير للآخر-
ونستطيع بعد ذلك أن «نتهم» الحاكم بأنه لم يعرض لذكر القاضي أو للنقل عنه إلا حين وجده ينفرد بوجه من وجوه التأويل أو الترجيح، أو حين يرغب الحاكم نفسه في «مظاهرة» رأي ذهب هو إلى
(1) تبيين كذب المفتري صفحة 139.