المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - موقفه من تفسير السلف - الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير

[عدنان زرزور]

فهرس الكتاب

- ‌حوار مجلة الفرقان مع الدكتور عدنان زرزور

- ‌(نحو جيل قرآني)

- ‌(أسباب النزول)

- ‌(قضية الإعجاز العلمي)

- ‌(التفسير الموضوعي)

- ‌(بين سيد قطب والشعراوي)

- ‌(الحرب ضد القرآن)

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌ 3

- ‌ 4

- ‌ 5

- ‌ 6

- ‌ 7

- ‌ 8

- ‌مقدّمة

- ‌وبعد:

- ‌أولا: الحالة السياسيّة

- ‌1 - البويهيون

- ‌2 - الغزنويون

- ‌3 - السلاجقة

- ‌4 - الفاطميون

- ‌5 - الباطنية

- ‌6 - الزيدية

- ‌6 - ملوك الطوائف في الأندلس

- ‌7 - الحروب الصليبية

- ‌ثانيا: الحالة الدينية

- ‌1 - المعتزلة

- ‌2 - الأشاعرة

- ‌3 - الصوفية

- ‌ثالثا: أثر الحالة السّياسيّة والدينيّة في الحياة العامة

- ‌1 - الفتن السياسية

- ‌2 - فتن أرباب العقائد

- ‌3 - منازعات الفقهاء

- ‌رابعا: حركة التأليف في التفسير وعلم الكلام

- ‌1 - التفسير

- ‌أما أهم التفاسير المطولة التي وصلتنا فهي:

- ‌2 - علم الكلام

- ‌[اهم مصنفات المعتزلة في علم الكلام]

- ‌الفصل الأوّل حياة الحاكم

- ‌اولا: اسمه ونسبته

- ‌ثانيا: ولادته ونشأته:

- ‌ثالثا: وفاته

- ‌رابعا: شيوخه:

- ‌خامسا: تلامذته:

- ‌سادسا: عقيدته ومذهبه

- ‌رأي الزيدية في الإمامة

- ‌الفصل الثاني آثاره

- ‌اولا: في تفسير القرآن

- ‌1) التهذيب في التفسير

- ‌2) تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين

- ‌3) التفسير المبسوط

- ‌4) التفسير الموجز

- ‌1 - و (التهذيب)

- ‌2 - تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين:

- ‌ثانيا: في علم الكلام

- ‌1 - التأثير والمؤثر:

- ‌2 - شرح عيون المسائل

- ‌ثالثا: في الحديث

- ‌رابعا: في التاريخ

- ‌خامسا: في الفقه

- ‌سادسا: في العلوم الأخرى

- ‌سابعا: تعقيب عام حول ما وصل الينا من كتب الحاكم رحمه الله

- ‌الفصل الأوّل تفاسير المعتزلة قبل الحاكم

- ‌حول هذه التفاسير الخمسة:

- ‌الفصل الثاني مصادر الحاكم في التفسير

- ‌أولا: الحاكم وتفاسير المتقدمين

- ‌ثانيا: مصادره السلفية

- ‌1 - عمده من هذه المصادر:

- ‌2 - أمثلة وشواهد:

- ‌ثالثا: مصادره الاعتزالية

- ‌1) بين هذه التفاسير والتفاسير السابقة:

- ‌2 - عمده الرئيسية من هذه التفاسير، وموقفه من تفسير القاضي:

- ‌رابعا: نقوله العامة أو المبهمة

- ‌خامسا: حول طريقته في الافادة من المصادر

- ‌الفصل الأوّل قاعدة الحاكم الفكريّة ومحوره في تفسيره

- ‌أولا: قاعدته الفكرية العامة

- ‌خلق القرآن:

- ‌المنهج وهذه الأصول

- ‌ثانيا: محوره في تفسيره

- ‌1 - اكتساب المعارف

- ‌2 - الرد على المجبرة

- ‌الفصل الثاني قواعده الأساسيّة في التفسير

- ‌تمهيد: بين التفسير والتأويل

- ‌أولا: الأصل الجامع لقواعده في التفسير

- ‌ثانيا: قواعده الأساسيّة في التفسير

- ‌القاعدة الأولى: ليس في القرآن ما لا معنى له، أو ما لا يفهم معناه

- ‌فروع هذه القاعدة

- ‌القاعدة الثانية: لا يختص بتفسير القرآن الرسول أو السلف

- ‌1 - موقفه من تفسير السلف

- ‌2 - موقفه من الأحاديث والأخبار المرفوعة:

- ‌أ) أكثر الحاكم من الاستشهاد بالحديث في الشرح، ومن التدليل به على الأحكام التي يقف عليها في الآية أو النص القرآني:

- ‌ب) اعتمد الحاكم على الحديث في بيان المجملات والأمور الإخبارية وفي تفصيلات الأمور الغيبية

- ‌القاعدة الثالثة: رفض «التفسير الباطني» وأن الإمام طريق معرفة القرآن

- ‌القاعدة الرابعة: إثبات المجاز في القرآن، ومنع الحمل عليه إلا إذا تعذرت الحقيقة

- ‌الفصل الثالث حدوده في التأويل

- ‌أولا: أقسام المعارف

- ‌ثانيا: ميزان التأويل

- ‌ثالثا: التأويل واللغة وأنواع المجاز

- ‌رابعا: من تأويلاته في باب التوحيد والعدل

- ‌1 - في التوحيد وآيات الصفات

- ‌2 - في العدل

- ‌خامسا: منهج الحاكم في التأويل بين اللغة والعقل

- ‌الفصل الرّابع أثر منهجه العقلي وثقافته الكلامية في تفسيره

- ‌أولا: مبدأ اللطف

- ‌ثانيا: النبوة والأنبياء

- ‌ثالثا: الأرزاق والآجال

- ‌رابعا: حول عالم الغيب

- ‌خامسا: تعريفات وأمور فلسفية

- ‌الفصل الأوّل طريقته في كتابه «التهذيب»

- ‌تمهيد: بين المنهج والطريقة

- ‌أولا: القراءة

- ‌ثانيا: اللغة

- ‌ثالثا: الاعراب

- ‌رابعا: النزول

- ‌خامسا: النظم

- ‌سادسا: المعنى

- ‌1) طريقته في إيراد الأقوال ووجوه المعاني:

- ‌2) طريقته في الترجيح بين هذه الأقوال:

- ‌3) من شواهد طريقته في إيراد المعاني والأقوال:

- ‌4) من شواهد طريقته في الترجيح:

- ‌سابعا: الأحكام

- ‌ثامنا: القصة

- ‌تاسعا: الفقه

- ‌الفصل الثاني آراؤه في علوم القرآن

- ‌اولا: نزول القرآن

- ‌ثانيا: نقل القرآن

- ‌ثالثا: فضائل القرآن

- ‌رابعا: النسخ في القرآن

- ‌خامسا: اعجاز القرآن

- ‌1 - مقدمات الاعجاز

- ‌2 - وجه اعجاز القرآن

- ‌الفصل الأوّل مكانة الحاكم

- ‌أولا: منزلة الحاكم العامة

- ‌ثانيا: قيمة كتابه «التهذيب في التفسير»

- ‌الفصل الثاني أثره في المفسّرين

- ‌أولا: أثره في الزمخشري (467 - 538)

- ‌أ) من الشواهد التي نكتفي فيها بالاحالة على ما تقدم:

- ‌ب) من الشواهد الموجزة التي أشرنا إليها في هذه الرسالة:

- ‌ج) شواهد أخرى:

- ‌ثانيا: أثر الحاكم في سائر المفسرين

- ‌مصادر البحث

- ‌أولا: المخطوطات

- ‌ثانيا: الكتب المطبوعة

- ‌ثالثا: الدوريات

- ‌كتب للمؤلف

الفصل: ‌1 - موقفه من تفسير السلف

كابن عباس وغيره، ولكان الواجب عليه أن ينكر على ابن عباس وغيره التفسير والاستدلال بكتاب الله تعالى، وأن يوجب الاقتصار في ذلك على المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعلوم عنه خلافه.

والسؤال الآن: ما الذي يقبله الحاكم من الأخبار والأحاديث في التفسير وأسباب النزول؟ وإلى أي حد كان اعتماده على تفسير الصحابة والتابعين و «أهل التفسير» كما يسميهم في بعض الأحيان؟

‌1 - موقفه من تفسير السلف

: أما موقفه من تفسير السلف فقد قدمنا القول عند الكلام على مصادره في التفسير: أن تفسيره قائم على تفسير الصحابة والتابعين، وعلى تفاسير المعتزلة قبله، وأنه أكثر من إيراد آراء السلف حتى كاد كتابه أن يكون تلخيصا لروايات الطبري، والأمثلة على ذلك- التي استشهدنا ببعضها- تملأ الكتاب، ولم يكن من عادة الحاكم أن يرجّح بين هذه الآراء حيثما كان اللفظ محتملا لها جميعا، على مذهبه في حمل المعنى علي الجميع على وجه يصح، وإلا فهي عنده على حد سواء؛ لأن الاختلاف بينها في معظم الأحيان إنما هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، باعتبار أن مأخذها من ظاهر اللغة. وعند ما كان يرجح بين هذه الآراء «المتنوعة» فإن ترجيحاته تعود إلى أمور لا صلة لها بالمنهج، سوف نعرض لها عند الكلام على طريقته في ترتيب كتابه، ومعالجة كل فقرة من فقرات التفسير في الآية عنده.

ولكن موقفه من تفسير السلف يتحدد بصورة أوضح فيما فسروه- أو تأوّلوه- على وجه لا يدل الظاهر عليه، دون أن يحملهم على ذلك حمل على المحكم أو دليل العقل، وهنا نجده يفرق بين رأي قال به

ص: 245

بعضهم: واحد أو اثنان منهم، ورأي ذهب إليه أكثرهم أو جماعتهم، فإن كان تفسيرا للبعض تركه وقدم الظاهر، أو التمس له وجها من الوجوه المحتملة أو المقبولة، قال في قوله تعالى:(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ .. )«1» إنهم اختلفوا في تفسير التين والزيتون فقيل: والتين الذي يؤكل، والزيتون الذي يعصر؛ عن الحسن ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة وقتادة وأبي علي وأبي مسلم. وقيل: التين مسجد نوح، والزيتون مسجد بيت المقدس، عن ابن عباس. وقيل هما مسجدان بالشام؛ عن الضحاك. وقيل: التين مسجد أصحاب الكهف، والزيتون مسجد إيليا، عن محمد بن كعب. ثم قال إن الصحيح «هو الأول لأنه الظاهر فلا يترك ذلك من غير دليل» وحمل الروايات الأخرى على أن التقدير فيها: منابت التين والزيتون!

وقال في قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ)«2» : في الميزان قولان: قيل هو على جهة المثل، أي قبلت حسناته وكثرت، عن مجاهد. وقيل: ميزان له كفتان كموازين أهل الدنيا، عن الحسن وأكثر أهل العلم. ثم قال: إن الآية تدل على إثبات الميزان لأجل الظاهر، ولا مانع منه. وإن كان ذكر اختلاف القائلين بهذا الرأي في الموزون، وأنه لا يصح أن يكون هو الأعمال لأنها انقضت ولأنها أعراض، ولم يرجح واحدا من آرائهم.

(1) الآيتان 1 - 2 سورة التين: التهذيب ورقة 150/ و.

(2)

الآية 6 سورة القارعة: التهذيب ورقة 154/ و.

ص: 246

وبالرغم من أن موقفه من آراء بعض السلف هذه ورواياتهم المنفردة يحدد بصورة أوضح موقفه من تفسير السلف بعامة، إلا أنه مع هذا يكاد يكون جزءا من منهجه الفكري العام، ومن موقفه من تقديم الظاهر على المجاز الذي سنتولى بيانه في القاعدة الرابعة من قواعده في التفسير.

ولعل موقفه الحقيقي من السلف أو أهل التفسير إنما يظهر فيما ذهب اليه أكثرهم أو جماعتهم مخالفين فيه الظاهر، فقد ذهب الحاكم إلى الاخذ برأيهم وترك الظاهر، ولم يسمح لنفسه أن يخالف ما أجمع عليه أهل التفسير، كما فعل بعض مفسّري المعتزلة قبله، مثل أبي مسلم، قال في قوله تعالى:(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ، رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ)«1» إن سليمان صلّى صلاة الأولى ثم قعد على كرسيه تعرض عليه ألف فرس صارت إليه حتى غابت الشمس وفاتته صلاة العصر؛ عن أمير المؤمنين وقتادة والسدي، قال الحسن: لا زال يعرض عليه حتى فاتته صلاة العصر، قال أبو علي: كانت صلاة العصر لم تكن مفروضة اشتغل عنها بالخيل والنظر اليها، قال القاضي: ويحتمل أن تكون صلاة العصر لم تكن مفروضة في شريعته، فقال سليمان (ردّوها عليّ) أي الشمس، يعني سأل الله أن يردها عليه فردت عليه حتى صلى العصر. (فطفق مسحا) أي أخذ يمسح وما زال يمسح (بالسوق

(1) الآيات 30 - 33 سورة ص: التهذيب ورقة 5/ و.

ص: 247

والأعناق)، قال الحاكم: قيل أخذ يمسح سوقها وأعناقها بالسيف، وقال لا تشغلني عن عبادة ربي مرة أخرى، عن الحسن. وقيل: جعل يمسح أعناق الأفراس وعراقيبها حبا لها، عن ابن عباس والزهري وابن كيسان.

وقيل: أخذ يمسح ليعلم حالها كما يفعل أرباب الخيل، عن أبي مسلم.

وقيل: مسح أعناقها وشرّفها وجعلها مسبلة في سبيل الله. قال الحاكم: وسئل ثعلب عن هذا التفسير الأخير وقيل له إن قطرب يقول يمسحها ويبارك عليها؟ فأنكر أبو العباس قوله، وقال: القول ما قال الفراء يضرب أعناقها وسوقها. وقيل: المسح لا يفيد القطع وضرب العنق ولا قطع العراقيب إلا أن أكثر المفسرين عليه!

قال الحاكم: تدل الآية على مدح سليمان، وأنه فعل فعلا يستحق به المدح، لذلك قال: نعم العبد، ثم وصفه بما ذكر. وهذا ضد ما تقوله الحشوية انه اشتغل بالخيل حتى فاتته صلاة العصر وهو فرض، ثم أمر بقتل الأفراس من غير ذنب! «ولولا أن أكثر المفسرين وأصحاب النقل وأكثر العلماء على أنه ضرب أعناقها وسوقها لكان الأليق بالظاهر ما يقوله أبو مسلم أنه عرض عليه الخيل فما زالت تعرض عليه حتى غابت عن عينه، ثم أمر بردها فمسح سوقها وأعناقها كما هو العادة من أرباب الخيل» «1» ويكون معنى قوله تعالى (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) - كما ذكره أبو مسلم وجرى فيه على الظاهر الذي لم يذهب الحاكم إلى ترجيحه- إني أحببت الخيل عن كتاب

الله، التوراة

(1) التهذيب ورقة 5/ و.

ص: 248

أو غيره، فإن ذكر الله كتابه، وكما أن ارتباط الخيل في كتابنا ممدوح، كذلك كان في كتابهم.

واتخذ الحاكم كذلك نفس الموقف من قصة داود نفسه مع الخصم الذين تسوروا المحراب، قال تعالى:(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ، إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ، قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ، وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ، فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ)«1» فظاهر الآيات أن خصمين من البشر دخلوا على داود عليه السلام من سور محرابه- مجلسه أو مصلّاه- على هذه الصورة الغريبة المفزعة من دون استئذان وتحاكموا اليه في نعاج وأغنام، ولم يراعوا في طلب الحكم حق الأدب أو حق النبوة في الخطاب، فسألوه الحكم بالحق وعدم الجور واتباع الهوى! فلما سمع داود الدعوى من أحدهما استعجل بالحكم على صاحبه- صاحب النعاج الكثيرة- بأنه ظالم لأخيه، في النسب أو الدين، من قبل أن يسمع من الخصم الآخر المدعى عليه، فكان ذلك من جملة الصغائر التي تقع من الأنبياء، فتاب ورجع إلى مرضاة الله، فغفر الله

(1) الآيات 21 - 25 سورة ص: التهذيب ورقة 4.

ص: 249

تعالى له، وللأنبياء سؤال المغفرة من الصغائر وإن كانت إنما تقع مكفّرة، كما قال تعالى:(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)«1»

هذا الظاهر هو ما أخذ به وفسره أبو مسلم، وقد ود الحاكم أن يأخذ بهذا الظاهر لو لم يجمع أهل التفسير على خلافه، وأن الخصمين إنما كانا ملكين على صورة الإنس بعثهما الله تعالى إلى داود امتحانا لما سلف منه، وإلا فلو كانوا بشرا لم يتجاسروا على الدخول عليه تسورا للمحراب ولما قالوا له: لا تخف! واهدنا، ولا تشطط!، وأما قولهم:(خصمان بغى بعضنا .. ) فمعناه: نحن كخصمين لأنهما لم يكونا خصمين! والنعاج على هذا التفسير كناية عن النساء، والمعنى: عنده تسع وتسعون امرأة وعندي امرأة واحدة- أو: طلبت امرأة فمنعني عنها وتزوجها مع كثرة نسائه، كما قال أبو علي- (فقال أكفلنيها) قيل: أنزلنى عليها، عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد، يعني: تحول عنها حتى تصير في نصيبي.

وقيل: ضمها إلى جنبي أكفلها، عن أبي العالية. وقيل اجعلها كفلي أي نصيبي، عن ابن كيسان

وروى السدي أنه لما قال هذا قال داود للآخر: ما تقول؟ قال هو كذلك، فقال إذن لقد ظلمك، إلا أنه حذف الاعتراف لدلالة الكلام عليه، فقال: يا داود أنت أحق بهذا! لك تسع وتسعون امرأة، ولأوريا امرأة فرمتها! ونظر داود فلم ير شيئا، فعلم أنهما ملكان.

(1) الآية 82 سورة الشعراء.

ص: 250

ثم ذكر الحاكم عدة وجوه قالها «مشايخ العدليين» في مسألة داود مع أوريا وخطبته لخطيبته أو زوجته بعد وفاته، وردّ رواية بل روايات إسرائيلية قال إنها من دسيس الملحدة، ولا تصح على بعض الفساق فضلا عن الأنبياء! ولكنه قال إن ظاهر الآيات يدل على مواقعة ذنب، وأن الروايات تؤيد ذلك، وقال إن الصحيح في ذلك ما ذكره شيخه أبو علي:

أن داود خطب على خطبة أوريا بعد أن أظهر أهل المرأة لأوريا رغبتهم فيه وإرادتهم أن يزوجوها منه، فبلغ داود عنها ما رغّبه فيها فخطبها فزوجوها من داود ولم يزوجوها من أوريا، فعاتبه الله على ذلك.

ثم قال الحاكم أخيرا: «ولولا النقل المستفيض وإجماع أهل التفسير لكان الأليق بالظاهر ما حكيناه عن أبي مسلم، وهو الظاهر ولا مانع منه، ولأنه يجوز أن يقال للحاكم اقض بيننا بالحق- والصحيح أنهما قالا ذلك لكونهما ملكين كما ذكر المفسرون- وقد يجوز مثله في الحكام، فأما في الأنبياء فلا يجوز لأحد من أمتهم أن يخاطبهم بمثل ذلك» .

ويكاد هذا الموقف الذي اتخذه الحاكم مما ذهب إليه أكثر السلف أو أجمعوا عليه، لا يختلف عن موقف شيخه القاضي عبد الجبار في ذلك فبعد أن أنكر القاضي اختصاص السلف بمعرفة القرآن، أورد هذا الاعتراض فقال:«أفليس في التفسير يرجع اليهم في هذا الباب؟» ثم أجاب بقوله: «لا يمتنع فيما تأولوه على وجه مما لا يدل الظاهر عليه أن يجعل اجماعهم حجة فيه. وهذا انما يكون فيما لا يعرف بظاهر التنزيل، ويصير كالمذاهب المأخوذة من الإجماع» «1»

(1) المغني 16/ 362.

ص: 251