الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيعلم أن القبيح فعل غيره، وإذا كلّف فلا بد أن يجازي، وإذا علم أن الشريعة لطف فلا بد أن يبين. فأفعاله بما ذكر تدل على جميع صفاته إما بنفسه أو بواسطة، وتفصيل ذلك يطول، وهو مذكور في كتب المشايخ».
خلق القرآن:
ولعل المسألة الوحيدة من مسائل العدل التي نأى بها عن جو المناقشة والجدل- ولم يكثر من الوقوف عندها- والتي يحسن تقديمها هنا قبل أن نورد آراءه في الأصول الثلاثة الأخرى السابقة، هي مسألة خلق القرآن:
قال في قوله تعالى: (حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)«1» :
يدل قوله «تنزيل» على حدوث القرآن من وجهين: أحدهما: أن الإنزال على القديم لا يجوز. والثاني: أن قوله «من الله» يقتضي الفعلية، كقولهم:
الإحسان والنعم منه.
وقال في قوله تعالى: (حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيراً وَنَذِيراً)«2» إنه يدل على حدوث القرآن من حيث وصفه بأنه «فصلت» وبالآيات، وبالقرآن، وبأنه عربي، وبأنه بشير ونذير، قال:«وكل ذلك دلالة على حدوثه» .
واستدل على ذلك أيضا بقوله تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ
(1) الآيتان 1 - 2 سورة الأحقاف، ورقة 48/ ظ.
(2)
الآيات 1 - 4 سورة فصلت، ورقة 24/ ظ.
مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) «1» «لأن كل هذا لا يليق بالقديم لا حقيقة ولا مجازا» .
وذكر في قوله تعالى: (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها .. )«2» أن الآية تدل على حدوث النداء «لأن ظاهره يقتضي أن النداء بعد المجيء، فإذا كان النداء كلامه وهو محدث بطل قول من قال إنه قديم.
ولعل الحاكم لم يقف أمام الآيات الدالة على مذهبه في خلق القرآن بأكثر مما فعل شيخه القاضي عبد الجبار الذي صنف هذه الآيات في بعض القواعد الجامعة، منها قوله: «وكل ما ورد في كتاب الله عز وجل مما يدل على أن الله تعالى يغيّر القرآن أو بعضه، أو يقدر عليه، أو يبدله بغيره، أو يقدر على مثله، أو يأتي بمثله، أو يجتزئ منه، يدل على حدوثه
…
» «3» .
3 -
الوعد والوعيد: الوعد هو كل خبر يتضمن إيصال نفع إلى الغير أو دفع ضرر عنه في المستقبل. والوعيد هو كل خبر يتضمن إيصال ضرر إلى الغير أو تفويت نفع عنه في المستقبل. وقد وعد الله تعالى المطيعين بالثواب، وتوعد العصاة بالعقاب، فلا بد أن يفعل ما وعد به وتوعد عليه لا محالة، ولا يجوز عليه الخلف «4» .
(1) الآيات 77 - 79 سورة الواقعة، ورقة 84/ و.
(2)
الآية 8 سورة النمل، ورقة 24/ و.
(3)
انظر تفصيل ذلك مع قواعد أخرى هامة، في المغني 7/ 89 فما بعدها.
(4)
انظر شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار صفحة 134 - 136.
ولهذا ذهب جمهور المعتزلة إلى أن مرتكب الكبيرة من أهل النار أبدا، ونقض الحاكم على جماعة منهم ذهبوا إلى الارجاء لأنه- كما يقول الحاكم- لا يجوز أن يكون في عمومات الوعيد شرط واستثناء لم يبينه الله تعالى، لأن الحكيم لا يجوز أن يخاطبنا بخطاب لا يريد به ظاهره، تم لا يبين مراده «1» قال الحاكم في تفسيره قوله تعالى:(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ، يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ، وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ)«2» : إن الفجار العصاة المرتكبين للكبائر في النار، والفجور اسم للعصيان، ولهذا يقال للزاني: فاجر ومعنى «يصلونها» أي يلازمونها للتعذيب، وقال أبو مسلم: يصيرون صلاءها، أي حطبها. قال الحاكم:
«وتدل الآية على قولنا في الوعيد من جهات: أحدها أنه فصل بين البر والفاجر، فدل على أن الفجار ليسوا من الأبرار، بخلاف قول المرجئة.
ومنها: أنه عم جميع الفجار ولم يخص، فلا فاجر إلا ويدخل تحت الآية، خلاف قولهم. ومنها قوله (لَفِي جَحِيمٍ) فلم يثبت لهم مكانا غيره. ومنها قوله (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) فدل على الدوام» ثم قال: «ومتى قيل:
أراد بالفجار الكفار! قلنا: عنه أجوبة، أحدها: أنه لو صح لدخل بعض الفجار الجنة ولكانوا من الأبرار، وهذا خلاف الآية. وثانيها: أن الآية عامة. وثالثها: أن أهل القبلة مخاطبون بالاتفاق، ولو تناول الكفار لما كانوا مخاطبين لأن الفجور اسم لجميع المعاصي». وذكر أبو مسلم أن
(1) انظر شرح العيون 1/ 68.
(2)
الآيات 13 - 16 سورة الانفطار، التهذيب ورقة 137/ و.
من يدعي التخصيص في مثل هذا لا يبعد قوله، لأن ما تقدم كلام في المكذبين، وإن كان الأصل هو العموم، قال الحاكم:«وجوابنا أن المعتبر عموم اللفظ لا ما تقدم» .
وقال في قوله تعالى: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ، لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)«1» أنه يدل على أن كل مجرم في عذاب جهنم، والفاسق مجرم، ويدل على أن الفساق يكونون في النار.
وذكر في تفسير قوله تعالى: (قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ، ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)«2» أن وعده ووعيده لا يتبدل، وأنه تعالى لا يعاقب بغير ذنب ولا يجازي بالحسنة سيئة، ولا يمنع الثواب من استحقه. ثم قال:«ويدل قوله (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) أن وعيده لا خلف فيه، خلاف قول بعض المرجئة. وبهذه الآية احتج عمرو بن عبيد على أبي عمرو بن العلاء بمكة لما ناظره في الوعيد» قال الحاكم: «ومتى قيل: من أوعد غيره ثم خالف يعد إحسانا، قلنا: فينا ذلك، لأنا نعلم العواقب فنخبر عن عزمنا، والله تعالى عالم
(1) الآيتان 74 - 75 سورة الزخرف، ورقة 42/ و.
(2)
الآيتان 28 - 29 سورة ق، ورقة 64/ ظ.
بالعواقب فيخبر عنه كما يكون، وإلا كان كاذبا! تعالى الله عن ذلك».
وقال في قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً)«1» إنها تدل على أن العصاة يخلدون في النار خلاف قول المرجئة.
ولا يستثنى من عمومات الوعيد عند الحاكم إلا التائب وصاحب الصغيرة، لأن القديم تعالى إذا توعد العصاة فإنما يتوعدهم بالعقاب الحسن، ولا يحسن معاقبة التائب ومرتكب الصغيرة، وقد قال تعالى في شأن التائب:(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)«2» قال الحاكم إن الآية تدل على أمور، منها: زوال الوعيد والعقاب بالتوبة.
ومنها: أن التوبة لا تتكامل في نيل الثواب إلا بانضمام فعل الواجبات اليها واتقاء المعاصي
…
ومنها: دلالة قوله (أتوب) على أنه تعالى يقبل التوبة.
أما انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر، فقد أشير إليه بقوله تعالى:
(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ)«3» قال الحاكم:
(1) الآية 23 سورة الجن، ورقة 118.
(2)
الآية 160 سورة البقرة، ورقة 190.
(3)
من الآيتين 31 - 32 سورة النساء، ورقة 145.
وقال في قوله تعالى: (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى، الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ)«1» :
«والصحيح عندنا أن الكبير ما يزيد عقابه على ثواب صاحبه، كالقتل والزنا ونحو ذلك. وقيل: ما لا يكفره إلا التوبة. والفواحش: كل قبيح فاحشة، وهو الوجه» وعرف الصغير بأنه ما يصغر عقابه عن ثواب صاحبه، وقال إن الذي عليه مشايخه في تفسير «اللمم» إنه الصغائر من الذنوب عمدا أو سهوا، وان هذه الآية نظير الآية السابقة، قال: وهو قول أبي علي وأبي مسلم والقاضي.
وذكر أن قوله تعالى: (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ)«2» يدل على أن في الذنوب صغيرا وكبيرا، وأن جميع ذلك مكتوب محفوظ للجزاء، خلاف ما قاله قوم إن الصغائر لا تثبت. قال الحاكم:«ومتى قيل: أليس الصغائر مغفورة؟ قلنا: لا صغير للكافر والفاسق- لأن استحقاق الثواب مرهون باجتناب الكبائر «3» - وانما الصغائر للمؤمن، فتثبت للموازنة».
(1) من الآيتين 31 - 32 سورة النجم، ورقة 73/ و.
(2)
الآية 53 سورة القمر، ورقة 78/ و.
(3)
انظر ورقة 35/ ومن التهذيب الجزء السابق.
ولعل هذا لا ينافي عند الحاكم أن يحط عن الكافر والفاسق من سيئاته بمقدار ما له من الحسنات، فتثبت فيه نوع من الموازنة، وإن كان ذلك لا يجعله من أهل الثواب، أو يسقط عنه العقوبة. وإلا فان مذهبه في الموازنة- التي تابع فيها أبا هاشم وخالف أبا علي- لا يخلو من اضطراب، قال في قوله تعالى:(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)«1» قال ابن عباس: ليس مؤمن ولا كافر إلا أراه الله عمله، فأما المؤمن فيريه حسناته وسيئاته فيغفر له سيئاته ويثيبه على حسناته، وأما الكافر فيحبط حسناته ويعذبه بسيئاته. ونقل عن بعض المعتزلة أن معنى قوله:«خَيْراً يَرَهُ» أنه يجد جزاء ما عمل من الخير وإن قلّ على الرؤية لا على الجزاء، لأن المحبط والمكفر لا يجازى عليه، فأما «المؤمن والتائب فيرى السيئات مكفرة، ويثاب على الحسنات من غير بخس! وأما الكافر فيرى حسناته محبطة، وذنوبه يعاقب عليها أجمع!» قال الحاكم: «فأما عند مشايخنا فيجازى على جميع أفعاله لا يضيع شيء، فإن كان مؤمنا يجازى على حسناته، وما كان من سيئاته فيحبط بقدره من ثوابه. وإن كان كافرا يعاقب على ذنوبه، وما كان من سيئاته فيحبط بقدره من عقابه بقدره، فيكون قد وجد جزاء جميع أفعاله» ثم قال: «وهذه هي الموازنة التي ذهب إليها شيخنا أبو هاشم وأصحابه، وعليه يدل الظاهر» .
وقال في قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ
…
) الآية، إنها تدل على صحة الموازنة كما يقوله أبو هاشم «2» .
(1) الآيتان 7 - 8 سورة الزلزلة، ورقة 153/ و.
(2)
التهذيب، ورقة 154/ وانظر شرح الأصول للقاضي صفحه 628 - 629.
ولعل أهم مسألة تتصل بباب الوعيد هي الشفاعة التي طعن بها المرجئة على المعتزلة قولهم بدوام عقاب الفاسق، وقد عرّف الحاكم الشفاعة بأنها «مسألة الطالب الحاجة لغيره» قال:«وهي على وجهين: عفو عن ذنب، وتبليغ منزلة أجلّ من منزلته» ولا خلاف عند المعتزلة أن النبي صلى الله عليه وسلم يسفع لأمته على هذين الوجهين، ولكنهم إنما يثبتونها للتائبين من المؤمنين وأصحاب الصغائر، وعند المرجئة أنها للفساق من أهل الصلاة. قال القاضي:
إن المشفوع إليه إذا أجاب الشفيع يكون مكرما له، فكما تقبح الشفاعة لمن قتل ولد الغير وترصد للآخر حتى يقتله، تقبح الشفاعة للفاسق الذي مات على الفسق ولم يتب
«1»
. قال الحاكم في قوله تعالى:
(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ؟)«2» إن الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يشفع لمن في النار، فيبطل قول المرجئة في الشفاعة. وتدل على أنه تعالى لا يخلف الوعد والوعيد.
وقال في قولة تعالى: (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)«3» إن الآية تدل على أن أهل النار لا ناصر لهم، فلو كان يشفع النبي صلى الله عليه وسلم لكان ذلك أعظم نصرة. قال:«فيبطل قول المرجئة في الشفاعة لأهل الكبائر» .
ولمح الحاكم هذا المعنى أيضا فى قوله تعالى: «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ
(1) انظر شرح الأصول للقاضي، ص 688.
(2)
الآية 19 سورة الزمر، ورقة 10/ ظ.
(3)
الآية 41 سورة الدخان، ورقة 45/ و.
أَوْلِياءُ بَعْضٍ) «1» فذكر أنه يدل على أنه لا ناصر لهم ولا شفيع. وقال في قوله تعالى: (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ)«2» إن من يستحق العذاب في ذلك اليوم لا شفيع له ولا ناصر، ثم قال:«ولا يمكن دفعه بوجه!» .
4 -
المنزلة بين المنزلتين: أما المنزلة بين المنزلتين فتعرف بمسألة الأسماء والأحكام، لأن معناها أن لصاحب الكبيرة- الفاسق- اسما بين الاسمين، وحكما بين الحكمين «3» فهو ليس بمؤمن ولا كافر، ولا تجري عليه أحكام المؤمنين ولا أحكام الكفار، وإذا خرج من الدنيا على كبيرته من غير توبة فهو من أهل النار أبدا، كما تقدم في الوعيد، وإن كان عقابه دون عقاب الكافر، وهذا لأن «الإيمان» - والإسلام- عند المعتزلة اسم لجميع الطاعات كما يقول الحاكم «4» وقد قال الشيخان- أبو علي وأبو هاشم- إن الإيمان عبارة عن أداء الطاعات، الفرائض دون النوافل، واجتناب المقبّحات «5» قال الحاكم: ويدل قوله تعالى:
(لِيَزْدادُوا إِيماناً)«6» أن الإيمان يصح فيه الزيادة والنقصان، ولا يكون كذلك إلا والطاعات من الإيمان، والإيمان اسم مدح فلا يستحقه الفاسق.
(1) الآية 19 سورة الجائية، ورقة 47/ و.
(2)
الآية 10 سورة الطارق، ورقة 141/ ظ.
(3)
راجع شرح الأصول الخمسة للقاضي صفحة 137.
(4)
انظر شرح عيون المسائل 1/ ورقة 68.
(5)
انظر شرح الأصول، ص 707.
(6)
الآية 4 سورة الفتح، ورقة 56/ ظ.
وقد ذهب الخوارج إلى عدّ مرتكب الكبيرة كافرا، واعتبره الأشاعرة وسائر أهل السنة من المؤمنين الفاسقين.
وقد انطلق الحاكم في تفسيره لهذه الكلمات والأسماء- الإيمان، الإسلام، الكفر، الفسق، النفاق- التي أثارت جدلا طويلا في تاريخ الإسلام، من مصطلحه الاعتزالي السابق، واستدل له بكثير من الآيات، رادا على من زعم غير ذلك، قال في قوله تعالى:(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ)«1» إنه يدل على «أن الفسق اسم ذم، والإيمان اسم مدح، وأنهما لا يجتمعان» قال: «فيدل على قولنا في انهما من أسماء الشرع، وعلى قولنا في المنزلة بين المنزلتين» . وقال في قوله تعالى:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ)«2» إن الآيات تدل على أن اسم الفسق اسم ذم ولا يجمع مع اسم الإيمان. قال: «فيصحح قولنا في المنزلة بين المنزلتين» . وتدل أن الفوز للمتقين، وأن الفاسق ليس بفائز، فيبطل قول المرجئة.
وقوله تعالى: (وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ)«3» يدل عند الحاكم على
(1) الآية 11 سورة الحجرات، ورقة 62/ و.
(2)
الآيات 18 - 20 سورة الحشر، ورقة 92/ ظ.
(3)
الآية 7 سورة الحجرات، ورقة 61/ ظ.
أمور كثيرة، منها أن المعاصي التي هي مخالفة للإيمان ثلاث، وأن لها رتبا، فالكفر أعظمها، والفسق: هو الكبائر الذي ليس بكفر، والعصيان: الصغائر قال: «فيبطل قول
الخوارج إن جميعها كفر، وقول بعضهم إن الفسق هو الكفر وكل ذنب فسق. ولولا أن الأمر كما قلنا لم يكن للتمييز على هذا الترتيب معنى!»
وكذلك قوله تعالى: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)؟ «1» يدل عنده على أمور كثيرة منها «أن الجنة تنال بالتقوى، خلاف قول المرجئة.
ومنها أن المسلم والمجرم اسمان شرعيان يمدح بأحدهما ويذم بالآخر.
ومنها أن هذين الوصفين كالمتنافيين. ومنها أنهما لا يستويان خلاف قول المرجئة .. ومنها أن الوعيد يتناول المجرم، وهو الفاسق خلاف قول بعضهم. ومنها أن عذابه دائم، إذ لو انقطع لصار في بعض الأوقات كالمتقي!
5 -
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أجمعت المعتزلة- إلا الأصم- على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «2» قال الحاكم: «وهو واجب بحسب الإمكان» «3» باللسان واليد والسيف. واختلفوا في طريق
(1) الآيات 34 - 36 سورة القلم، ورقة 110/ و.
(2)
انظر مقالات الإسلاميين 1/ 278. ويقول القاضي: إنه لا خلاف بين الأمة في وجوبه إلا ما يحكى عن شرذمة من الإمامية لا يقع بهم ولا بكلامهم اعتداد. انظر شرح الأصول الخمسة، صفحة 741.
(3)
شرح العيون 1/ ورقة 68/ ظ.
وجوب هذا الأصل، فذهب أبو علي إلى أنه العقل والسمع جميعا، وقصّره أبو هاشم على السمع، وليس في استدلال الحاكم على وجوبه ببعض الآيات الكريمة، ما يدل على ترجيحه لأحد الرأيين، لاتفاق الشيخين على وجوبه بطريق السمع. ولم يطل الحاكم الوقوف أمام هذا الأصل في تفسيره، كما أن أثره فيه مما لا يمتاز به عن سائر المفسرين، نظرا لاتفاق أغلب الطوائف والفرق الإسلامية على هذا الأصل العملي الهام. وقد استدل على وجوبه بقوله تعالى في سورة العصر:(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ)«1» ، وقوله تعالى:(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ)«2» وقوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)«3» - الذي أعاد فيه الكلام على الخلاف بين الشيخين.
وقال في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)«4» :
«إن الآية تدل على عظيم حال من يأمر بالمعروف وعظيم ذنب من قتله، وأنه بمنزلة من قتل نبيا، ولذلك قرنه به. وتدل على أن الأمر
(1) الآية 3 التهذيب ورقة 154/ ظ.
(2)
الآية 9 سورة الحجرات، ورقة 61/ ظ.
(3)
الآية 104 سورة آل عمران، ورقة 216.
(4)
الآية 21 سورة آل عمران، ورقة 14/ ظ.