الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولا: الأصل الجامع لقواعده في التفسير
أما القواعد الأساسية للتفسير عند الحاكم فيمكن إرجاعها الى أصل واحد جامع، دافع عنه الحاكم، وأشار إليه في مواضع ومناسبات كثيرة في تفسيره، وهو أن القرآن مأخذ تفسيره من اللغة، أو أن اللغة طريق معرفة القرآن، ولم يجعل الحاكم لطالب فهم الكتاب من شرط سوى «أن يعلم الله تعالى، وأنه صادق لا يجوز عليه الكذب والقبيح» - وهذا من قاعدته الفكرية العامة كما أشرنا إلى ذلك- «وأن يقف على اللغة» ، فكأن اللغة هنا هي الشرط الأساسي أو الكافي لفهم خطاب الله تعالى، قال الله تعالى:(حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)«1» قال الحاكم: «تدل الآيات على أن العالم باللغة محجوج به، ويدل قوله (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أن التفسير لمن عرف اللغة جائز، ولا يحتاج إلى سماع معناه من غيره، بخلاف قول من يقول لا بد فيه من سماع. ويدل على أنه يستقل بنفسه في باب الدلالة. ويدل على وجوب التفكر فيه وذم المعرض عنه» .
وقال في قوله تعالى في سورة الجن (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ)«2» إن القرآن مستقل بنفسه في الدلالة.
(1) الآيات 1 - 3 سورة فصلت: التهذيب ورقة 24/ ظ.
(2)
التهذيب ورقة 116/ ظ.
وقال في قوله تعالى: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ)«1» انه يدل على أن القرآن يمكن معرفة المراد به بظاهره أو بقرينة ليصح أن يقع به الإنذار.
وقال نحوا من ذلك في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ)«2» ، وقوله:(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً)«3» فالبرهان ما دل على غيره به، والنور ما يبصر به سواه، ولا يكون القرآن كذلك الا وهو دال بنفسه، معروف بلفظه، وقد علم أن القرآن انما نزل بلغة العرب، فلا بد أن يعرف تفسيره من عرف هذه اللغة، والا لما صح وصفه بأنه نور وبرهان!.
ثم إن دلالة الكلام إنما تعتبر بأمرين: المواضعة، وحال المتكلم، فبالمواضعة يصير للكلام معنى وإلا كان في حكم الحركات وسائر الأفعال، وفي حكم الكلام المهمل. ولا بد كذلك من اعتبار حال المتكلم لأنه لو تكلم به وهو لا يعرف المواضعة، أو عرفها ونطق بها على سبيل ما يؤديه الحافظ، أو يحكيه الحاكي، أو يتلقنه المتلقن، أو تكلم به من غير مقصد، لم يدل. فإذا تكلم به وقصد وجه المواضعة فلا بد من كونه دالا «إذا علم من حاله أنه يبين مقاصده، ولا يريد القبيح ولا يفعله» «4»
(1) الآية 7 سورة الشورى: التهذيب ورقة 30/ و.
(2)
الآية 51 سورة العنكبوت.
(3)
الآية 174 سورة النساء.
(4)
المغني للقاضي عبد الجبار 16/ 347.
وهذه هي حال القرآن في دلالته على المراد، لنزوله بلغة العرب وما تواضعوا عليه من الكلام، ولصدوره من حكيم عليم بهذه المواضعة.
ولا يقال: إن الكلام قد يقع منه تعالى ويعلم بدليل العقل أن مراده غير ظاهره، لأن دليل العقل كالقرينة، كما لو قارنه كلام متصل يدل على الوجه الذي يقتضيه مجموعه.
فإن قيل: إذا جاز في أحدنا أن يبتدئ بالمواضعة على مثل كلام قد تقدم، فهلا جاز مثله في القديم تعالى؟ فالجواب أن ذلك قد وقع في الأسماء الشرعية لما دلّ عليها، فأما مع فقد الدلالة وكونه مخاطبا باللغة المخصوصة فلا بد من أن يريد ما وضع له، وإلا حل المخاطب للعربي بالزنجية ومعرفة المراد به متعذر عليه.
1 -
ليس في القرآن ما هو غير عربي: ولا يصح أن يقال إن في القرآن ما ليس بعربي لأن الله تعالى يقول فيه (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)«1» ويقول: (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا)«2» إلى آيات أخرى كثيرة تؤكد عربية القرآن، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يتلو عليهم هذه الآيات فلو كان فيه لغة غريبة لردوا عليه. قال الحاكم:«وما يروون في قوله (القسطاس) أنه رومي، و (سجّيل) عجمي، فالمراد أنه وافق لغة العرب لغة الروم، أو كان في الاصل روميا فأدخلته العرب في لغتها فصارت لغة لهم، يبين ذلك أن «سجيل» ليس في لغة العجم وإنما في لغتهم «سنك وكل» وهذا
(1) الآية 195 سورة الشعراء.
(2)
الآية 3 سورة الزخرف.
غير سجيل، فكأن تلك لغة معربة، ولا فرق بين الموضوعين في أنها لغة عربية» «1»
وقد وصف الحاكم الذين يزعمون أن في القرآن ما ليس بعربي بأنهم من أهل الحشو «2» وغالبا ما يرد رأيهم عند شرحه اللغوي للكلمات التي زعموا أنها ليست بعربية، فقد قال في شرح «الإستبرق» بأنه:
الديباج، قيل له الإستبرق لشدة بريقه. قال: «وقيل اسم معرب.
ولا يقال إنه فارسي لأنه ليس في القرآن غير العربي» «3» وعلّق على كلمة «غساق» بقوله: «ومن زعم أن «غساق» ليس بعربي فقد أخطا، لان القرآن نزل بلغة العرب، ولهذه اللفظة تصرّف واشتقاق، ووردت به الأشعار» «4»
2 -
مكانة اللغة في تفسير الحاكم: وقد جرت عادة الحاكم- كما سنفصل القول في ذلك عند الكلام على طريقته في تفسيره- على إفراد الكلام على «اللغة» في الآية أو الآيات موضع الشرح، في فقرة خاصة يظهر فيها أثر اطلاعه الواسع على اللغة العربية وقواعدها وآدابها، مما ساعده على إحكام وجوه القول في شرح الآية عند الكلام فيها على
(1) شرح العيون ورقة 265، وانظر التهذيب المجلد الأول ورقة 2 والمجلد السادس ورقة 161.
(2)
التهذيب ورقة 30/ و.
(3)
انظر تفسير الآية 53 من سورة الدخان: ورقة 45/ و.
(4)
التهذيب ورقة 7/ وفي تفسير قوله تعالى: (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) وانظر التفسير أيضا ورقة 30/ و.
«المعنى» ، وحتى عند ما كان يدع الأخذ بالظاهر في بعض الأحيان، ويلجأ إلى التأويل- على أسسه الخاصة- فإن اعتماده على اللغة لا يتخلف كذلك، بل ربما بدا هنا أكثر دقة ووضوحا لكثرة ما يضطر إلى إيراده من اللغة والشعر وأصول الاشتقاق في الكلمات في سبيل تأييد رأيه ومذهبه، ونلمح إلى ذلك هنا ببعض الأمثلة والشواهد لنؤكد أن قاعدته في أن مأخذ تفسير القرآن من اللغة- كقاعدة عامة- لم يدعه على أي اعتبار، وندع الحديث عن طريقة الحاكم في إيراد اللغويات في تفسيره، وعن أسسه في التأويل إلى محله من هذا البحث.
قال في «اللغة» في شرح قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ)«1» إن الملاقاة: مصادفة الشيء للشيء، قال «وكل شيء صادف شيئا أو استقبله فقد لقيه، تقول: لقيت فلانا لقيا ولقيانا. والملقاة: المرة الواحدة، واللقية مثله. وليس اللقاء من الرؤية في شيء، وإنما يستعمل فيه مجازا، تقول: لقيت جهدا، ولاقيت شدة.
وهاهنا الخطاب للمؤمنين والكفار، والكافر لا يرى ربه بالاتفاق!» ثم قال في «المعنى» في شرح «إنك كادح إلى ربك» قيل: عامل لله من خير أو شر، و «إلى» بمعنى اللام. وقيل معناه: إنك تعمل عملا في مشقة لتحمله إلى الله وتوصله اليه للجزاء. وقيل صائر بكسبك إلى ربك. وشرح الملاقاة هنا بأنك صائر إلى حكمه حيث لا حكم الا لله.
أو بمعنى ملاقاة جزائه، فذكر السعي وأراد الجزاء.
(1) الآية 6 سورة الانشقاق: ورقة 139/ و.
وقال في قوله تعالى: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ)«1» إن الفراغ في اللغة على وجهين: أحدهما الفراغ من شغل. والثاني القصد إلى شيء، وأصل الفراغ منه أن ينقطع عنه بعد ملامسته، والفراغ له هو التوفر عليه، ثم قال- وهو بعد في شرحه اللغوي- «والفراغ والشغل لا يجوز حقيقتهما على الله تعالى لأن ذلك من صفات الأجسام التي تحلّها الأضداد، فهو في صفته تعالى توسع بمعنى القصد أو التهديد على ما نذكره .. » .
وذكر أن «الجعل» في اللغة يستعمل على أربعة أوجه، قبل أن بشرح «معنى» قوله تعالى (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ
…
) «2» منها:
إحداث الشيء كقوله تعالى: (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) وثانيهما: تغييره من حال إلى حال كما جعل النطفة علقة، وجعل الطين خزفا، وثالثها:
الحكم به، كما يقال: جعله عدلا وجعله فاسقا، وجعلهم رؤساء الضلالة- وهذا هو معنى الآية عنده كما شرحها بعد- ورابعها: جعله باعتقاده أنه كذلك، كقولهم: جعله مريبا.
(1) الآية 31 سورة الرحمن: ورقة 79/ ظ.
(2)
الآية 41 سورة القصص: ورقة 47/ و.