الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني قواعده الأساسيّة في التفسير
تمهيد: بين التفسير والتأويل
نبدأ أولا بكلمة موجزة نوضح فيها الفرق بين التفسير والتأويل، أو الفرق الذي جرينا على اعتماده ونحن نفصل في حديثنا عن منهج الحاكم في تفسير القرآن بين منهجه في التفسير ومنهجه في التأويل، أو بين قواعده التي يعتمدها أساسا لتناوله جميع الآيات بالشرح، وحدوده التي رسمها لنفسه لا يتجاوزها وهو يأبى الأخذ بالظاهر في بعض الآيات، وإن كان «المنهج» في الحالين متفقا غير مختلف كما سنتبين ذلك من خلال هذا الفصل والفصل الذي يليه، ولم يحملنا على الأخذ بهذا التقسيم، أو الفصل بين التفسير والتأويل، إلا الرغبة في زيادة إيضاح هذا المنهج، وإظهار مدى تأثر الحاكم فيه بنزعته الكلامية المعروفة.
1) التفسير في اللغة: الاستبانة والكشف «1» ، وفسّر الشيء يفسره،
(1) قال ابن دريد: ومنه يقال للماء الذي ينظر فيه الطبيب «تفسرة» وكأنه تسمية بالمصدر، لأن مصدر «فعل» جاء أيضا على «تفعلة» نحو جرب تجربة، وإن كان القياس من «فعل»: التفعيل، كما جاء في الآية التالية. انظر البحر المحيط لأبي حيان 1/ 13.
وفسره: أبانه، قال تعالى:(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً)«1» أي بيانا. ولم ترد لفظة «تفسير» في القرآن في غير هذا الموضع. ولم يختلف المفسرون أن المراد من «تفسير القرآن» - على تعدد تعريفاتهم للتفسير اصطلاحا- بيان معانيه على أي وجه من وجوه البيان، قال الحاكم:«والتفسير هو علم بمعاني القرآن، وناسخه ومنسوخه، ومجمله ومبينه، ومتشابهه ومحكمه» ! «2» .
2) والتأويل في اللغة: مصدر: أوّل يؤول تأويلا، وهو من آل الشيء إلى كذا، أي رجع إليه، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى:
«التأويل: التفسير والمرجع والمصير» «3» وقال أبو جعفر الطبري:
«وأما معنى التأويل في كلام العرب فإنه التفسير والمرجع والمصير
…
وقد قيل إن قوله تعالى (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) أي جزاء، وذلك أن الجزاء هو الذي آل إليه أمر القوم وصار إليه» «4» . فالتأويل في اللغة يراد به- إذن- «التفسير» كما يراد به
«الرجوع والمصير» - لأن أحدهما مغاير للآخر- وإن كان اشتقاق الكلمة يرجح أن يراد من التفسير ما يحتاج منه إلى النظر والفكر ليصح معنى الرجوع، ولهذا ورد لفظ التأويل في القرآن الكريم في مواطن دقيقة يحتاج فيها المعنى إلى مثل ذلك، كما في آية المتشابه، وكما في الآيات الواردة في «تأويل الأحاديث» في سورة
(1) الآية 33 من سورة الفرقان.
(2)
شرح عيون المسائل 1/ ورقة 56.
(3)
مجاز القرآن 1/ 87 طبع الخانجي بمصر.
(4)
تفسير الطبري 3/ 184 وانظر الاتقان للسيوطي 2/ 294.
يوسف «1» ، وكقوله تعالى في نفس السورة على لسان الملأ:(وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ)«2» وكقوله حاكيا عن يوسف عليه السلام: (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ)«3» وكقوله في سورة الكهف: (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)«4» - سواء في ذلك استعملت في تأويل الكلام والمعنى كما في آية المتشابه، أم في تأويل الرؤى والأحلام كما في قصة يوسف عليه السلام، أو تأويل الأعمال كما في قصة موسى عليه السلام مع الرجل الصالح.
وعلى هذا المعنى اللغوي جرى استعمال العلماء الأولين للتأويل، فالإمام الشافعي رحمه الله سمّى حمل اللفظ على معنى من المعاني التي يحتملها تأويلا، فالتأويل في هذه الحالة إرجاع اللفظ وتصييره إلى واحد من هذه المعاني المحتملة «5» .
والنظر والفكر هنا في صرف اللفظ إلى أحد المعاني التي يحتملها دون سائر المعاني، لقيام دليل على ذلك.
أما التأويل في الاصطلاح فهو «إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز، من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو حقه أو مقارنه .. أو غير ذلك من
(1) انظر الآيات رقم 6، 21، 101.
(2)
الآية 44.
(3)
الآية 100.
(4)
الآية 78.
(5)
انظر تفسير النصوص في الفقه الإسلامي للدكتور أديب صالح ص 252.
الأشياء الى تعورفت في أصناف الكلام المجازي» «1» . ويقرب من هذا التعريف الذي ذكره ابن رشد ما قاله الغزالي رحمه الله من أن التأويل «عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي يدل عليه الطاهر «2» ».
وهذا التأويل الاصطلاحي هو ما قصدنا اليه حين فصلنا بين التفسير والتأويل في دراسة منهج الحاكم، وهو صرف اللفظ عن معناه الظاهر- أو الحقيقي- إلى معنى مجازي، لأن الغزالي يقول بعد أن أورد تعريفه السابق:
«ويشبه أن يكون كل تأويل صرفا للفظ عن الحقيقة إلى المجاز» «3» .
3) وكأن الحاجة إلى التأويل تظهر بعد «تفسير» الألفاظ الواردة في النص لمعرفة ما يدل عليه ظاهره، فيحمل دليل ما، كدليل العقل أو الإجماع أو غير ذلك- وهنا يبدو أثر اختلاف المناهج- على التأويل، وبذلك يكون التأويل خطوة تالية لخطوة التفسير كما عبّر بعضهم «4» ، وقد جعل الراغب الأصفهاني التفسير أعم من التأويل لأن أكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ، والتأويل في المعاني «5» . وقد أوضح أبو طالب الثعلبي هذا الفرق بين التفسير والتأويل، فقال: «التفسير: بيان وضع اللفظ إما حقيقة
(1) فصل المقال لابن رشد صفحة 14.
(2)
المستصفى 1/ 157.
(3)
المستصفى 1/ 157.
(4)
انظر نشأة التفسير للدكتور السيد أحمد خليل ص 30.
(5)
مقدمة التفسير ص 403 المطبعة الجمالية.
أو مجازا، كتفسير الصراط بالطريق، والصيب بالمطر. والتأويل: تفسير باطن اللفظ، مأخوذ من الأول، وهو الرجوع لعاقبة الأمر، فالتأويل إخبار عن حقيقة المراد، والتفسير إخبار عن دليل المراد، لأن اللفظ يكشف عن المراد، والكاشف دليل. ومثاله قوله تعالى:(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) تفسيره: أنه من الرصد، يقال: رصدته: رقبته، والمرصاد مفعال منه، وتأويله: التحذير من التهاون بأمر الله والغفلة عن الأهبة، والاستعداد للعرض عليه. ثم قال: «وقواطع الأدلة تقتضي بيان المراد منه على خلاف وضع
اللفظ في اللغة» «1» .
…
(1) الاتقان للسيوطي 2/ 294، وانظر فيه فروقا أخرى كثيرة بين التفسير والتأويل معظمها لا يستند إلى أساس.