الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سابعا: تعقيب عام حول ما وصل الينا من كتب الحاكم رحمه الله
ونختم هذا الفصل بكلمة سريعة حول كيفية وصول بعض كتب الحاكم وسائر كتب الاعتزال الينا عن طريق حفظها في اليمن، وهي غير البيئة التي عاش فيها الحاكم
والقاضي عبد الجبار وتلامذته الذين وصل الينا طرف من تراثهم. ولعل من حقنا أن نذكر هذه الكلمة هنا بعد أن بقي الحاكم نفسه- بالاضافة الى كتبه- مجهولا تماما في ميدان الدراسات القرآنية والكلامية، على الرغم من جهوده في حفظ خلاصة قيمة لتفاسير المعتزلة في تفسيره- كما سنرى- وعنايته بطبقات المعتزلة واكمالها الى عصره:«1»
يعود السبب في حفظ هذه الكتب كما ألمحنا في التمهيد عند الكلام على دولتي الزيدية في اليمن والديلم، الى الصلات التي كانت بين هاتين الدولتين، وإلى تبادل العلماء وهجرتهم بينهما لدواع كثيرة وقد ذكرنا سابقا أن اليمن بعد أن قتل فيها الامام أبو الفتح الديلمي سنة 444، استولى الصليحي على صنعاء، وخرج الأمر من أيدي الزيدية للصليحيين والهمدانيين حتى سنة 532 حين قام ودعا لنفسه الامام أحمد بن سليمان واسترد صنعاء، وكان لهذه المدة الطويلة التي غاب فيها الزيدية وفكرهم، أثرها الكبير في سعة انتشار المذاهب الباطنية والمنحرفة التي أدخلها الصليحي، فلما عاد الزيدية إلى صنعاء بعد خروج الإمام أحمد بن سليمان ودعوته لنفسه بالإمامة كان لا بد لهم من العمل على إعادة سلطان المذهب
(1) وحين وقع الباحثون على اسمه في طبقات ابن المرتضى، جعلوه الحاكم النيسابوري رحمهما الله. راجع طبقات المعتزلة تحقيق سوزانا فلزر. ومجلة تراث الانسانية- مقال الأستاذ سعد زائد- المجلد الأول ص 982.
الزيدي ودعمه بالكتب والمصنفات والعلماء الأعلام، ومن هنا تبدأ القصة فيما يبدو:
1) ذكر إبراهيم بن القاسم في طبقاته أن الشريف الزيدي علي بن عيسى السليماني استدعى من خراسان الشيخ زيد بن الحسن بن علي البيهقي الروقني- بلد الحاكم- «لما ظهر مذهب البطريق باليمن» «1» قال:
«فخرج أنفة للشرع وحمية له وغضبا لله جل وعلا» «1» فوصل بعض بلاد اليمن في جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وقدّم الشريف السليماني للإمام أحمد بن سليمان كتابا يخبره فيه بقدوم الشيخ وبالثناء عليه وأن مقدمه من خراسان، فسر به الإمام وتلقاه بالبشر والاتحاف، قال ابن القاسم:«وكان معه كتب غريبة وعلوم عجيبة» ، وذكر أنه لقى في طريقه بعض الشدائد وأن «أكثر كتبه قد نهب ما بين مكة والمدينة» «2» .
2) كما ذكر في ترجمته أيضا أنه لما قدم الري سنة أربعين وخمسمائة «أخذ عنه القاضي أحمد بن أبي الحسن الكنّي» الأردستاني، الذي وصفه بعض الأئمة- فيما ينقله ابن القاسم في محل آخر في الطبقات- بأنه كان «من أساطين الملة، وسلاطين الأدلة، وأنه الغاية في حفظ المذهب، وأن بعض شيوخ اليمن قد لقيه بمكة» «3» .
(1) طبقات الزيدية، صفحة 164.
(2)
المصدر السابق، نفس الصفحة.
(3)
طبقات ابن القاسم، صفحة 18 - 19.
3) ونقل ابن القاسم أيضا في ترجمة زيد بن الحسن البيهقي عن السيد صارم الدين، قال:«هو شرف الأمة، حافظ الآثار، ناقل علوم الأئمة الأطهار، وهو الذي يذكر في أسناد مجموع الإمام زيد بن علي عليه السلام» ونقل عنه أنه كان يجلس للإملاء في المشهد المقدس بصعده- قبر الإمام الهادي- وأنه كان يملي في كل خميس وجمعة مدة سنتين ونصف، قال:
وهو الذي يذكر في التعاليق في صفة صلاة التسابيح، وليس بالبيهقي الشافعي كما توهم بعض الناس «1» .
4) كان من الذين تلقوا عن زيد بن الحسن في اليمن بعد وصوله إليها القاضي شمس الدين جعفر بن أحمد بن عبد السلام المتوفى سنة 573، وكان القاضي جعفر يرى رأي التطريف- كان من شيوخ المطرفيّة- حتى قرأ على الشيخ زيد بن الحسن فرجع إلى «مذهب الزيدية العترية» ولما أراد زيد الرجوع إلى خراسان رحل معه القاضي جعفر «لتمام سماع» فمات زيد بن الحسن بتهامة راجعا من اليمن، فرحل القاضي إلى العراق إلى حضرة العلامة أحمد بن أبي الحسن الكني- الذي تقدمت الاشارة إليه- «فقرأ عليه كتب الأئمة ومنصوصاتهم، من جملة ذلك «الزيادات» للمؤيد بالله، ومجموع زيد بن علي، ونظام الفوائد للقاضي عبد الجبار، وأمالي السيد أبي طالب
…
» وكتبا أخرى كثيرة «2» ، ثم سمع على الشيخ العدل المحسن بن علي الأسدي كتبا أخرى كثيرة ذكرها ابن القاسم «3»
(1) طبقات ابن القاسم، صفحة 163.
(2)
نفس المصدر، صفحة 92، وانظر شرح الأزهار ص 9 - 10.
(3)
طبقات ابن القاسم، صفحة 93.
قال: «وسمع جلاء الأبصار للحاكم المحسن بن كرامة، وغيره من كتبه على السيد علي بن الحسن بن وهاس، وأجازه إجازة عامة، من جملة ذلك الكشاف لجار الله الزمخشري، وسمع كتاب التهذيب للحاكم بن كرامة أيضا على أبي جعفر الديلمي عن ولد الحاكم عن أبيه، وأجازه في بقية كتب الحاكم المذكور، كالسفينة، والتهذيب،
وتنبيه الغافلين، ومصنفات عدة منها موضوع بالفارسية» «1» ثم سمع على بعض العلماء الآخرين في العراق ومكه وغيرهما، رجع بعدها إلى اليمن، ووصلها- كما يقول الامام المنصور بالله عبد الله بن حمزة (ت 614) - «بالعلوم التي لم يصل بها سواه من الأصول والفروع، والمعقول والمسموع، وعلوم القرآن العظيم، والأخبار الجمة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن فضلاء الأئمة من العترة الطاهرة وسائر العلماء» قال ابن القاسم: «ارتحل إلى العراق وهو أعلم من باليمن، ثم انقلب عنه وليس فيه أعلم منه» فأكمل بذلك المهمة التي بدأها شيخه زيد بن الحسن، حتى عده الزيدية أشهر رجالات اليمن بعد الإمام الهادي يحيى بن الحسين، فقالوا: على أهل اليمن نعمتان في الإسلام والإرشاد إلى مذهب الأئمة: الأولى للهادي عليه السلام، والثانية للقاضي جعفر «فإن الهادي استنقذهم من الباطنية والجبر والتشبيه، والقاضي له العناية العظمى في إبطال مذهب البطريق، ونصرة البيت النبوي الشريف» ، وقد وصف بأنه «كان من أعضاد الإمام أحمد بن سليمان وأنصاره» «2» .
(1) المصدر السابق، نفس الصفحة.
(2)
راجع طبقات القاسم، ص 93 - 95.
5) وهكذا يحمل القاضي جعفر من كتب القاضي عبد الجبار والحاكم وأبي طالب وغيرهم ما سمعه وأجيز فيه- على الأقل- مما عساه أن يكون فقد من زيد بن الحسن في رحلته إلى اليمن، أو أن يكون لم يحدّث به أثناء مقامه الطويل في اليمن، وإن كان الفضل في الحالين للعلامة زيد بن الحسن البيهقي الروقني الذي ترك القاضي جعفر على يديه مذهب التطريف، وللشريف علي السليماني، وللظروف السياسية والفكرية التي كانت قائمة في اليمن.
6) ويبدو أن القاضي جعفر رحمه الله قد عكف على الكتب التي حملها معه في هذه الرحلة العجيبة- كما وصفت- يرتب بعضها ويعلق على بعضها الآخر- عدا ما صنفه من الكتب الكثيرة التي كانت عماد الزيدية في وقته كما قال ابن القاسم- فرتب أمالي الإمام أبي طالب على هذا الترتيب المعروف، وسماه تيسير المطالب إلى أمالي أبي طالب «1» ورتب أمالي القاضي عبد الجبار في الحديث- الفوائد- وأسماه: نظم الفوائد وتقريب المراد للرائد «2» كما أتاح للعلماء والنساخ فرصة الإفادة من هذه الكتب. وقد وقفت على نسخة من كتاب (متشابه القرآن) للقاضي عبد الجبار في إحدى مكتبات اليمن الخاصة- وهي إحدى النسختين التي حققت عنهما هذا الكتاب- عورضت على نسخة فرغ من كتابتها سنة
(1) المصدر السابق، وانظر مصورة دار الكتب رقم 35827 ب.
(2)
انظر النسخة المصورة منه بدار الكتب، رقم 28086 ب.
(478)
قال المقابل: «وهي نسخة القاضي شمس الدين رحمة الله عليه» ولعلها مما احتمله معه من كتب العراق، لأنها نسخت قبل رحلته هذه بنحو خمس وسبعين سنة. وذكر صاحب نزهة الأنظار في ترجمة الإمام شرف الدين (ت 965) الذي كان معاصرا له «1» أنه قد صح له رواية كتب كثيرة، عد منها للحاكم: تفسيره كله، وجلاء الأبصار، وتنزيه الأنبياء، وكتاب السفينة، كما عد منها كتبا أخرى للطوسي والإمام المرشد بالله يحيى بن الموفق، والمنصور بالله عبد الله بن حمزة، وغيرهم «2» ، ثم قال: قال الامام شرف الدين: «فهذه الكتب صح لي روايتها من الفقيه عفيف الدين عبد الله بن علي الأكوع من خزانة والده إلا تفسير الحاكم فعينه لي أنه كتاب القاضي شمس الدين جعفر بن أحمد، تسعة أجزاء، في خزانة الامام المتوكل على الله المطهر بن يحيى، وهو- أي الفقيه عفيف الدين- يرويها عن والده بطريق القراءة والمناولة وغيرها» «3» .
ومن الجدير بالذكر أن الامام أحمد بن سليمان، الذي نقلت هذه الكتب والعلوم في عصره، درس الفقه وأصول الاعتقاد على الفقيه زيد بن الحسن البيهقي الوارد إلى اليمن، وله منه إجازة، كما درس على الفقيه عبد الله بن علي العنسي «الواصل من جهة الجبل والديلم بكتب آل محمد
(1) انظر الورقة 20 من نزهة الأنظار، وكتاب أئمة اليمن لابن زبارة 1/ 370.
(2)
نزهة الانظار، ورقة 28.
(3)
المصدر السابق، ورقة 28.
عليهم السلام سنة إحدى وخمسمائة» «1» وكأن هذا الفقيه أقام باليمن أو أطال فيه المكث، لأن الامام ابن سليمان ولد سنة (500) وكانت دعوته سنة 532، ووفاته سنة 566، وهذا يدل على أن «رحلة» هذه الكتب القيمة بدأت في أوائل القرن السادس- بحكم الصلات بين زيدية اليمن وزيدية الديلم- واستوت على سوقها في منتصف هذا القرن، وآتت أكلها على يد القاضي شمس الدين، الذي تذكّر رحلته العلمية القيمة بالبعثات العلمية وبعثات دور الكتب في العالم.
…
(1) طبقات ابن القاسم ص 33 وانظر ائمة اليمن لابن زبارة ص 95.
الباب الثاني مدخل الى تفسير الحاكم