الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على أن الموت لا يقدر عليه غيره تعالى لانه قال: «بإذنه» ، عن أبي علي. وتدل على أن أجل الإنسان إنما هو أجل واحد خلاف قول البغدادية.
رابعا: حول عالم الغيب
قال الحاكم في تعريف الغيب في الصفحات الأولى من تفسيره:
«والغيب نقيض الشهادة، وهو مصدر وضع موضع الاسم، يقال للغائب: غيب، ومنه (عالم الغيب). والغيب: ما غاب عن الحاسة، أي خفي. ويقال: غاب عني، إذا خفي عن الأبصار» ونقل عن أبي علي أن الغيب على ضربين: منه ما لا دليل عليه فلا يعلمه إلا الله، ومنه ما عليه دليل فنعلمه، إلا أن «عالم الغيب» لا يطلق إلا على الله تعالى لأنه يوهم العلم بالجميع. وعن أبي هاشم أن الغيب ما لا طريق إلى معرفته ضرورة واستدلالا. قال الحاكم:«وربما مر في كلامه ما قدمناه!» «1» وأيا ما كان رأي الحاكم بين هذين الرأيين اللذين لا يبدو أن الفرق بينهما كبير، فإن الذي نودّ الوقوف عنده من عالم الغيب إنما هو رأي الحاكم في الموضوعات الهامة التالية:
1) إبليس: ونبتدئ بإبليس- عليه لعنة الله- لنقف على رأي الحاكم في مسألة وسوسته، ومسألة إنظاره إلى يوم الدين، وهما أبرز «مشاكله» في تفسير الحاكم، وقد
عرّضت لهما جميعا الآيات التالية من من سورة ص: قال تعالى، في قصة إبليس حين أمر بالسجود لآدم:
(قال فاخرج منها فإنك رجيم. وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين. قال
(1) التهذيب ج 1 ورقة 13/ و.
رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ. قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ .. ) «1» قال الحاكم في تفسير يوم الوقت المعلوم إنه يوم القيامة كما قال بذلك جماعة منهم أبو مسلم وأبو علي، قال: ولذلك قال تعالى:
(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ)«2» فهو خطاب لبني آدم إلى يوم القيامة.- وقيل أنظره إلى يوم الوقت الذي علمه الله تعالى أنه يبقيه إليه وليس هو يوم القيامة! -
قال الحاكم: «ومتى قيل: هل أجيب دعاؤه؟ قلنا لا، وكان منظرا؛ عن أبي علي. وقيل بل استصلاحا- أي أجيب استصلاحا له- عن أبي بكر أحمد بن علي» ولم يفصّل الحاكم الوجه في اختلاف هذين الجوابين، وإن كانت النتيجة واحدة، لأن محله كتب علم الكلام، وإنما اكتفى بالإشارة إلى أصل الخلاف بينهما، فقال:«وهو مبني على إجابة الكفار والفساق» .
ثم تساءل عن فائدة بقاء إبليس مع أنه يغوي الخلق؟ وأجاب على ذلك بالوجوه الآتية:
قال: «أما إغواؤه عند أبي علي فإنهم يضلون وإن لم يكن هو.
وعند أبي هاشم يجوز أن يضل بوسوسته، فيكون زيادة تكليف.
«فأما فائدة إنظاره فالله أعلم بتفصيل المصالح، ولا بد فيه مصلحة.
(1) الآيات 77 - 83 سورة ص- وانظر الآيات التالية- التهذيب.
ورقة 8/ ظ.
(2)
الآية 27 سورة الأعراف.
وقيل: أراد بإنظاره أن يبقى الجهاد في الدين، ولما فيه من البعث على التفكير في العلوم وحل الشبه.
«فأما من يقول: أنظره جزاء على أعماله فلا يصح، لأن تلك الطاعات أبطلها بالكفر
…
«فأما ما تقول المجبرة إنه أنظره ليغوي فلا يصح لأنه قبيح. وبعد، فإن من مذاهبهم أن الغواية خلق الله فسواء كان إبليس أو لم يكن! كذلك الإيمان خلقه، فسواء كان نبيّ أو لم يكن!؟
أما كيفية إغوائه ووسوسته في الصدور (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) قال الحاكم: يكون ذلك بكلام خفي يصل إلى قلبه. قال:
«فأما من يقول يدخل القلب، أو له خرطوم يدخل القلب فبعيد!» . «1»
2) الجن والملائكة: قال الحاكم في مطلع تفسيره لسورة الجن:
«والجن جنس من المخلوقين. والمكلفون ثلاثة: الملك والإنس والجن «2» .
(1) من تفسيره لسورة الناس، ورقة 161/ و.
(2)
وما ورد في القرآن من تسبيح ما لا يعقل فقد حمله الحاكم على وجهين:
أحدهما: بما فيه من الدلالة على تنزيهه. والثاني: دلالة الانقياد له فيصرفه كيف شاء (مطلع سورة الحديد ورقة 84/ ظ. والآية 6 من سورة الرحمن ورقة 78/ ظ). وقال في تسخير الجبال والطير تسبح مع داود: إن معناه أنها-
فالملك خلق من النور، والإنس من التراب، والجن من النار».
أ) أما الملائكة فقد قال في صفتهم في موضع آخر من تفسيره بأنهم حيوانات معروفة متميزة على سائر الخلق بالصورة، وبأنهم لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، وبأن لهم أجنحة. قال:«ولا نراهم للطافة التي فيهم إلا أن يقوّي الله تعالى شعاعنا فنراهم كما يراهم المعاين، أو يحصل فيهم كثافة، كما في زمن الأنبياء» «1» .
وأكد في عدة مواضع أنهم مكلّفون مختارون، على ما ذهب إليه أصحابه، قال تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ
…
) «2» قال الحاكم:
الذين يحملون العرش ومن حوله، يعني من الملائكة، قيل: هم صنفان:
صنف هم حملة العرش، وصنف يطوفون به. وقد كشّف الله أجسامهم حتى حملوا العرش. وقيل: بل أعطاهم من القوة ما يحملونه وهم على هيئة
- كانت تسير معه إذا أراد، فلما كان سيرها دالا على توحيد الله ومعجزة لنبيه أضاف التسبيح إليها. واستدل بقوله تعالى (لأعذبنه) - في قصة الهدهد مع سليمان عليه السلام على جواز تأديب غير المكلف، كما يؤمر الصبي بالصلاة ويضرب عليها، قال:«لأنهم أجمعوا على أن ذلك الطير لم يكن مكلفا، ولولا الإجماع لجوزنا كونه كذلك، ولكن صار كالمراهق يعلم ما يفعل به وما لأجله يفعل» ورقة 26/ ظ.
(1)
التهذيب، الجزء الأول ورقة 51/ و.
(2)
الآية 7 سورة المؤمن، ورقة 18/ و.
الملائكة. قال: «وتدل الآية أن الملائكة مكلفون وأن تكليف هؤلاء- في هذه الآيات- يتعلق بالعرش، فمنهم من يحله ومنهم من يطوف به كما نطوف بالبيت» «1»
وقد تابع أصحابه في الحكم للملائكة بالعصمة بقوله تعالى: (لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ)، وبأنهم أفضل من جميع الأنبياء لقوله تعالى:(وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) وقوله: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) وآيات أخرى. «2» .
ب) وأما الجن فخلاصة مذهبه فيهم، كما أوضحه في تفسير الآيات الأولى من السورة التي تسمى باسمهم، أنهم مكلفون- كما تقدم- وأن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إليهم، وأن فيهم مؤمنا وكافرا، ومن يعرف لغة العرب.
وقد استدل بقوله تعالى (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ)«3» على أن في الجن رجالا كما في الإنس، وأنهم يتناسلون على خلاف ما ذهب إليه البلخي.
واستدل به أيضا على أن في الإنس من كان يميل إلى الجن ويلوذ بهم. قال: «وذلك باطل، ومن هنا وقع بين العامة الاعتصام بالجن في باب الحب والبغض، وطلب الأشياء وعلم الغيب وتغيير الصور» ثم قال:
(1) الورقة السابقة/ ظ.
(2)
انظر التهذيب 1/ ورقة 51. وانظر لنقض مذهب المعتزلة في مسألة التفضيل والاستشهاد على مذهبهم بهذه الآية: فتح الباري لابن حجر 13/ 330 وانظر تعليقنا على «متشابه القرآن» للقاضي عبد الجبار. ص 214
(3)
الآية 6 سورة الجن، التهذيب ورقة 118/ و.
«ومن جوز أن يقدر غير الله تعالى على الأجسام والصور والحياة والموت يكفر!» .
وقد بين في موضع آخر سبب هذا الحكم في تعقيبه على آيات تسخير الجن لسليمان في سورة سبأ «1» ، فقال:«ومتى قيل: من يزعم أن الجن تعلم الغيب أو تقدر على تلك الأعمال العظيمة أو تغير الصور هل يكفر؟ قلنا: نعم؛ لأنه يسد على نفسه طريق معرفة النبوات» .
وفيما وراء ذلك: فالجن عنده أمة مكلفة لا تكاد تختلف عن الإنس، حتى إنه جعلهم قائلين بالعدل والتوحيد، ويرون الثواب والعقاب جزاء الأعمال لأنهم نفوا عن الله تعالى الظلم وقالوا:(فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً)«2» على خلاف ما تقوله المجبرة من هذه الأمة!!، ولكنه لم يبحث السبب في عدم ظهورهم وأنهم لا يرون، كما أنه اكتفى من الحديث عن «طبيعتهم» بالقول إنهم خلقوا من نار، وإن كان لاحظ أنهم «ركّبوا تركيبا تضرهم النار، ولذلك خافوا الشهب»
ومسألة استراقهم السمع الذي أشارت اليه الآية الكريمة: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً)«3» أهم نقطة في هذا الباب يبدو فيها أثر منهج الحاكم الكلامي وأسلوبه الجدلي في التفسير: قال في تفسير قوله تعالى:
(1) الآية 12 فما بعدها، ورقة 123/ و.
(2)
الآية 13 سورة الجن، ورقة 117.
(3)
الآية 9 سورة الجن.
(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً)«1» قيل: التمسنا قربها لاستراق السمع، فوجدناها ملئت حفظة شدادا من الملائكة، وشهبا من النجوم. (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ
…
) أي لاستراق السمع، يعني: كان يتهيأ لنا قبل هذا: القعود في مواضع الاستماع إلى الملائكة، فنعرف ما نسمع من الغيب، فمن يستمع الآن يجد له
نارا تحفظ أمر السماء.
وقيل: إن هذه الشهب كثرت في هذه الأيام وانتقضت العادة بها فكانت معجزة، ومنعت الجن عن الاستماع من الملائكة ليسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان مبعوثا إليهم!
قال الحاكم: «ومتى قيل: كيف توصّلوا إلى استراق السمع؟
قلنا: يحتمل أنهم صاروا بآلات أعطاهم الله تعالى إلى مواضع تكون الملائكة فيها فيتكلمون ويستمعون ويلقون إلى غيرهم.
«ومتى قيل: فأيّ مفسدة في استراق السمع حتى منعوا منه؟
قلنا: وجوه، منها: إيهامهم ضعفة الجن أنهم يعلمون الغيب؛ لأنهم إذا وجدوا الأمر كما قالوا انقادوا لهم. ومنها: أنهم يجعلونه طعنا في النبوات والمعجزات. ومنها: أنهم يلقون ذلك إلى الإنس بالوسوسة فيصير شبهة.
ومنها: أن نزول الملائكة وصعودهم يكثر أيام البعثة، وإذا التقى البعض وذكروا من الأمور الغائبة ويستمع الشياطين فيسبقون إلى العلم به النبيّ صلى الله عليه وسلم فيفسدون على الضعفة أمر النبوات. ومنها: أنه كان مبعوثا إليهم فلا يجوز أن يستمعوا الرسالة إلا منه. ومنها: أنه معجزة له ولطف لهم حثهم على التدبر والفحص.
(1) الآية 8 سورة الجن.
«ومتى قيل: إذا كان الشهاب قبل المبعث كما في حال المبعث، فكيف صارت- الشهب- معجزة؟ قلنا: كثرت في أيامه حتى دخلت في حد الإعجاز. وهذا كما نقول: المطر ليس بمعجز لجريان العادة به، فإذا كثر وزاد على المعتاد دخل في حد الإعجاز، كالطوفان، كما روي في أيام النبي صلى الله عليه وسلم.
«ومتى قيل: كانت معجزة له صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: نعم، كثرة الشهب ومنع الجن.
«ومتى قيل: فإذا علموا المنع والهلاك عند الاستراق فكيف عادوا؟
قلنا: لم يقع ذلك في كل مرة، وإنما في بعض الأحايين إذا صادف حديث الملك، وإذا كان مرة هلاكا ومرة سلامة جاز أن يتقحموا كراكب السفينة.
«ومتى قيل: كانوا يصعدون السماء أم يقفون في الهواء؟ قلنا: كلا الوجهين جائز، وقد منعوا من الجميع» .
3 -
عذاب القبر: تابع الحاكم شيخه أبا علي في القول بعذاب القبر، على خلاف بعض من المعتزلة لا يذكر. وقد بسط الحاكم مذهبه في هذا الموضوع عند تفسيره لقوله تعالى:(رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ .. )«1» كما أشار إليه وأيّده في تفسيره لقوله تعالى- في نفس السورة- العذاب، النّار يعرضون عليها غدوّا وعشيّا، ويوم تقوم الساعة أدخلوا
(1) الآية 11 سورة غافر.
(وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ)«1» وتفسيره لقوله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)«2» ، وفي مواضع أخرى من تفسيره لا يمكن اعتبار أحدها قاطعا فيما استدل به الحاكم، لاحتمالها جميعا لوجوه أخرى من التفسير نقلها هو نفسه، ولا مجال هنا للإشارة إليها، على أنه لم يبلغ مبلغ أبي علي في اسرافه في الاستدلال على عذاب القبر بآيات كثيرة يبدو انها لا تدل على ما حملها عليه، نحو قوله تعالى:(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ)«3» فقد فسر الذي قرب منهم وأنه سيأتيهم بأنه شدة الموت وعذاب القبر، وليس هو الأسر والقتل الذي نالهم يوم بدر. وقوله تعالى- في سورة يس- (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) «4» قال أبو علي: وتدل الآية على صحة ما نقوله في عذاب القبر وسؤاله!!. وقال في قوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ)«5» أي: «ما لبثوا بعد انقطاع عذاب القبر» - وقال الكلبي: ما لبثوا في القبور أو في الدنيا- قال أبو علي:
«واستدل بعضهم بالآية على نفي عذاب القبر، وليس بشيء، لأنهم أرادوا لبثهم بعد انقطاع العذاب» !.
(1) الآيتان 45 - 46 سورة غافر، ورقة 22.
(2)
الآية 28 سورة البقرة، ورقة 46/ و.
(3)
الآيتان 71 - 72 سورة النمل، ورقة 35/ و.
(4)
الآيتان 26 - 27 ورقة 149/ ظ.
(5)
الآية 55 سورة الروم، ورقة 81/ و.
وتبقى طريقة الحاكم- الذي لم يعقّب بشيء على هذه الاستدلالات- في الدلالة على هذا المذهب أقرب على كل حال، مع قيام الاحتمال الذي قدمناه، قال في الآية المتقدمة (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ .. ) إن المراد بالإماتة الأولى: التي تكون في الدنيا بعد الحياة، والثانية التي تكون في القبر قبل البعث. والمراد بالحياة الأولى في القبر، والثانية في الحشر.
وذكر وجوها أخرى لم يقبل منها رأي من قال إن المراد بالموتة الأولى حيث كانوا نطفا فأحياهم في الدنيا، ثم أماتهم الموتة الثانية، ثم أحياهم للبعث،- فهما حياتان وموتتان- وذلك لأن إطلاق اسم الموت على النطقة مجاز! ثم قال في الأحكام: «يدل قوله (ربنا أمتنا) على صحة ما نقوله في عذاب القبر. ومتى قيل: فالإحياء يجب أن يكون ثلاثا! قلنا: إثبات حياتين لا يمنع اثبات ثالث!
«ومتى قيل: فمتى يكون عذاب القبر؟ قلنا: اختلفوا فيه، فمنهم من قال أول ما يدفن. وقيل: ما بين النفختين، فأما مشايخنا فيقولون: نقطع بكونه، وأما وقته فلا نقطع فيجوز أن يتقدم ويتأخر.
«ومتى قيل: هلّا قلتم إن الميت يعذب أو الروح؟ قلنا أما الميت فيستحيل أن يألم، وأما الروح فهو النفس، وليس هو المكلف «1» . ومتى قيل: فما الفائدة فيه؟ قلنا: الله أعلم بوجه المصلحة، ويجوز أن يكون لطفا للملائكة، والخبر عنه لطف لنا، فأما الميت فيستحيل أن يكون لطفا له لانقطاع التكليف!
(1) واستدل بقوله تعالى (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً) على أن البعث يكون «لهذه البنية لأنها في الأجداث بأن يحييها الله تعالى فتخرج، فيبطل قول من يقول إن البعثة على الأرواح» ورقة 75/ ظ.
«ومتى قيل: فهل يعاد عاقلا؟ قلنا: لا بد أن يحييه تعالى ويجعله عاقلا ليعلم أنه يعذب جزاء.
«ومتى قيل: فمن يعذّب؟ قلنا: المستحق للعذاب، فأما المؤمن فيثاب ولا يعذب.
«ومتى قيل: فما تقولون في السؤال، وفي قصة منكر ونكير؟ قلنا:
أما السؤال فنقطع به، فأما منكر ونكير فيجوز ذلك لورود الخبر به، وإن لم يظهر كظهور عذاب القبر» «1»
4 -
الجنّة: يؤكد الحاكم دوما أن أبواب الجنة مفتحة للمؤمنين فقط، وأن استحقاق نعيمها وثوابها إنما يكون بالتقوى، على خلاف ما يذهب إليه المرجئة في ذلك. وقد تقدم أن هذا من مذهبه في الوعد والوعيد.
ولكنه في حديثه عن الجنة ذاتها وصفة نعيمها- وهو ما نبحثه هنا- يؤكد الأمور الثلاثة الآتية، وهي: دوامها، وأنها لمّا تخلق، وأن فيها المأكول والمشروب ونعيم الأجساد، على خلاف رأي «جهم» في الأمر الأول، ورأي الباطنية في الأمر الأخير.
قال تعالى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها)«2» وقال: (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ)«3» أي إقامة لا تفنى. وقد وصف الله تعالى الجنة بالخلود وأن الاقامة فيها لا تفنى في مواضع كثيرة
(1) التهذيب، ورقة 19/ و.
(2)
الآية 76 سورة طه.
(3)
الآية 12 سورة الصف، ورقة 18/ و.
أخرى، قال الحاكم: فدل على دوام الجنة خلاف قول جهم «1» .
وقال في قوله تعالى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ، فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ)«2» انها تدل على أن في الجنة مأكولا ومشروبا «وذلك يعلم ضرورة من دين الرسول خلاف قول الباطنية، لذلك نكفّرهم بإنكار ذلك» .
وقال في قوله تعالى: (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ)«3» وقوله: (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَماءٍ مَسْكُوبٍ وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ
…
) «4» إن الآيات تدل على دوام الجنة فيبطل قول جهم. «وتدل على أنها لم تخلق بعد، وإنما يخلقها الله تعالى يوم القيامة، إذ لو كانت مخلوقة وقد ثبت أن الموجودات كلها تفنى لانقطعت، وذلك بخلاف قوله تعالى (أُكُلُها دائِمٌ)» .
وهذا هو رأيه في مسألة خلق الجنة بالرغم من أنه قال: إن الأكثر على أنها مخلوقة الآن. وإن الحسن البصري قال إنها مخلوقة بعينها، «ثم يعيدها الله تعالى يوم القيامة ويزيد فيها عرضا وطولا» «5» . ورأيه السابق
(1) راجع التهذيب، المجلد الأخير ورقة 69/ ظ. وانظر المجلد الأول- سورة البقرة- ورقة 41/ ظ.
(2)
الآيتان 17 - 18 سورة الطور وانظر الآيات التالية، التهذيب، ورقة 69.
(3)
الآية 25 سورة البقرة، ورقة 41.
(4)
الآيتان 17 - 18 سورة الطور- وانظر الآيات التالية- ورقة 69.
(5)
انظر التهذيب- في تفسير سورة الحديد- ورقة 86/ ظ.