الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلنا: المتقارب من الكلام كالمتماثل في أن العادة جارية بمثله، فلو أمكنهم ما يشتبه ويتقارب لأوردوه، ولقالوا إنه أفضل مما جئت به
…
فكيف تدعى النبوة. وبعد، فلو جعل دلالته حمل جسم ثقيل، وقدر الزيادة مما جرت العادة به، لم يخف عليهم أنه ليس بدليل النبوة. ولو كان كذلك كيف يجوز على الخلق العظيم مع وفور أحلامهم وتشددهم في باب الدين أن يتبعوه ويعترفوا بنبوته؟!»
3) مزية القرآن على سائر المعجزات: وهذه المزية من وجوه: أحدها أنه لو كان إحياء الميت ونحوه، والقوم لم يعتادوا الطب، لجاز أن يظنوه من الطب والسحر، فهذا أبعد من ذلك الظن. ومنها: أنه من جنس ما يقدرون عليه فكان اليأس فيه أظهر، إلى جانب أن كونهم النهاية في الفصاحة وقفهم على مباينته لسائر الكلام. ومنها: أن شريعته صلى الله عليه وسلم مؤبدة، فجعل دليلها مؤبدا، إلى جانب صحة التحدي به في كل زمان إلى آخر الدهر.
2 - وجه اعجاز القرآن
الآراء حول «وجه» الإعجاز كثيرة، وربما ذهب بعضهم إلى أن للإعجاز وجها واحدا وأهمل النظر في سائر الوجوه، في حين يذهب آخرون إلى أن له أكثر من وجه، ثم يتفاوتون في عددها، وربما خلط بعض هؤلاء بين وجوه يصعب التوفيق بينها. وفيما كتبه الرماني والخطابي والقاضي عبد الجبار وعبد القاهر .. كثير من المذاهب والآراء:
أ) أما الحاكم فقد أبان عن رأيه في وجه الإعجاز باختصار وقصد،
فقال: «وجه إعجاز القرآن أنه بلغ مبلغا من الفصاحة عجز الخلق عن إتيان مثله» «1» . ثم قال: «وقد اختلف مشايخنا فمنهم من قال: لا رتبة أعلى في الفصاحة من رتبة القرآن، ومنهم من يقول بذلك في البعض دون البعض، ومنهم من يقول: في مقدوره تعالى ما هو أعلى منه. وكل ذلك لا يؤثر فيما بينا» . ومن هنا جاء تعبيره السابق في وجه الإعجاز أن القرآن «بلغ مبلغا من الفصاحة» أعجز الخلق، سواء أكان أفصح الكلام، أم كان في مقدوره تعالى ما هو أفصح، لأن هذا لا يؤثر في شيء مما قدم، كما أنه قد يكون من فضول البحث لأنه مما لا يتعلق بالإعجاز أصلا.
قال أبو هاشم: والكلام إنما يكون فصيحا لجزالة اللفظ وحسن المعنى، ولا بد من اعتبار الأمرين، لأنه لو كان جزل اللفظ ركيك المعنى لم يعد فصيحا «2». قال الحاكم:«والفصاحة لا تظهر في أفراد الكلمات، وإنما تظهر في الجمل» «3» ، قال القاضي:«والفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام، وإنما تظهر في الكلام بالضم على طريقة مخصوصة، ولا بد مع الضم من أن يكون لكل كلمة صفة، وقد يجوز في هذه الصفة أن تكون بالمواضعة التي تتناول الضم، وقد تكون بالإعراب الذي له مدخل فيه. وقد تكون بالموقع» . قال: «وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع، لأنه إما أن تعتبر فيه الكلمة، أو حركاتها، أو موقعها، ولا بد من هذا الاعتبار في كل كلمة، ثم لا بد من اعتبار مثله في الكلمات إذا انضم بعضها إلى بعض،
(1) شرح العيون، ورقة 262.
(2)
راجع «إعجاز القرآن» للقاضي عبد الجبار ص 197.
(3)
التأثير والمؤثر للحاكم، ورقة 79.
لأنه قد يكون لها عند الانضمام صفة، وكذلك لكيفية إعرابها وحركاتها وموقعها. فعلى هذا الوجه الذي ذكرناه إنما تظهر مزية الفصاحة بهذه الوجوه دون ما عداها» «1» أما حسن النغم وعذوبة القول فمما يزيد الكلام حسنا على السمع، لا أنه يوجد فضلا في الفصاحة، لأن الذي تتبين به المزية في ذلك يحصل فيه وفي حكايته على سواء، ويحصل في المكتوب منه على حسب حصوله في المسموع.
هذا الوجه الذي ذهب اليه الحاكم في الإعجاز، ووقفنا على بيانه عند أبي هاشم وعبد الجبار، أشار اليه الحاكم وإلى شيء من تفصيله في شواهد قرآنية كثيرة؛ قال في قوله تعالى:(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ. وَماءٍ مَسْكُوبٍ. وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ. لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ. وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ. إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً. فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً. عُرُباً أَتْراباً. لِأَصْحابِ الْيَمِينِ. ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ.)«2» إن الآيات «تدل على عظيم منزلة القرآن في الإعجاز، وبلوغه في الفصاحة مبلغا عجز عن مثله البشر، لأن من تأمل هذه الآيات علم أنه ليس في مقدور أحد مثله!!» .
وقال في سورة الكوثر: «تدل السورة على معجزات
…
منها عجزهم عن الإتيان بمثل هذه السورة مع تحديه لهم، وحرصهم على بطلان أمره.
ومنها: ما في السورة من الإعجاز؛ لأنها مع قصرها تدل على أنه معجز، وأنه كلام رب العزة لفظا ومعنى، أما المعنى ففيه تشريف له صلى الله عليه وسلم بما أعطي
(1) إعجاز القرآن للقاضي ص 199.
(2)
الآيات 27 - 40 سورة الواقعة، التهذيب ورقة 82.
من الخيرات دينا ودنيا، وأمر بالصلاة التي هي آكد عبادات البدن، وأمر بالهدايا التي هي من حقوق المال. وفيه أن ما يفعله ينبغي أن يكون لله، وفيه بشارة بهلاك أعدائه وظهور أمره. فأما اللفظ: فتشاكل الألفاظ، وسهولة مخرج الحروف، وحسن التأليف، وتقابل المعاني، لأن قوله (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) أحسن موقعا من: أعطيناك الكثير، أو النعم، أو نهرا في الجنة، أو النبوة، من حيث سهولة اللفظ واشتماله على المعاني الكثيرة.
وقوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) أحسن من: صلّ لنا، وقوله:(وَانْحَرْ) أحسن من أنسك. و (الْأَبْتَرُ) أحسن من «الأحسن» وأعم، وأدل على الكناية فهذه الحروف القليلة جمعت
المحاسن، مع ما فيها من الفخامة وعظم الفائدة، حتى تقبلها النفوس ولا تمجها الآذان» «1» .
وقال في قوله تعالى- في قصة أم موسى- (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ)«2» «في الكلام اختصار، أي فذهبت فوجدت آل فرعون أخرجوا التابوت وأخرجوا موسى (فبصرت به)» قال: «وهذا من إعجاز القرآن في إيجاز الكلام الدال على المعنى الكبير» .
وكثيرا ما يروق له مثل هذا التعليق أمام اختصار الحوادث، وفي المشاهد الحاضرة في القرآن الكريم.
وبالرغم من دقة الحاكم في فهم فكرة «النظم» التي ردّها كوجه إعجاز للقرآن، على ضوء المدرسة الجبائية- كما سنرى في البند التالي- إلى جانب إيمانه بفكرة الفصاحة هذه، وأنها إنما تظهر في الجمل دون الكلمات،
(1) التهذيب، ورقة 157/ ظ.
(2)
الآية 11 سورة القصص، ورقة 40/ ظ.
فإن أكثر تعليقاته حول موضوع الإعجاز في تفسيره، يكاد لا يخرج عن سلك الملاحظات الذوقية الجمالية الخاصة، التي يضمها باب واسع يدعى الفصاحة!
ب) رد الحاكم فكرة النظم التي قال بعضهم إن القرآن معجز بها، وقد وجدنا أبا مسلم الأصفهاني والماوردي يذهبان اليها، وقد جعلها أبو مسلم أحد وجهين دالين على إعجاز القرآن، وسلكها الماوردي ضمن ثمانية وجوه!! قال أبو مسلم:«أما الإعجاز المتعلق بفصاحته وبلاغته فلا يتعلق بعنصره الذي هو اللفظ والمعنى، فإن ألفاظه ألفاظهم قال تعالى: (لِساناً عَرَبِيًّا) (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)، ولا بمعانيه فإن كثيرا منها موجود في الكتب المتقدمة، قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)» ، ثم بعد أن استعرض أنواع الكلام المنظوم والمنثور، والسجع والشعر، والخطابة والكتابة والرسائل؛ قال: «والقرآن جامع لمحاسن الجميع على نظم غير نظم شيء منها
…
» «1» .
وواضح من هذين النصين أن القرآن معجز بسبقه إلى أسلوب- نظم- جديد لم تعهده العرب، قال الحاكم: «ومن قال: الإعجاز في النظم
(1) معترك الأقران في إعجاز القرآن للسيوطي، ورقة 2 - 3 مخطوط.
(2)
النكت والعيون في تفسير القرآن للماوردي، ورقة 4 مخطوط.
لا يصح لأنه يؤدي إلى أن يكون معجزا للسبق. ولو جاز ذلك لجاز في أول شاعر وأول خطيب! فإن قال: أريد نظما يبلغ في الفصاحة مبلغا لا يمكن فيه المعارضة! قلنا: هذا هو الذي قلناه، إلا أنه ضم اليه شيئا آخر، لأنه لو حصل كذلك بلا نظم كان معجزا، ولو حصل النظم وصح الاشتراك لم يكن معجزا» «1» .
على أن لفكرة النظم مفاهيم أخرى تجعل اشتراكها مع الفكرة التي رد عليها الحاكم مجرد اشتراك في اللفظ، على نحو ما يدل عليه كلام الرماني والباقلاني، ومن قبلهما الجاحظ «2» .
ج) أما الصرفة التي ردها الحاكم صراحة، وبما قدمنا من كلامه في ثبوت الدواعي، فقد شرحها كثيرون، وربما وصل اليها القائلون بها، كل من طريق!
وذكر الماوردي أن القائلين بها اختلفوا على وجهين رئيسيين: أحدهما:
أن العرب صرفوا عن القدرة على مثل القرآن، ولو تعرضوا لذلك لعجزوا، والثاني: أنهم صرفوا عن التعرض له مع كونه في قدرتهم، ولو تعرضوا «لجاز» أن يقدروا عليه! «3» .
أما القاضي عبد الجبار فقد ذكر هذين الوجهين بصفتهما احتمالين يمكن أن يفسر بهما القول بالصرفة، دون النص على أن القائلين بها اختلفوا على
(1) شرح عيون المسائل، ورقة 263.
(2)
راجع النكت في إعجاز القرآن للرماني (ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن) طبع دار المعارف، ص 70. وإعجاز القرآن للباقلاني تحقيق الأستاذ السيد أحمد صقر، ص 35، والبيان والتبيين 1/ 383.
(3)
النكت والعيون، ورقة 4.
هذين الوجهين، قال القاضي: «فأما قول من يقول: إنه تعالى صرف هممهم ودواعيهم عن المعارضة فلذلك صار القرآن معجزا، فليس يخلو من أن يريد:
إنهم لو لم تنصرف دواعيهم كان يمكنهم أن يأتوا بمثله، أو يقول: كان لا يمكنهم ذلك» «1» .
وأيا ما كان الأمر فقد رد الحاكم هذين الوجهين- أو الاحتمالين- من وجوه الصرفة، وأبان عن فساده، قال: «وقول من يقول بالصرفة لا يصح لوجوه، منها: أن القوم في أيامه لم يكونوا ممنوعين من الكلام، فان أراد صرفهم عن العلم الذي معه يتأتى مثله فهو الذي نقول، وإن أراد صرفهم، وتلك العلوم قائمة والدواعي إلى المعارضة متوافرة؛ فذلك يستحيل. وإن قال: يصرفهم عن الدواعي فقد بينا ثبوت الدواعي فيهم.
وبعد، فلو كان الإعجاز الصرفة لكان أدون في الفصاحة آكد في الإعجاز، ولكنه كان لا يصح التحدي به!».
د) ورد الحاكم القول بأن المعجز بما فيه من أخبار الغيب، أو أنه غير متناقض، قال:«وقول من يقول الإعجاز أنه لا تناقض فيه لا يصح، لأن التناقض يرجع إلى المعنى، والتحدي وقع باللفظ!. وقول من يقول: المعجز بما فيه من أخبار الغيب غير سديد، لأنه لو كان كذلك لكان المعجز ما يتضمن خبرا، ولأنه تحدى بسورة، ونحن نعلم أن كثيرا من السور لا يتضمن خبرا!» .
هـ) وأخيرا ختم الحاكم القول في إعجاز القرآن بأن الخلاف في
(1) إعجاز القرآن للقاضي، صفحة 323.
«وجه» الإعجاز بين العلماء لا يؤثر في وجود هذا الإعجاز، وصحة التحدي بالقرآن، قال: «فإن قيل: كيف يصح كونه معجزا مع هذا الاختلاف؟ قلنا: علماء الإسلام اتفقوا في كونه معجزا لا خلاف بينهم، وإنما اختلفوا في علته، ثم بأي وجه صار معجزا فالغرض يحصل، لأنه إن كان معجزا بالفصاحة فالكلام تام، وإن كان للإخبار عن الغيوب التي هي ناقضة للعادة فكمثل، ولو كانوا يقدرون على مثله ثم منعوا فكمثل.
وكذلك لو كان نظمه معجزا حصل المقصود».
ثم أكد- رحمه الله مذهبه السابق في الإعجاز، وعقب عليه بجملة جامعة نختم بها هذا الفصل، قال: «وإن كان الصحيح ما ذكرنا، يوضحه أنه صلى الله عليه أتى بالقرآن مع أنه لا يكتب ولا يقرأ ولا يخالط أهل الأخبار والسير.
«ثم من عصره إلى يومنا هذا وقع التحدي في المناظرات والمجالس، مع كثرة أعداء الاسلام وتصنيفهم الكتب في كل نوع، ثم لم يأت أحد بآية مثله!
«وبعد، فإن كل أمر أسس على فساد، فإنه عن قريب يبطل ويضمحل، والإسلام بخلافه» «1» .
(1) شرح العيون، ورقة 63.
الباب الخامس مكانة الحاكم وأثره في التفسير