المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رابعا: النسخ في القرآن - الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير

[عدنان زرزور]

فهرس الكتاب

- ‌حوار مجلة الفرقان مع الدكتور عدنان زرزور

- ‌(نحو جيل قرآني)

- ‌(أسباب النزول)

- ‌(قضية الإعجاز العلمي)

- ‌(التفسير الموضوعي)

- ‌(بين سيد قطب والشعراوي)

- ‌(الحرب ضد القرآن)

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌ 3

- ‌ 4

- ‌ 5

- ‌ 6

- ‌ 7

- ‌ 8

- ‌مقدّمة

- ‌وبعد:

- ‌أولا: الحالة السياسيّة

- ‌1 - البويهيون

- ‌2 - الغزنويون

- ‌3 - السلاجقة

- ‌4 - الفاطميون

- ‌5 - الباطنية

- ‌6 - الزيدية

- ‌6 - ملوك الطوائف في الأندلس

- ‌7 - الحروب الصليبية

- ‌ثانيا: الحالة الدينية

- ‌1 - المعتزلة

- ‌2 - الأشاعرة

- ‌3 - الصوفية

- ‌ثالثا: أثر الحالة السّياسيّة والدينيّة في الحياة العامة

- ‌1 - الفتن السياسية

- ‌2 - فتن أرباب العقائد

- ‌3 - منازعات الفقهاء

- ‌رابعا: حركة التأليف في التفسير وعلم الكلام

- ‌1 - التفسير

- ‌أما أهم التفاسير المطولة التي وصلتنا فهي:

- ‌2 - علم الكلام

- ‌[اهم مصنفات المعتزلة في علم الكلام]

- ‌الفصل الأوّل حياة الحاكم

- ‌اولا: اسمه ونسبته

- ‌ثانيا: ولادته ونشأته:

- ‌ثالثا: وفاته

- ‌رابعا: شيوخه:

- ‌خامسا: تلامذته:

- ‌سادسا: عقيدته ومذهبه

- ‌رأي الزيدية في الإمامة

- ‌الفصل الثاني آثاره

- ‌اولا: في تفسير القرآن

- ‌1) التهذيب في التفسير

- ‌2) تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين

- ‌3) التفسير المبسوط

- ‌4) التفسير الموجز

- ‌1 - و (التهذيب)

- ‌2 - تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين:

- ‌ثانيا: في علم الكلام

- ‌1 - التأثير والمؤثر:

- ‌2 - شرح عيون المسائل

- ‌ثالثا: في الحديث

- ‌رابعا: في التاريخ

- ‌خامسا: في الفقه

- ‌سادسا: في العلوم الأخرى

- ‌سابعا: تعقيب عام حول ما وصل الينا من كتب الحاكم رحمه الله

- ‌الفصل الأوّل تفاسير المعتزلة قبل الحاكم

- ‌حول هذه التفاسير الخمسة:

- ‌الفصل الثاني مصادر الحاكم في التفسير

- ‌أولا: الحاكم وتفاسير المتقدمين

- ‌ثانيا: مصادره السلفية

- ‌1 - عمده من هذه المصادر:

- ‌2 - أمثلة وشواهد:

- ‌ثالثا: مصادره الاعتزالية

- ‌1) بين هذه التفاسير والتفاسير السابقة:

- ‌2 - عمده الرئيسية من هذه التفاسير، وموقفه من تفسير القاضي:

- ‌رابعا: نقوله العامة أو المبهمة

- ‌خامسا: حول طريقته في الافادة من المصادر

- ‌الفصل الأوّل قاعدة الحاكم الفكريّة ومحوره في تفسيره

- ‌أولا: قاعدته الفكرية العامة

- ‌خلق القرآن:

- ‌المنهج وهذه الأصول

- ‌ثانيا: محوره في تفسيره

- ‌1 - اكتساب المعارف

- ‌2 - الرد على المجبرة

- ‌الفصل الثاني قواعده الأساسيّة في التفسير

- ‌تمهيد: بين التفسير والتأويل

- ‌أولا: الأصل الجامع لقواعده في التفسير

- ‌ثانيا: قواعده الأساسيّة في التفسير

- ‌القاعدة الأولى: ليس في القرآن ما لا معنى له، أو ما لا يفهم معناه

- ‌فروع هذه القاعدة

- ‌القاعدة الثانية: لا يختص بتفسير القرآن الرسول أو السلف

- ‌1 - موقفه من تفسير السلف

- ‌2 - موقفه من الأحاديث والأخبار المرفوعة:

- ‌أ) أكثر الحاكم من الاستشهاد بالحديث في الشرح، ومن التدليل به على الأحكام التي يقف عليها في الآية أو النص القرآني:

- ‌ب) اعتمد الحاكم على الحديث في بيان المجملات والأمور الإخبارية وفي تفصيلات الأمور الغيبية

- ‌القاعدة الثالثة: رفض «التفسير الباطني» وأن الإمام طريق معرفة القرآن

- ‌القاعدة الرابعة: إثبات المجاز في القرآن، ومنع الحمل عليه إلا إذا تعذرت الحقيقة

- ‌الفصل الثالث حدوده في التأويل

- ‌أولا: أقسام المعارف

- ‌ثانيا: ميزان التأويل

- ‌ثالثا: التأويل واللغة وأنواع المجاز

- ‌رابعا: من تأويلاته في باب التوحيد والعدل

- ‌1 - في التوحيد وآيات الصفات

- ‌2 - في العدل

- ‌خامسا: منهج الحاكم في التأويل بين اللغة والعقل

- ‌الفصل الرّابع أثر منهجه العقلي وثقافته الكلامية في تفسيره

- ‌أولا: مبدأ اللطف

- ‌ثانيا: النبوة والأنبياء

- ‌ثالثا: الأرزاق والآجال

- ‌رابعا: حول عالم الغيب

- ‌خامسا: تعريفات وأمور فلسفية

- ‌الفصل الأوّل طريقته في كتابه «التهذيب»

- ‌تمهيد: بين المنهج والطريقة

- ‌أولا: القراءة

- ‌ثانيا: اللغة

- ‌ثالثا: الاعراب

- ‌رابعا: النزول

- ‌خامسا: النظم

- ‌سادسا: المعنى

- ‌1) طريقته في إيراد الأقوال ووجوه المعاني:

- ‌2) طريقته في الترجيح بين هذه الأقوال:

- ‌3) من شواهد طريقته في إيراد المعاني والأقوال:

- ‌4) من شواهد طريقته في الترجيح:

- ‌سابعا: الأحكام

- ‌ثامنا: القصة

- ‌تاسعا: الفقه

- ‌الفصل الثاني آراؤه في علوم القرآن

- ‌اولا: نزول القرآن

- ‌ثانيا: نقل القرآن

- ‌ثالثا: فضائل القرآن

- ‌رابعا: النسخ في القرآن

- ‌خامسا: اعجاز القرآن

- ‌1 - مقدمات الاعجاز

- ‌2 - وجه اعجاز القرآن

- ‌الفصل الأوّل مكانة الحاكم

- ‌أولا: منزلة الحاكم العامة

- ‌ثانيا: قيمة كتابه «التهذيب في التفسير»

- ‌الفصل الثاني أثره في المفسّرين

- ‌أولا: أثره في الزمخشري (467 - 538)

- ‌أ) من الشواهد التي نكتفي فيها بالاحالة على ما تقدم:

- ‌ب) من الشواهد الموجزة التي أشرنا إليها في هذه الرسالة:

- ‌ج) شواهد أخرى:

- ‌ثانيا: أثر الحاكم في سائر المفسرين

- ‌مصادر البحث

- ‌أولا: المخطوطات

- ‌ثانيا: الكتب المطبوعة

- ‌ثالثا: الدوريات

- ‌كتب للمؤلف

الفصل: ‌رابعا: النسخ في القرآن

وقال في أول الكهف- بعد أن روى من حديث أبي سعيد أن من قرأها يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين- «وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال)» .

وما أورده الحاكم من الآثار في باب فضائل بعض الآيات، أقل بكثير مما ذكره في فضائل السور، ولعل تلك الآثار أقل من هذه في كتب الحديث، وفي كتب التفسير الأخرى.

‌رابعا: النسخ في القرآن

أكثر ما عرض الحاكم لموضوع النسخ عند كلامه على «الأحكام» - وهذا مما حملنا على إفراده بفقرة مستقلة بعيدة عن فقرة «الفقه» التي لم يشر فيها إلى هذا الموضوع- لبيان أن الآية التي فسرها وقدم فيها القول ناسخة أو منسوخة، مع الإشارة إلى أن دعوى النسخ لا تصح في كثير من الآيات، خلافا لما ذهب اليه البعض. وهو وإن قال بوقوع النسخ في القرآن- فعل الجمهور- إلا أن مخالفته لدعاويه الكثيرة، كثيرة أيضا.

ونحاول في هذه الفقرة الوقوف على «خلاصة» رأية في النسخ- من خلال تعليقاته وردوده الكثيرة في تفسيره- مع ذكر بعض الشواهد الموجزة الموضحة لهذا الرأي:

1) تعريف النسخ وجوازه والفرق بينه وبين البداء: ذكر الحاكم في تفسيره لقوله تعالى: (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها)«1» وجوه القراءة في الآية وما يتبع ذلك من اختلاف المعنى،

(1) الآية 106 سورة البقرة، التهذيب، ورقة 138 - 139.

ص: 422

وما ذهب إليه السلف والأئمة وكثير من شيوخ الاعتزال في معنى النسخ الوارد في الآية، وما هو المراد من «الآية» الواردة فيها، كما ذكر أصل معنى «النسخ» في اللغة أهو من الإبدال كما قال به الرماني، أم من الإزالة كما ذهب اليه أبو هاشم.

ثم ذكر من تعاريفه الاصطلاحية هذين الحدين للقاضي عبد الجبار وعلي ابن عيسى الرماني، قال القاضي:«النسخ في الشرع: هو ما دل على أن مثل الحكم الثابت بالشرع غير ثابت في المستقبل، على وجه لولاه لكان ثابتا بالنص الأول، مع تراخيه عنه، فالنص الثاني ناسخ، والأول منسوخ» وقال الرماني: «هو رفع لشيء قد كان يلزم العمل به إلى بدل منه» .

ولم يرجح الحاكم أحد هذين التعريفين، ولعله وجد أنه لا تعارض بينهما لأن تعريف القاضي الذي ينسب عادة إلى المعتزلة «1» - إنما هو تعريف «للناسخ» «والمنسوخ» ، وتعريف الرماني إنما هو لحقيقة «النسخ» عندهم.

وأيا ما كان الأمر فقد ذهب الحاكم إلى جواز النسخ- وحكم بوقوعه- كما قدمنا، ورد على أبي مسلم الأصفهاني مذهبه في إنكار النسخ، قال الحاكم: «واختلفوا في قوله (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) فكل المفسرين حملوه

(1) انظر التعريف الذي حكاه الآمدي عن المعتزلة، وقارنه بالتعريف الذي ذهب إليه القاضي أبو بكر الباقلاني، وانظر مناقشة ضافية لهذه التعاريف ولتعاريف أخرى كثيرة قيلت في النسخ، في كتاب الأستاذ الدكتور مصطفى زيد:

النسخ في القرآن الكريم 1/ 87 - 89 والصفحات التالية.

ص: 423

على الآية من القرآن غير أبي مسلم فإنه حمل ذلك على التوراة والانجيل والشرائع التي فيها، وقال: أراد ما ننسخ من آية، أي من شرائعهم وكتبهم. (أو ننسها) يعني لا ذكر لها في القرآن (وننسئها) نؤخرها ونبقيها فلا ينسخها القرآن، ونذكرها في القرآن. وقوله (نأت بخير منها) يعود الضمير في «منها» إلى ما ننسخ، وفي (مثلها) يرجع إلى ما لم ننسخ»، قال الحاكم:«وهو محجوج بالإجماع. والذي ذكره هاهنا وجه وربما تأول الآيات المنسوخة على تأويل بعيد، ويتعسف فيها» .

وعرض الحاكم لموضوع مخالفة اليهود في النسخ، وأطال الرد عليهم في مسألة البداء- على منهجه الكلامي المعهود- فقال في «أحكام» آية النسخ السابقة: «ولا خلاف بين المسلمين في جواز النسخ، وإنما خالف في ذلك اليهود، فمنهم من يأباه عقلا ويزعم أنه بداء، ومنهم من يأباه سمعا بخبر زعموا أنه من موسى عليه السلام! وفيهم أيضا من

يجوز النسخ.

وعندنا: الشرائع مصالح فلا يمتنع أن تختلف بالأزمنة والأمكنة».

«أما الفصل بين النسخ والبداء فالأصل فيه أن الشيء إنما يدل على البداء إذا اجتمع فيه شرائط خمس: أولها أن يرد أمر ونهي وثانيها أن يكون الفعل واحدا. وثالثها أن يكون الوقت واحدا. ورابعها أن يكون المكلّف واحدا. وخامسها: أن يكون الوجه واحدا.

فمتى تكاملت هذه الوجوه دل على البداء، ومتى أخل بوجه منها لا يدل».

قال: «وإن شئت قلت: كل نهي قرنته بأمر فلم يدل على المناقضة لا يدل على البداء، وكل ما يدل على المناقضة يدل على البداء. وإن شئت قلت: كل أمر ونهي ورد أحدهما عقيب الآخر، ويصح حصولهما

ص: 424

من واحد وحاله في العلم في الحالين على السواء بحيث لا يتغير، لا يدل على البداء، وإن كان لا يصح حصولهما منه وحاله في العلم في الحالين على السواء دل على البداء. مثال ذلك: إذا أمر زيدا أن يشتري وقت الظهر لحم الغنم، ثم نهاه أن يشتري وقت الظهر لحم الغنم .. هذا يدل على أنه ظهر له ما لم يكن ظاهرا، وإلا لما نهى. فإن تغير واحد لا يدل، نحو أن يأمر زيدا وينهى عمرا، أو أن يأمره في وقت الظهر وينهاه في وقت العصر، أو يأمره بالشراء وينهاه عن الانتهاب، أو يأمره بلحم الغنم وينهاه عن لحم البقر.

«وإنما قلنا إنه لا يدل على البداء لأنه لا يمتنع أن يكون الشيء مصلحة لزيد مفسدة لعمرو، ولا يمتنع أن يكون مصلحة لزيد في وقت دون وقت، وأن يكون فعل له فيه مصلحة، وفعل آخر مفسدة، أو يكون مصلحة على وجه دون وجه. وإذا لم يمتنع ذلك لم يدل على البداء» «1» .

2) لا نسخ في الأخبار وحيث لا تعارض: ويبدو أن التمييز بين النسخ والتخصيص والتقييد وسائر أنواع البيان كان ماثلا أمام الحاكم وهو يرد كثيرا من دعاوى النسخ أو يهمل الإشارة إليها. وواضح من كتابه أنه يذهب إلى إنكار النسخ في الأخبار، وفي الآيات التي لا يوجد بينها تناف أو تعارض، كما ينكر وقوعه في آيات الوعيد، وفي آيات أخرى كثيرة زعم أنها نسخت بآية القتال، أو اشتهر بأنها من المنسوخ، يحدوه في ذلك منهج لا يعفيه من النظر- على الدوام- ومناقشة أي دعوى والحكم عليها بالرد أو القبول. ويمكن أن تصنف الآيات التي رد فيها الحاكم دعوى

(1) شرح العيون للحاكم، ورقة 258.

ص: 425

النسخ في فقرتين اثنتين: دعاوى النسخ في الآيات الإخبارية. وفي الآيات التي لا يوجد بينها تعارض. بل يمكن إعادتها إلى هذه الفقرة الأخيرة وحدها كما يبدو ذلك من تعليقاته الكثيرة حول هذا الموضوع:

أ- قال في قوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)«1» إن الربيع قال: نسخت هذه الآية بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)، قال الحاكم:«وهذا لا يصح لأنه لا تنافى بين الآيتين، ولأنه خبر فلا يدخله النسخ» .

ب- وذكر في قوله تعالى: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ)«2» انها منسوخة بآية السيف، عن الكلبي! قال:«وليس في الآية ما ينافي الجهاد حتى تحمل على النسخ» !

ج- وقال في قوله تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ. قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ. قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ

(1) الآيتان 17 - 18 سورة النساء، التهذيب ورقة 134.

(2)

الآية 139 سورة البقرة، ورقة 167/ و.

ص: 426

الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) «1» قيل إنها منسوخة لأنها نزلت قبل غفران ذنبه! قال:

«وهذا فاسد لأنه ليس في الآية وقوع ذنب، وإنما فيها أنه يخاف! ولأن ذنوب الأنبياء تقع مكفرة» .

وقال في تفسير قوله تعالى: (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي .. ) قل يا محمد إنني لا أعبد إلا الله تعالى وحده، ولا أعبد معه شيئا، ولا أعصيه في شيء، فاعبدوا ما شئتم فستجدون جزاءه. وقيل: تقديره إذا لم تقبلوا نصحي فأنتم وشأنكم فإني لا أعبد أحدا سواه.

قال الحاكم: وقيل إنها منسوخة بآية القتال! قال: «وهذا في غاية الفساد لأنه ليس بأمر حتى ينسخ، وإنما هو تهديد ووعيد فلا تنافي القتال والقتل» !

د- وأخيرا قال في تفسير قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)«2» إنه يحتمل وجهين: أحدهما أنه لم يكلف شططا ولا شيئا لا يقدر العبد عليه. والثاني أنه أراد المبالغة،

أي اتقوا الله ما أمكنكم.

ثم قال: «ومتى قيل: أليس روي عن بعضهم أن هذا ناسخ لقوله (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ)؟ قلنا: ذلك ليس بصحيح لأنه تعالى لم يكلف إلا ما يطيقه العبد، والآيتان لا تتنافيان، وإنما وردتا بشرط الطاقة» .

3) من شواهد النسخ عند الحاكم: وفي الآيات الأخرى التي لم يردّ فيها الحاكم دعوى النسخ، لم يلتزم بترجيح الرأي في أنها منسوخة-

(1) الآيات 11 - 15 سورة الزمر، ورقة 10/ و.

(2)

الآية 16 سورة التغابن، ورقة 102/ ظ.

ص: 427

حيث يكون هناك معارض لدعوى النسخ يذكره هو- كما لم ينص صراحة على أنه يذهب فيها إلى القول بأنها منسوخة وإن لم يذكر فيها رأيا آخر، حتى كان الوقوف على الآيات التي صرح فيها الحاكم بالنسخ كالمتعذر. وكل ما في الأمر أن الحاكم يقول بالنسخ، وأنه يضيق دائرته إلى حد كبير.

ونورد فيما يلي شاهدين من شواهده في النسخ يدلان على طريقته التي تحدثنا عنها:

أ- قال في قوله تعالى في مطلع سورة المزمل: (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا

) الآيات: «1» . روى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل فتسامع الناس به واجتمعوا وكثروا، فدخل البيت فقال: أخاف أن تكتب عليكم، فجعلوا يتنحنحون حتى يخرج إليهم، فنزل قوله تعالى (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ .. ) وفرضت الصلاة بالليل حتى كان أحدهم يربط حبلا فيتعلق به، فمكثوا كذلك ثمانية أشهر، ثم نسخ ذلك وصارت صلاة الليل تطوعا. قال الحاكم: «وقيل: لم تكن فريضة، بل كانت تطوعا لأن الفرض لا تخيير فيه. وقيل: كانت فرضا، والزيادة والنقصان موقوفان على رأي المصلي واختياره. وقيل: لما نزلت هذه الآية اشتدت عليهم محافظة الوقت نصف الليل أو أقل أو أكثر، فكان يقوم حتى يصبح! فشق عليهم وتورمت أقدامهم، فخفف عنهم ونسخت.

وقيل: بين أن فرضت حتى نسخت سنة، عن ابن عباس والحسن وقتادة.

وقيل: كان بينهما عشر سنين، عن سعيد بن جبير! وقيل: ثمانية أشهر؛

(1) الآيات 1 - 8، التهذيب، ورقة 119.

ص: 428

عن عائشة. وقيل: كان هذا بمكة قبل فرض صلاة الخمس ثم نسخ بالخمس، عن ابن كيسان ومقاتل».

ثم قال الحاكم: «تدل الآية على وجوب صلاة الليل عليه صلى الله عليه وسلم، هكذا قاله أكثر المفسرين. وذكر أبو علي أنه لم يكن واجبا بل كان نفلا فلذلك خيّر. قال القاضي: وإذا كان مقتضى الأمر لا يقتضي الوجوب لم يكن في ظاهره دلالة على ما يقوله القوم، إلا أنه ثبت أن أوامر الله ورسوله تقتضي الوجوب، فلهذا دل الظاهر عليه» قال الحاكم: «وإذ ثبت وجوبه اختلفوا فالأكثر من الفقهاء والمفسرين أنها منسوخة، وعن الحسن وابن سيرين: لا بد من قيام الليل ولو قدر حلب شاة» !

ب- وقال في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)«1» إن الآية الأولى الموجبة لتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم قيل في سبب نزولها إنهم سألوا رسول الله فأكثروا فشق عليه فأمروا بتقديم صدقة، عن ابن عباس. وقيل إن الآية نزلت في الأغنياء كانوا يناجون النبي ويغلبون الفقراء ويكثرون الجلوس، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فأمروا بتقديم صدقة قبل المناجاة فانتهوا عن مناجاته واشتد ذلك فنزلت الرخصة:(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ .. )،

(1) الآيتان 12 - 13 سورة المجادلة، ورقة 89.

ص: 429

عن مقاتل. قال قتادة: لما نهوا عن مناجاته حتى يتصدقوا لم يناجه إلا علي بن أبي طالب عليه السلام، قدم دينارا فتصدق به ثم نزلت الرخصة. وعن علي: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ.) ثم نسخت.

وعن ابن عمر: كان لعلي ثلاث لو كان لي واحدة منها كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى.

قال الحاكم: «ومتى قيل: هل كان ذلك واجبا؟ قلنا: نعم، ثم نسخ بالآية التي بعدها (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا

) عن الحسن وقتادة، وتلك الآية وإن اتصلت بهذه في التلاوة فيجوز أن تكون متأخرة بزمان في النزول. وروي أنه بقي زمانا ثم نسخ، عن مقاتل. وقيل: بل كانت ساعة ثم نسخ، عن الكلبي. وقيل عمل بها علي بن أبي طالب فقط.

وقيل بل عمل فيها أفاضل الصحابة. وقيل: كان المنافقون يستثقلونه، عن أبي علي».

وقال في قوله تعالى: (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) قيل معناه:

إذا كنتم تائبين وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة كفاكم ذلك. وقيل: إذا لم تفعلوا ذلك وشق عليكم ذلك نسخ، فجعل ترك مؤاخذتهم بالنسخ توبة عليهم! وقيل معناه: قبل توبتكم. وقيل: لطف لكم حتى تبتم.

ثم عقب الحاكم على الآيتين جميعا بقوله: «ولا خلاف أن هذه الصدقة كانت واجبة وأنها نسخت» قال: «ومتى قيل: كيف نسخ عنهم قبل الفعل؟ قلنا: مكّنوا ففعل من فعل فجاز» . وهذا يسلمنا إلى الحديث عن موقف الحاكم من النسخ قبل الفعل.

ص: 430

4) النسخ قبل الفعل: ونختم حديثنا في موقف الحاكم من النسخ في القرآن «1» بالكلام على رأيه في النسخ قبل الفعل أو قبل الوقوع، ويتلخص رأيه في هذه المسألة بالقول بجواز النسخ قبل الفعل، وعدم جوازه قبل «وقت الفعل» لأنه إذا حصل قبل التمكين منه دل على البداء، وذلك- كما قدمنا- لا يجوز على الله تعالى.

قال في الآيات التي حكت قصة موسى مع قومه حين كلفهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة- قال تعالى: (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها

) إلى آخر الآيات «2» - قال الحاكم: «تدل الآيات على

(1) من جوانب الموضوع «الفقهية» التي طوينا الكلام فيها، ونشير إليها هنا باختصار: استدلال الحاكم بقوله تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) على جواز نسخ القرآن بالسنة- وبالقرآن طبعا- لأن هذا المعنى قد يحصل بالكتاب والسنة، قال:«ولأن السنة إذا كانت بأمره ووحيه صح إضافتها إليه تعالى، ولأنهما يستويان في العلم والعمل، فجاز النسخ بكل واحد منهما. والآية تدل على الضد مما تعلق به الشافعية من منع نسخ القرآن بالسنة» وهذه السنة الناسخة، عند الحاكم وعند فقهاء الزيدية، هي المتواترة، قال الحاكم:«وقد جوز بعضهم النسخ بخبر الآحاد، وليس بشيء لأنها لا توجب العلم» .

(2)

الآيات 67 - 71 سورة البقرة، ورقة 95 - 96.

ص: 431

جواز النسخ قبل الفعل، وإنما لا يجوز قبل وقت الفعل لأنه يدل على البداء، فأما إذا فات وقته جاز نسخه لأن المصلحة قد تتغير.»

قال: «واختار أبو مسلم وجماعة من المفسرين أن المأمور به ثانيا هو «بيان» للمأمور به أولا وليس بنسخ». قال الحاكم: وعندنا أنه تكليف بعد تكليف وليس ببيان، لوجوه: منها «أن الأمر الأول لا يحتاج إلى بيان، ولو احتاج لما جاز تأخير البيان عن وقت الخطاب. ومنها: أن العلماء أجمعوا على أنهم لو ذبحوا بقرة أجزأت عنهم، فلما راجعوا وبين صفة البقرة اشتد عليهم، فلم تجز إلا بقرة موصوفة، فكان تكليفا غير الأول.

ومنها: أن قوله تعالى (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) استبطاء وذم لهم، فلولا أنهم مقصرون وإلا لما صح ذلك، ولو كان يلزمهم الفعل عند آخر البيان لما كانوا مقصرين ولما استحقوا الذم!».

واستدل بعضهم على جواز النسخ قبل «وقت» الفعل بقصة الذبيح إسماعيل عليه السلام «1» وأن الله تعالى نسخ الأمر الذي كلف به إبراهيم قبل أن يذبح ولده، وعند الحاكم أن القصة ليس فيها نسخ لا قبل الفعل ولا قبل وقت الفعل، لأن إبراهيم- عنده- لم يؤمر بذبح ولده أصلا، وإنما أمر بمقدمات الذبح، وكان الحسن يقول: ظن أنه سيؤمر بالذبح فلم يؤمر به. قال الحاكم: «ومتى قيل: لم قال (أني أذبحك)؟ قلنا:

لم يقل: أمرت بالذبح، ولكن رأى في المنام كأنه أضجعه والسكين تمر في أوداجه، ولذلك قال:(افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) ولم يقل: ما أمرت!!

(1) انظر الآيات 100 - 107 سورة الصافات، التهذيب 164.

ص: 432