الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيا: النبوة والأنبياء
تردد موضوع النبوة والأنبياء والمعجزات في تفسير الحاكم في مناسبات عدة، وآراؤه في هذا الباب لا تكاد تخرج عن آراء شيخيه أبي علي وأبي هاشم كما أوردها القاضي عبد الجبار في أحد أجزاء المغني، وكما لخصها هو نفسه في كتابه شرح عيون المسائل، ورتبها فيه على نحو جيد. والذي يعنينا هنا هو الوقوف على أهم آرائه في هذا الباب من خلال تفسيره لبعض الآيات، لنتبين مدى تأثره بنزعته وثقافته الكلامية في تفسيره:
1 -
النبوة اختيار وليست بجزاء: قال في قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ. قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ)، إنه يدل على أن النبوة ليست باستحقاق وجزاء لأنه علقه بالمشيئة مطلقا «1» وإنما هي بمشيئته واختياره.
ولا بد عنده في كل رسول ونبي من وحي ومعجزة وشريعة وذكر أن بعضهم يقول: قد يكون نبيا من غير هذه المعاني، ويفرقون بين النبي والرسول. قال: «والأصل فيه أن كل نبي بعث فلا بد أن يجب القبول منه وتصديقه، وذلك لا يعلم إلا بمعجز يجري مجرى التصديق. ولا بد أن يعرف من جهته ما لولاه لم يعرف وإلا كان عبثا. ولا بد أن يعلم هو ما حمّل من الرسالة، فلذلك قلنا: لا بد من هذه المعاني. وما يروونه
(1) قارن هذا بما ذكره القاضي في المغني: ج 15 صفحة 12 - 13، 16 بتحقيق الأستاذ الدكتور محمود قاسم.
أن النبي كذا، والمرسل كذا، وأن بعضهم كان يرى في المنام مما لا يقبل»
وقال في تفسير قوله تعالى: (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)«1» أي اصبر يا محمد على أذاهم وأداء الرسالة كما صبر أولو العزم من الرسل.
2 -
المعجزة وعدم تقدمها على النبوة: ودليل النبوة عنده المعجزة، «ولا شيء يدل على ذلك سواها» . ولم يعرض في تفسيره لأدلته على هذا القول ولا لصفة المعجزة وشروطها «2» ، ولكنه أكّد في مناسبات كثيرة رأيه في أن تقديم المعجزة على النبوة لا يصح عنده- كما لا يصح عند شيوخه البصريين- على خلاف ما ذهب إليه الجاحظ وأبو القاسم البلخي وسائر البغداديين، قال في قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ «3»
…
) الآيات: إنها دالة على معجزات كثيرة.
وقال في تفسير سورة الفيل إن هذه الحادثة معجزة، لأن ما ظهر من الطير ورميها بالأحجار وإهلاك ذلك العدد الكثير، نقض للعادة، فلا بد
(1) الآية 3 سورة الأحقاف، ورقم 52/ و.
(2)
راجع شرح عيون المسائل، ورقة 255 - 256، والمغني للقاضي عبد الجبار 15/ 199 فما بعدها.
(3)
الآية 7 - فما بعدها- سورة القصص، ورقة 40/ و.
من كونه معجزة لنبي، قال:«ثم اختلفوا فقيل كان إرهاصا لنبينا عليه السلام، وكذلك حديث الغمامة، وهو قول مشايخنا البغداديين. وقيل كانت معجزة لبعض الأنبياء في ذلك الزمان، وهو قول شيوخنا»
ثم دافع عن هذا الرأي فقال: «ومتى قيل: لو كان ثمّ نبي لظهر أمره وتواتر خبره! قلنا: يجوز أن يكون مبعوثا إلى طائفة ولم يكن ثم متعبّدين بشرعه فجائر أن يخفى عنا خبره، نحو كثير من الأنبياء» ثم قال:
«ولا بد عندنا في المعجز أن يتعلق بالدعوى، فإذا لم يكن عقيب دعواه- النبي- لا يتعلق به» «1» ولهذا حملوه على أنه معجزة لنبي آخر.
3 -
حفظ النبي: وعنده أن الله تعالى يعصم رسوله من قومه ويحفظه حتى يبلّغ، وأن ذلك لا بد منه في بعض المواضع، قال في قوله تعالى:(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا)«2» إنه يدل على أنه تعالى تضمن حفظه وحياطته حتى يبلّغ. قال: «ومتى قيل: هل يجوز أن يخلّي بينه وبين أعدائه فيقتل؟ قلنا: قبل الأداء: لا، لما فيه من تفويت المصالح، وبعد الأداء يجوز ويصير بمنزلة موته» .
وقال في قوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) إنه يدل على أنه تعالى عاقب الامم عند تكذيبهم الرسل بضروب من العقاب
(1) التهذيب ورقة 155/ و. وانظر القاضي، المرجع السابق ص 213 فما بعدها.
(2)
الآية 48 سورة الطور، ورقة 71/ و.
فإن فيها عبرة لذلك قال (قُلْ سِيرُوا)«1» فيدل على أنه تعالى يعصم رسوله من قومه.
قال: وقد قال مشايخنا إن الواجب «حفظ الرسول في موضعين:
أحدهما: حتى يبلّغ الرسالة. وثانيهما: إذا كان في بقائه لطف ومصلحة، فإذا لم يكن هذان الوجهان جاز أن يخلى».
وقال في قوله تعالى: (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ. قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ. قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ
…
) «2»
الآيات إلى قوله: (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ)«2» إن الآيات تدل على جواز الخوف على الأنبياء- وتدل على حسن طلب المعونة مع العصمة- قال الحاكم:
«ومتى قيل: أليس يجب تبقيته إلى أن يؤدي فكيف خاف القتل؟
وإن قلتم لم يعلم هو! فلا يجوز لأنه من أجلى المسائل. وإن قلتم علم فهو إغراء! وقوله: (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) كأنه استعفاء من الرسالة، وذلك لا يجوز!
«قلنا: أما الأول فعند البغدادية: كلّفه بشرط التبقية فلا يكون إغراء، فأما عند مشايخنا البصرية فلا يصح التكليف بشرط، ولكن إذا
(1) الآيتان 69 - 70 سورة النمل، ورقة 34/ ظ.
(2)
الآيات 10 - 20 سورة الشعراء، ورقة 4/ و.
أرسله فلا بد من تبقيته حتى يؤدى، ولا بدّ أن يعلم النبي ذلك، ولكن لا يكون إغراء لأنه تعالى علم من حالهم أنهم لا يعصونه، بخلاف غيرهم.
«ومتى قيل: إذا علم التبقية فلم خاف القتل؟ قلنا: خاف القتل بعد أداء الرسالة.
4 -
عصمة النبيّ عن الكبائر، وتنزيهه عما ينفّر: وللحاكم في تفسيره في هذا الموضوع مواقف ولفتات طيبة، وقد ذهب إلى القول بعصمة الأنبياء عن الكبائر قبل البعثة وبعدها، وإلى تنزيههم عن أمور شنيعة وردت في بعض القصص والأخبار، بغض النظر عن درجة هذه الأخبار ومصدر تلك القصص، ويبدو أن أخبار أهل الحشو والإسرائيليات عنده على حد سواء!
أ) أما العصمة عن الكبائر فلقوله تعالى- على لسان رسوله-
(وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ)«1» وقوله:
(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)«2» قال الحاكم:
فدلت هذه الآيات على أنه يتبع الوحي في جميع ما يفعل، فتدل على عصمته.
والمهم هنا أنه حكم بهذه العصمة أمام الآيات التي قد تدل على خلاف ذلك على بعض الوجوه، قال في تفسير قوله تعالى:(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى)«3» فيه قولان: أولهما: أنه أراد الضلال والهداية في الدين.
والثاني: أنه أراد في الدنيا. قال: «فأما من قال بالأول اختلفوا، فقيل: وجدك ضالا عما أنت عليه من الوحي والنبوة ومعالم الشريعة والأحكام، فلم تكن تعرفه بل كنت غافلا عنه فهداك الله إلى ذلك؛ عن الحسن والضحاك وشهر بن حوشب وابن كيسان وأبي علي. وقال أبو علي: وضلاله عن ذلك لم يكن معصية لأن الله تعالى لم يكن آتاه ذلك، ونظيره:(ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) والضلال على هذا: الذهاب عن العلم، قال الله تعالى:(أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) وقال تعالى:
(فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ)«4» أي لم أعلم.»
(1) الآية 50 سورة الأنعام.
(2)
الآية 9 سورة الأحقاف. راجع التهذيب ورقة 49/ و.
(3)
الآية 7 سورة الضحى، ورقة 149/ و.
(4)
الآية 20 سورة الشعراء، وهي على لسان موسى عليه السلام في كلامه عن قتله للرجل، والمعنى أنه كان من الضالين عن العلم أن ذلك يؤدي إلى قتله-
وبعد أن ذكر الآراء الأخرى الكثيرة في تفسير الآية قال: «وأحسن ما قيل فيه ما قاله أبو علي، وما عداه إما تعسف أو تخصيص بغير دليل» .
وقال في حادثة طلاق زينب بنت جحش من زيد بن حارثة وزواج النبي صلى الله عليه وسلم بها- في تفسير قوله تعالى (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ
…
) الآية «1» إن الكلام يقتضي وقوع مشاجرة بين زيد وزينب حتى وعظه الرسول وأمره بالإمساك، وأن يتقي الله في مضارتها- وقيل هو إباحة وإرشاد وليس بإيجاب- قال الحاكم:
«ومتى قيل: أليس كان- الرسول- يجب أن يفارقها، فكيف أمره بالإمساك؟ قلنا: معاذ الله أن يقول خلاف ما في قلبه، فإن ذلك
- كما قال أبو علي، أي أن قتله من غير قصد. وقيل:(من الجاهلين) كما ورد في حرف ابن مسعود. قال الحاكم: «ولا يجوز حمله على الضلال في الدين لأن ذلك لا يجوز على الأنبياء لأنه يقطع الولاية ويوجب الكفر والعقوبة العداوة، فلا يجوز على الأنبياء» التهذيب ورقة 4/ و.
(1)
رقم 37 سورة الأحزاب، ورقة 107 - 108.
لا يجوز عليه، وإنما قال ما أحب وما كان في قلبة، وهو إمساكها بإحسان.
«ومتى قيل: أليس كان يحبها ويريد التزوج بها، وأنه جاء إلى باب زيد فوقع بصره عليها فهويها .. في حديث طويل ترويه الحشوية؟
وأما قوله تعالى: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) فالراجح عند الحاكم أن الخطاب فيه للنبي- وليس لزيد كما قال بعضهم- وذكر أنهم اختلفوا في معنى الآية، فقيل:
أخفى في نفسه إن طلقها زيد تزوج بها لأنها ابنة عمته، فأحب ضمها إليه بعد فراق زيد لكي لا يصيبها ضعة، كما يفعل الرجل بأقاربه؛ عن أبي علي.
(وتخشى) إظهار ذلك خشية قالة الناس، ولأن تترك إظهاره خشية الله أولى لأنه فعل ذلك بأمر الله تعالى!. وقيل: كان الله تعالى أخبره بأن يزوجها منه، فلما أراد زيد طلاقها قال له: أمسك عليك زوجك، فكيف وقد أعلمتك أنها تكون من أزواجك؟ عن علي بن الحسين وزيد بن علي. قال الحاكم:«وهذا التأويل مطابق للآية لأنه عوتب على قوله «أمسك» ، مع علمه أنها ستكون زوجة له، خشية الناس.».
وذكر بعد ذلك تأويلا آخر لأبي مسلم، ثم قال: «ومتى قيل:
إذا كان الله أخبره بأنه يزوج زينب منه، فلماذا أخفى ذلك؟ قلنا: لأنه لو أظهر ذلك لكان زيد يطلقها لأجله لا لسوء عشرتها، وكان ذلك يورث وحشة بينهما.»
وختم حديثه عن الآية بالقول إنها تدل على «تنزيه الرسول عن أن يخفي شيئا ولا يبديه كيلا يقع التنفير، فتدل على عصمته .. » .
وفي قصة يونس عليه السلام حين أبق إلى الفلك، في قوله تعالى:
(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ .. ) الآيات «1» قال الحاكم:
إن يونس فرعن قومه، وكانوا أضجروه، وقد أوعدهم بالعذاب فظن نزوله بهم فخرج من غير إذن، وكان يجب أن يستمر على الدعوة إلى أن يأمره الله تعالى بالخروج.
قال: «ومتى قيل: هل يجوز العمل في هذا بالظن؟ قلنا: لكي يخرج من أن يكون متعمدا لمعصيته. ولا يجوز أن يقال أبق من الله! لأنه ذلك لا يتصور، ولأنه يكون معصية لا تجوز على الأنبياء. وقيل:
أمر بلزوم ذلك الموضع فلما خرج كان كالفارّ عن مولاه! وهذا لا يجوز، وإنما فر من قومه لما آذوه وكذبوه وظن نزول العذاب بهم، ولم يؤمر باللّبث ولا بالخروج، فخرج على أنه مباح».
(1) الآيات 139 - 142 - وانظر الآيات التالية- من سورة الصافات، التهذيب ورقة 166.
وفسر قوله «مليم» بأن يونس كان يلوم نفسه على خروجه من بين قومه من غير أمر ربه. وقال مجاهد وابن زيد: إن معناه مذنب، وقيل: مستحق للوم. قال الحاكم: ومن قال إنه كان مذنبا يقول إنه كان صغيرة.
ب) وقد جوز الحاكم على الأنبياء وقوع الصغائر منهم، خلاف قول الإمامية- في الرسول والإمام- وكما دلت على ذلك بعض الآيات، قال تعالى:(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)«1» وقد قال الحاكم في هذا الذنب: إنه صغيرة تقدمت من موسى عليه السلام، وانما يكلف الأنبياء التوبة من الصغائر- وكلما ذكروها أيضا حتى يخرجوا من حد الإصرار- لعظم نعمه تعالى عليهم.
وقيل: إن ذنبه كان أنه حدث نفسه أن الظفر كان بقوته. وقيل: استعجال النصر قبل وقته.
وقال تعالى في سورة محمد: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ)«2» قال الحاكم: يدل قوله (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) على وقوع ذنب منه، ويدل على جواز وقوع الصغائر على الأنبياء خلاف قول الإمامية.
وقد فصل الحاكم القول في مذهبه في جواز الصغائر على الأنبياء عند كلامه على قوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ
…
) في مطلع سورة الفتح، فقال إن قوله (ليغفر)
(1) الآية 55 سورة غافر، ورقة 22.
(2)
الآية 19، ورقة 54/ و.
يدل على جواز الصغائر على الأنبياء قبل النبوة وبعدها. ويدل على أنها مغفورة.
قال: «ومتى قيل: كيف تكون مغفورة؟ قلنا: بإيجاب ما يجبر نقصا دخل في ثوابه بتلك الصغيرة.
ج) أما المنفّر والمستكره- ولو لم يكن من باب المعصية أصلا- فلم يجوزه الحاكم على الأنبياء على أي وجه، قال في قوله تعالى:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً)«2» إن معناه أنهم آذوه من حيث نسبوه إلى السحر والجنون والكذب بعد ما رأوا الآيات، كعادة الكفار مع الأنبياء. ثم قال:«وأما ما ترويه الحشوية أنهم رموه بأنه آدر- آفة في عورته- فوضع ثوبه على حجر ليغتسل فبعد الحجر حتى رآه بنو اسرائيل! فليس بصحيح؛ لأن فيه هتك الستر وكشف العورة وما يؤدي إلى التنفير» «3» .
(1) التهذيب، ورقة 56/ ظ.
(2)
الآية 69 سورة الأحزاب، ورقة 117/ ظ.
(3)
الحديث الذي يشير إليه الحاكم في البخاري، وفي تفسيره تأويلات كثيرة ذكرها ابن حجر رحمه الله. ولموقف المعتزلة من حديث الآحاد مناقشة طويلة في دراستنا عن منهج المعتزلة في تفسير القرآن،
التي أشرنا إليها فيما تقدم.
وقال في تفسير قوله تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ
…
) «1» إنه أصيب بتعب ومشقة وعذاب، وقيل: أصابه الشيطان بوسوسته، واختلفوا فقيل في جسده، يعني: يقول طال مرضك ولا يرحمك ربك. وقيل في نفسه وماله، يقول:
نالك الفقر وذهب المال والأهل، فذكر صحته وأهله ومصائبه فيها وقد مرض وافتقر، فضاق صدره بهذه الوساوس فشكا إلى الله تعالى.
قال الحاكم: وقيل اشتد مرضه وطال حتى تجنبه الناس استقذارا، وذهب ماله، فذكره الشيطان أحواله، ووسوس إلى الناس استقذاره، فضاق صدره بما ناله من الشيطان ولم يشك الألم لأنه كان منه تعالى. ثم قال:
«ولا يجوز أن يبلغ حالا يستقذره الناس لأن فيه تنفيرا!! فأما المرض والفقر وذهاب الأهل فيجوز امتحانا» وقال: إن الآية تدل على أن أيوب صبر على ما نزل به من جهة الله تعالى، على ما هو الواجب في الدين.
5 -
عدم معرفة الأنبياء الغيب: وهذه من أهم النقاط في باب النبوة في تفسير الحاكم، نظرا لاعتماده الدائم عليها في الرد على الإمامية أن الإمام يعلم الغيب، لأنه إذا ثبت أن الرسول لا يعرفه، بنصوص القرآن، فالإمام في ذلك أولى، قال الحاكم في قوله تعالى:(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ .. )«2» إن الآية تدل على أنه تعالى المختص بعلم الغيب، فيبطل قول الإمامية إن الإمام يعلم الغيب.
(1) الآية 41 سورة ص، ورقة 6/ و.
(2)
الآية 65 سورة النمل، ورقة 34/ ظ.