الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنهج دقيق، وعناية تستحق الإعجاب بإضافة الآراء إلى أصحابها على الدوام .. قد جعل من الحاكم حلقة وصل مهمة في تاريخنا العلمي، وبخاصة حين نفتقد أكثر مصادره تلك. وسوف يظهر ذلك جليا في حديثنا التالي عن قيمة تفسير الحاكم.
ثانيا: قيمة كتابه «التهذيب في التفسير»
أما تفسيره الكبير فقد انضحت لنا قيمته من خلال هذه الدراسة.
ونعدد هنا بإيجاز أهم ميزاته الموضوعية الخاصة:
1) قدم لنا هذا التفسير لأول مرة خلاصة دقيقة لأهم تفاسير المعتزلة في القرنين الثالث والرابع، وبخاصة تفسيري أبي علي الجبائي وأبي مسلم الأصفهاني، بعد أن افتقدت المكتبة العربية الإسلامية هذه التفاسير الهامة.
ومن هنا تبرز الصفة الأهم في تفسير الحاكم، باعتباره أجمع كتاب في تفسير أهل الرأي وصل إلينا.
2) وضع هذا الكتاب أيدينا- إلى حد كبير- على النزعات الخاصة التي تحكم تفاسير المعتزلة- نظرا لإدامة الحاكم نقل الآراء ونسبتها إلى أصحابها- على الرغم من اتفاق هذه التفاسير في المنهج العام، حتى إنه لا يصعب على الباحث أن يكتشف هذه النزعات، ويحدد اتجاهات أصحابها في التفسير. وربما أمكن تصنيف هذه التفاسير- تبعا لذلك- في تصنيف
- بلغه «عن المشايخ المتقدمين والمتأخرين مما رأيناه في كتبهم أو قرأناه في مصنفاتهم ورسائلهم، خصوصا من كتب الشيوخ الأربعة
…
» وقد أشرنا إلى ذلك أيضا. وتتضح طريقة الحاكم هذه بعامة من أسماء كتبه: «التهذيب» «المنتخب» «عيون المسائل» .. الخ.
خاص. وهذا ما نحاول الآن القيام به في مطلع الدراسة التي نعدها لمنهج أبي مسلم في تفسير القرآن.
3) أبان تفسير الحاكم عن جهود المعتزلة الكبيرة في الدفاع عن القرآن، ورد ما رمى به من دعوى التناقض واللحن والاختلاف، وأن فيه الدلالة على الشيء وضده- كما زعم ابن الراوندي وغيره- وذلك بما أسسوا من قواعد المنهج، وأوّلوا ما يدل بظاهره على خلاف العدل والتوحيد، غير متقولين في ذلك على لغة العرب، أو سالكين طريق تحريف الكلم عن مواضعه! ويحضرني هنا مقالة أبي الحسن الأشعري في تفسير أبي علي الجبائي إنه «لم يرو فيه حرفا واحدا عن أحد من المفسرين، وإنما اعتمد على ما وسوس به صدره وشيطانه!!» «1» وقد علم الأشعري مكانة تفسير أبي علي في الرد على الملاحدة، والنقض على ابن الراوندي وعبيد الله بن الحسن العنبري، كما وقف على اعتماد أبي علي فيه على ابن عباس والحسن البصري، وغيرهما من الصحابة والتابعين .. حتى كان لنا أن نقول: إن هذا من الأشعري تهجم لا يليق!!
4) أظهر لنا كتاب الحاكم تشدد المعتزلة في قبول القراءات القرآنية، ولهذا لم يعنّ الحاكم نفسه بذكر وجوه القراءات الشاذة، أو التي ثبتت بطريق الآحاد. أما صنيع الزمخشري من بعده فلا يلتفت إليه- وسوف نعرض للكلام على الزمخشري في الفصل التالي- كما أظهر لنا كتاب الحاكم تفوق مصنفه رحمه الله في الدفاع عن تاريخ القرآن نزولا وجمعا وتدوينا .. وما رده عنه في ذلك من شبهات الرافضة والملاحدة وسائر المارقين.
(1) راجع تعريفنا السابق بتفسير أبي علي الجبائي، ص:133.
5) ومن الملاحظات الجديرة بالاعتبار، سواء أكان الحكم فيها للحاكم أم عليه؛ أن تفسيره الكبير قد حمل إلينا صورة من صور النزاع بين المعتزلة والأشاعرة في القرن الخامس، أو بين المعتزلة والمجبرة كما يسميهم الحاكم، حتى إنه جعل من خصومته معهم محور تفسيره كما رأينا. وفي هذا ما يؤكد ضرورة الوقوف على عصر أي مفسر في دراسة منهجه في تفسير القرآن، من جهة، كما أنه يمهد الطريق لفهم بعض المواقف المتطرفة أيضا لدى بعض مفسري الأشاعرة في هذا القرن «1» ، من جهة أخرى.
6) أشرنا في تعقيبنا العام على ما وصل إلينا من كتب الحاكم- عند الكلام على آثاره في الباب الأول- إلى مدى اعتماد الزيدية في بلاد اليمن على كتاب التهذيب- وكتاب الكشاف- وكيف أنهم كانوا يروونه ويتدارسونه ويتناقلونه، منذ أن رواه عنه ابنه محمد إلى عهد قريب، وذكرنا أن القاضي جعفر بن عبد السلام (ت 573) سمع كتاب الحاكم على أبي جعفر الديلمي عن ولد الحاكم،- كما سمع بعض كتبه الأخرى على ابن وهاس تلميذ الزمخشري- وأن الإمام شرف الدين (ت 965) قد روى كتبا كثيرة منها تفسير الحاكم كله، وجلاء الأبصار، والسفينة
…
وكتبا أخرى، ونص على أن روايته لتفسير الحاكم عن الفقيه ابن الأكوع من نسخة القاضي جعفر- تسعة أجزاء- التي كانت في خزانة الإمام المتوكل على الله المطهر بن يحيى. وقد قال ابن القاسم في الطبقات عند حديثه
(1) راجع حول تفسير الواحدي ص 53 من هذا البحث.
عن تفسير الحاكم: «قلت: وقد اعتمده أئمة الزيدية المتأخرين» «1»
ونضيف هنا إلى أن ما تشتمل عليه مكتبة الجامع الكبير بصنعاء اليمن اليوم من أجزاء كثيرة متفرقة من كتاب التهذيب جمعت من بيوتات اليمن الكبيرة «2» وجلها «نسخ برسم» جلة من علماء اليمن وفقهائه.
وبعضها الآخر نسخ بأيدي هؤلاء العلماء أنفسهم، «3» يدل على مبلغ عناية الزيدية بهذا الكتاب، علما بأن هذه الأجزاء تفوق في عددها أي كتاب آخر في التفسير، بل أي كتاب آخر في هذه المكتبة، كما تبين لنا من مراجعة فهرسها مراجعة شاملة، هذا عدا ما تسرب من أجزاء هذا التفسير- من نسخ عدة- إلى بعض البلاد الأوربية.
ويبدو أن هذه العناية والاعتماد لتفسير الحاكم أهم ميزاته الخاصة.
7) أما قيمة كتاب الحاكم على ضوء التفسير الاعتزالي الوحيد الذي عرفه العالم الإسلامي، وهو الكشاف للزمخشري، فإنها أكبر بكثير مما كان يظن! بل إن من الحقائق الهامة أن كتاب الحاكم هو الذي قوم لنا- إلى حد كبير- تفسير الزمخشري، وهيأ لنا للمرة الأولى فرصة إعادة النظر وإعطاء الحكم الصحيح في هذا التفسير، بعد أن نال صاحبه في التاريخ فوق ما يستحق، كما سنبين ذلك في كلامنا على أثر تفسير الحاكم في الفصل التالي.
(1) الطبقات، ص 345.
(2)
وضعت هذه الكتب وكتب أخرى كثيرة في المكتبة المذكورة في عام 1373 هـ بناء على رغبة الإمام يحيى رحمه الله.
(3)
انظر فهرس مكتبة صنعاء صفحة 18.