الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثقافته:
إنّ الجولةَ التي قُمنا بها عبرَ شيوخ ابن عبد الملك وأصحابِه وتلاميذه ووظائفِه تقودُنا إلى الحديث عن ثقافته ومعارفه وعلومه، لقد عاشَ ابن عبد الملك في قرن يُمكنُ نعْتُه بأنه أكثرُ القرون في المغرب ازدهارًا بالعلوم والآدابِ والفنون، وعاش في مَرّاكُش حاضِرة الغرب الإِسلاميِّ التي تجمّع فيها على عهده تراث المشرق والمغرب، وقصَدَها أهلُ العلم من جميع أرجاءِ العالم الإِسلامي، وتوفرت له وسائلُ الطلب وأدواتُ العلم، وكان بطبعه ومنذ صِغره ذا نَهَم للمعرفة لا يشبع، وصاحبَ طموح إليها لا يقفُ عندَ حدّ من أَجل الوصول فيها إلى أقصى الغايات وأعلى الدرجات، وأعانه على تحقيق أهدافه العلميّة ما كان له من الجِدَة والجاه والشّغَف بالتحصيل، وهكذا أقبَلَ منذ نعومة أظفارِه على ينابيع المعرفة يعُبُّ وينهَلُ، وسعَى إلى كبار الشيوخ وأعلام الأساتيذ، يروي عنهم، ويلزَمُ مجالسَهم ويرحَلُ إليهم، وكان لا يفتَأُ يكتُبُ ويُقيِّد، ويقابلُ ويُعارض ما يقعُ إليه من ذخائر المؤلفات، ونفائس المصنَّفات، حتى استوَتْ له مَلَكةٌ علميّة فذّة، واستقامت عنده مشاركةٌ واسعة في كثير من أصُول العلم وفروعِه، فغدا حُجةً في علوم القرآن، خبيرًا بالقراءات التي تلقّاها عن المَهَرة فيها، محيطًا إحاطةً نادرة بما ألّف فيها، يُبدي فيها رأيه، ويُصدر حولَها حُكمَه، كقوله في ترجمة المقرئ قاسم ابن الحاجِّ الإشبيليّ:"وصنّف في السبع "البديع"، وكان كثير من الشيوخ يؤْثرونَه على معظم ما صنِّف في فنّه، وإنه لكذلك"(1).
كما كان مطّلعًا على تفاسير القرآن على اختلاف مناهجها ومذاهب أصحابها يصِفُها وَصْفَ قارئ لها مُمارس لمراجعتها، وهذا رأيه -على سبيل المثال- في "الكشّاف" للزمخشري الذي اختلف فيه أهلُ السُّنة في المغرب والمشرق، قال: "وفي الكتاب المذكور جُملةٌ كبيرة جَليّة وخَفيّة ممّا أشار إليه أبو الحُسَين رحمه الله،
(1) الذيل والتكملة 5/الترجمة 1104.
ولكنّه على ذلك مُترَعٌ فوائد ومشحون غرائبَ علميّة لا توجد مجموعةً في كتابٍ غيرِه ألبتّة، سوى ما اختَصّ به من كثيرِ ما احتوى عليه من التنبيه على حُسن نظم القرآن العظيم والإرشاد إلى بديع رَصْفِه والكشف عن وجوه إعجازه" (1). ولا أكادُ أعرف تقويمًا للكشّاف لأحد من أهل السنة بمثل هذا الإنصافِ والاعتدال والتفطُّن لقيمته وقَدْره إلا ما كان من رأي ابن خلدون في "المقدّمة"، وهو شبيهٌ برأي ابن عبد الملك، ولعلّ ابنَ خلدون وقَفَ عليه وانتفع به في قوله: "ومن أحسن ما اشتمل عليه هذا الفنُّ من التفاسير كتابُ "الكشّاف" للزمخشريّ من أهل خُوارزم العراق، إلا أن مؤلفَه من أهل الاعتزال في العقائد، فيأتي بالحِجَاج على مذاهبهم الفاسدة، حيث تعرِضُ له في آي القرآن من طرق البلاغة، فصار بذلك للمحقِّقين من أهل السّنة انحرافٌ عنه وتحذيرٌ للجمهور من مكامنه، معَ إقرارهم برسوخ قدَمِه فيما يتعلَّق باللّسان والبلاغة، وإذا كان الناظرُ فيه واقفًا مع ذلك على المذاهبِ السُّنِّية محُسِنًا للحِجَاج عنها فلا جَرَمَ أنه مأمونٌ من غوائله، فلتغتنمْ مطالعتَه لغرابته في فنون اللّسان" (2).
أمّا علومُ الحديث فكان فيها فارسَ الميدان وكُمَيْتَ الحَلَبة ولا سيّما الأسانيدُ، وقد اعتَرف شيخُه ابنُ الزُّبير -وهو إمامُ المدرسة الحديثيّة في عصره بالغرب الإِسلامي- بعلوِّ كعب ابن عبد الملك في معرفة الأسانيد عندما ذكر أنه كان "نقّادًا لها حسَنَ التّهدِّي جيّد التصرُّف وإن قَلّ سَماعهُ". وفي الجملة الأخيرة نظر؛ فابنُ عبد الملك وإن لم يبلُغْ سماعُه وشيوخه في العدد مبلغَ سماع شيخِه ابن الزُّبير وصاحبه ابن رُشَيْد السَّبْتيِّ مثلًا، إلا أنه يتفوّقُ في النقد الإسناديِّ والزيادات والاستدراكات على مصنَّفات أئمة الحديث من أهل عصره ومَن قبلَهم، ممّا يدُلُّ على تبحُّره وتوسُّعه وإحاطتِه واستيعابِه، وآيةُ ذلك عملُه في الجمع بين كتابَي ابن القَطّان وابن المَوّاق "معَ زياداتٍ نبيلة من قِبَلِه" كما يقول
(1) الذيل والتكملة 1/الترجمة 12.
(2)
المقدمة.
ابن الزّبير نفسُه. وقد نوَّه بهذا العمل الرّحّالةُ العَبْدَريّ وأبو الحَسَنُ المطماطيُّ، وفَخَر به ابنُ عبد الملك فخْرَ متحدِّث بنعمة الله عليه فقال:"وقد عُنيت بالجمع بين هذين الكتابَيْن مضافَيْن إلى سائر أحاديثِ الأحكام وعلى ترتيبها وتكميل ما نقَصَ منها، فصار كتابي هذا من أنفعِ المصنَّفات وأغزرِها فائدةً، حتى لو قلت: إنه لم يؤلَّفْ مثلُه، لم أُبعد، والله ينفعُ بالنية في ذلك"(1). ومثلُ هذا النصّ في الدّلالة على سَعة اطّلاعه في الحديث وأسانيدِه واعتدادِه بذلك، ما نجدُه في ترجمة أبي محمد ابن القُرطُبي، فقد ذكَرَ كتابَه "تلخيصَ أسانيد الموطّإ" من رواية يحيى بن يحيى وساق كلامًا لابن الأبار حولَه جاء فيه:"وهو ما دَلّ على سَعة حفظِه وحُسن ضبطه .. وقد استدركتُ عليه مثلَه أو قريبًا منه"، ثم عقّب على هذا بقوله:"قال المصنِّفُ عفا اللهُ عنه: أسَرَّ ابنُ الأبّار في هذا الثناء، حَسْوًا في ارتغاء، وأظهر زهدًا في ضمنه أشدُّ ابتغاء، ولم أقفْ على كتاب ابن الأبّار، غيرَ أني وجدتُه يَذكُر بعضَ ذلك في مواضعَ من "تكملتِه"، وفي أملي التفرّغُ لالتقاطه إن شاء الله، وأرى أنه محلّ استدراك، ومجال اشتراك، فقد وقفتُ على ما لم يَذْكراه، وعثرتُ فيما طالعتُ على ما لم يُسطّراه، والإحاطةُ لله وحدَه"(2). ومن يستدرك على محدِّثينَ حُفّاظ من طبقة ابن القَطّان وابن المَوّاق وابن الرّنْدي وابن الأبّار، لا بدّ أنه بلغ شأوًا بعيدًا في الاطلاع على أُمّهات كُتُب الحديث والوقوف على مختلف معاجمها، وعندما فَخَرَ الملاحيُّ بصنيعِه في الكتاب الذي عنوَنَه:"كتابَ الأربعين حديثًا عن أربعين شيخًا من أربعينَ قبيلةً في أربعينَ بابًا من العلم من أربعينَ بين مسنَد ومصنَّف عن أربعينَ من الصّحابة رضي الله عنهم بأربعينَ اسمًا من أربعينَ قبيلة معرِّفا بجميعهم رحمهم الله من صحيح حديث رسُول الله صلى الله عليه وسلم "، وعرَتْه نَشْوةٌ من الزَّهو فقال: "وهذه أعجوبةٌ محجوبة، حجَبَها اللهُ تعالى فلم يقَعْ أحدٌ في علمي عليها، فله الحمدُ والشُّكر أنْ هداني ووفَّقني
(1) الذيل والتكملة السفر الثامن (ترجمة رقم 74).
(2)
المصدر نفسه 4/الترجمة 363.
إليها"، انبرى له ابنُ عبد الملك قائلا: قال المصنَف عفا الله عنه: "ما تضمَّنته هذه الترجمة (أي: عنوانُ الكتاب المذكور) من ذكْر أنواع الأربعينَ لا يصحُّ أكثرُها ولا يَسلَمُ على الانتقاد منها إلا أقلُّها، وقد نبَّهتُ على ما لحِقَه فيما أخَلَّ به من ذلك في مقالة بيّنتُ فيها معتمدَه ومنحاه" (1). بينما نجدُه يمتدح صنيعَ ابن الأَبَّار من أنواع الأربعينَ الذي عنوانُه:"الأربعونَ حديثًا عن أربعينَ شيخًا من أربعينَ مصنَّفًا، لأربعينَ عالمًا من أربعينَ طريقًا، إلى أربعينَ تابعًا، عن أربعينَ صاحبًا، بأربعينَ اسمًا من أربعينَ قبيلًا في أربعينَ بابًا"، فيقولُ بلهجة المطّلع المُنصِف: إنّ ابنَ الأبّار أَبان في هذا الكتاب عن "اقتداره مع ضِيق مجالِه عما عجَزَ عنه المَلّاحيّ"(2). وعلى ذكر المَلّاحيِّ نشيرُ إلى أنّ ابن عبد الملك نقَلَ في "الذّيل والتكملة" ما يلي: "وكان أبو محمد ابنُ حَوْط الله يقول: "المحدِّثون بالأندَلس ثلاثة: أبو محمد ابنُ القُرطبي وأبو الرّبيع بن سالم، ويَسكُتُ عن الثالث فيرونَه يعني نفْسَه، قال أبو عبد الله ابنُ الأبّار: ولم يكن أبو القاسم المَلّاحيُّ بدونهم"، وقد عقَّب على هذا الكلام بقولِه: "قال المصنّف عفا الله عنه: أبو القاسم المَلّاحيُّ وإن كان من مشاهير المحدِّثين، وجِلّة الحُفّاظ المؤرِّخين، فإنه ينحَطُّ مهاويَ كثيرةَ عن مَرْقى هؤلاء العِلْية رحمهم الله، ولا يدانيهم في تفنُّنِهم وجلالة معارفِهم، ومن تصفَّح أحوالَهم وتأمّل آثارَهم تبيّن له ما ذكرتُه" (3). ولا أريد أن أُطيلَ في سرد الدّلائل على ثقافة ابن عبد الملك الحديثيّة، فهي كثيرة.
وثمّةَ نماذجُ من أسانيدِه ومَرْويّاتِه الحديثيّة في كتابه "الذّيل والتكملة"(4)، ومذكّراتِ ابن الحاجِّ البَلَّفيقيّ (5)، و"استنزالِ السَّكينة"(6).
(1) الذيل والتكملة 6/الترجمة 1113.
(2)
المصدر نفسه 6/الترجمة 709.
(3)
المصدر نفسه 4/الترجمة 363.
(4)
المصدر نفسه 1/الترجمة 34، 674 و 4/الترجمة 87 و 5/الترجمة 313 و 8/الترجمة 172.
(5)
انظر سنده في الموطإ ص 115.
(6)
انظر الإعلام للمراكشي 4/ 332 - 333.
وأمّا النقدُ الإسناديّ الذي برَّز فيه فنجدُ منه الشيءَ الكثير في "الذّيل والتكملة"، وسنشيرُ إلى شيء منه فيما بعده
وكان ابن عبد الملك متمكّنًا من أصول الكلام وأصول الفقه وفروعه، أَخَذَها عن الفحول من أهلها، وذكَرَ في كتابه عددًا كبيرًا ممّا أَلْف فيها، وأهّله تضَلُّعُه في هذه العلوم لخُطة قضاءِ الجماعة التي لم تكن تُسنَدُ يومئذ إلا للراسخينَ في العلم، ولقد أشار ابنُ الزُّبير إلى مشاركته في الفقه، كما ذكَرَه النُّباهيُّ في رجال القضاء والفُتيا، وحَلّاه ابنُ رُشيد السَّبتيّ بالفقيه الجليل، وهو وإن لم يؤلِّف في الفقه فإنّ في كتابه "الذّيل والتكملة" مظاهرَ من ثقافته الفِقهية ورَدَت عرَضًا وجاءت استطرادًا، وأكتفي هنا بالإحالة على مواضعِها في الكتاب المذكور (1). وكان لهذه الثقافة تأثيرٌ على أدبه وشعره كما سنرى ذلك. وأمّا ما يُدعَى بالعلوم القديمة كالفلسفة وغيرها فإنّ في كتابه "الذّيل" مما يدُلّ على وقوفه على كُتُبها وقراءته لبعضها، ولم تُعرَف القائمةُ الكاملة من مؤلّفات ابن رُشد -مثلًا- إلا بواسطتِه (2)، إلا أنّ موقفَه من الفلسفة هو موقفُ أهل عصره؛ ولذلك نجدُه يوردُ ما قيل من شعر ونثر في مهاجمتها (3)، ونحن نأنَس من كتابه ازورارَه عمّن يخرُج عن الخَطّ السُّنِّي المالكيِّ كابن حزم مثلًا (4).
أمّا ثقافةً ابن عبد الملك الأدبيّة فإنَّها على جانب كبير من الاتّساع؛ إذ كان "ذا معرفة بالعربيّة واللّغة والعروض"، وكان"أديبًا بارعًا شاعرًا مجُيدًا" كما يقول ابنُ الزُّبير، ونَعَتَه العَبْدريّ الحِيحيُّ بالأديب الأوحد، وقال فيه ابنُ رُشيد: المتفنِّن الأديب، بينَما وصَفَه ابنُ الخَطيب بالتبحُّر في الآداب، ولنا أن نتصوَّر
(1) الذيل والتكملة 6/الترجمة 129 و 8/الترجمة 87، 135.
(2)
ترجمة ابن رشد في السفر السادس (51).
(3)
الذيل والتكملة 5/الترجمة 1172 و 6/الترجمة 51، 705 (موضعان) والسفر الثامن (26 وترجمة 91).
(4)
المصدر نفسه 4/الترجمة 3.
مستوى الثقافة الأدبيّة لمن يدرُس في المرحلة الابتدائية من تعلُّمه "حماسةَ أبي تَمّام" والأشعار السِّتة، و"جُمَل" الزجّاجي و"فصيح ثعلب"(1).
وقد انتفَع ابن عبد الملك في تكوينه الأدبيِّ بشيوخ الأدب في عصره وأعلام الترسيل والقريض في وقته من طبقة الرُّعَيْنيِّ وغيره.
كما قرأ الكثيرَ من أُمّهات الأدب، وكُتُب النّحو، ودواوين الشّعر، ومصنَّفات العروض، ولو شئنا أن نحصي مقروءاتِه ممّا ذكرنا، من خلال كتابه "الذّيل والتكملة"، لكثُر العدّ وعسُر الحَدّ، ويتميّز كتابُه المذكورُ بالتعرُّض للمسائل النّحوية واللّغوية والعَروضية، كما يختلفُ عن غيره من كُتُب التراجم الأندَلسيّة بكثرة الاختيارات الأدبية، فابنُ عبد الملك كما يقولُ أستاذنا المرحوم عبد العزيز الأهوانيّ:"لا يقفُ عند ذكْر الناحية العلميّة -كما فهِمَها أهلُ عصره- من سَرْد أسماءِ الشيوخ والتلاميذ والمؤلَّفات، وإنّما يتجاوزُ ذلك إلى الأدب نثرًا وشعرًا، فيورد القصائدَ الطِّوال والرسائلَ الأدبيّة التي تَدخُلُ في باب الإخوانيّات ممّا يجعلُ بعضَ أجزاءِ كتابه أشبَهَ بكتاب "الذّخيرة" لابن بَسّام منه بكتاب ابن الفَرَضيّ أو ابن بَشْكُوال"(2). وإنّ إلقاءَ نظرة على فهارس القوافي والرسائل الإخوانيّة والدّواوين الشّعرية والمصنَّفات الأدبيّة في الأسفار الموجودة من الكتاب لَيَدُلُّ على مدى سَعة اطّلاع ابن عبد الملك في الآدابِ وتبحُّره فيها. وأمّا تعرُّضُه للمسائل النّحوية واللّغوية والعَروضيّة والنّقدية فهو مبثوثٌ في ثنايا بعضِ التراجم (3).
وكان للعَروض نصيبٌ كبير من عناية ابن عبد الملك؛ إذ إنه وقَفَ على ما لم يقفْ عليه غيرُه من مصنَّفاته، وألّف فيه، ونافَسَ أقرانَه من أمثال القللوسيِّ
(1) الذيل والتكملة 1/الترجمة 28 و 5/الترجمة 457.
(2)
مجلة المعهد المصري العدد 3 المجلد 1 ص 10.
(3)
الذيل والتكملة 1/الترجمة 12، 78، 231، 326، 419 و 4/الترجمة 303 و 5/الترجمة 347، 1200 و 6/الترجمة 10، 240، 836.
وابن رُشيد في حِذْقِه، إن لم يكنْ بَزَّهم فيه؛ ولذلك نجدُه في كتابه منجذبًا نحوَه، منجرًّا للكلام فيه كلما عنّت مناسبة أو سَنَحت فرصة، بل إنه ضمَّن أحدَ تراجم كتابه مؤلَّفًا كاملًا فيه، وكثيرًا ما يستندُ في نقده الأدبيِّ إلى ثقافته العروضية.
ويمكنُ القول على الإجمال بأنّ ثقافةَ ابن عبد الملِك الأدبيّة كانت ثقافةً متينة، وقد بدَت ثمراتُها في شعره ونثره ونقدِه مما سنعرِض له بعد قليل.
إنّ المعارفَ التي كانت -حسَبَ ابن الزُّبير- غالبةً على ابن عبد الملك، ومستبدّةً بنشاطِه، ومستغرِقةً لوقتِه وجهده، هي المعارفُ التاريخيّة على العموم وما يرجِعُ منها إلى طبقات الرجال وتراجمهم وأسانيدِهم على الخصوص، قال ابن الزُّبير -وقد ذكَرَ كتابه "الذّيلَ والتكملة"-:"وعلى هذا الكتاب عَكَف عمُرَه، ولم يتمَّ له مَرامُه منه إلى أن لحِقَتْه وفاتُه؛ لأنه ألزم نفسَه فيه ما يعتاصُ الوفاءُ به منَ استيفاءِ ما لم يلتزمْه ابنُ بَشْكُوال ولا الحُمَيْديّ ولا ابنُ الفَرَضيّ ومَن سَلَك مسلكَهم"(1).
لقد نهَضَ ابنُ عبد الملك بأعباءٍ مهمةٍ تاريخيّة كان ميسَّرًا لها ومُلهمًا إلى التوجّه نحوها، وقام بها خيرَ قيام، وأدّاها بكل أمانةٍ ونزاهة، ولولاه لنُسي جَمٌّ غفير من الأعلام، ولَضاع عِلمٌ كثير، ولعلّه كان أولَ من نعَى على المغاربة إهمالَهم ذكْرَ محاسن علمائهم وإغفالَهم تخليدَ مفاخرِ فقهائهم. ويا ليتهُ رحمه الله عُني بوضع معجَم لأولئك الأعلام من المغاربة الذين لم يَدخلوا الأندلس ولم يكونوا من شرط كتابه ولا كُتُب الأندَلسيِّينَ الذين زاحمهم في مَيْدانهم فسبَقَهم وتفوّق عليهم. لا نعرفُ البواعثَ التي وجَّهت ابنَ عبد الملك نحوَ التاريخ وتراجم الرّجال وطبقاتهم وجعَلَتْه يُقبلُ على ذلك بشَغَف كبير وينصرفُ إليه بنَهَم مُنقطع النّظير، حتى إنه وقَفَ عليه اهتمامَه، وقفَى فيه شهورَ عمُرِه وأعوامَه، وهو لم يُشر إلى هذه البواعث في الموجود في مقدِّمة "الذّيل والتكملة"، ولعله ذكَرَ شيئًا
(1) صلة الصلة 3/الترجمة 36.
منها في آخِرها الذي بيّض له في النّسخةِ الوحيدة التي وصَلت إلينا تامّةَ من السِّفر الأول.
وإذا كان الولَعُ بعملِ من الأعمال ممّا لا يُعلَّل في بعض الأحيان فإنّ ثمةَ ظاهرةً تستوقفُ النظر، وهي ظهورُ طائفة من المؤرِّخينَ في أوقاتٍ متقاربة ومتسلسِلة بمَرّاكُش، سواء أكانوا من أهلها أم من الطارئينَ عليها، نذكُر منهم: ابنَ الصيْرَفيّ، والبَيْذَق، وابنَ صاحب الصلاة، ويوسُفَ بن عُمر، وعبدَ الواحد المَرّاكُشيَّ، والتادَليَّ، وابن القَطّان، وابن بيرة، وابنَ حمّاد، وابنَ عِذاري، وصالحَ ابن أبي صالح الإيلانيّ. وهؤلاء المؤرِّخونَ الأعلام سواء منهم الرَّسميّون وغيرُهم يؤلّفون ما يُمكنُ أن نُطلقَ عليه المدرسةَ المَرّاكُشيّةَ في التاريخ، وهذه المدرسة بدأت معَ تأسيس مَرّاكُش والمُرابِطين واستمرّت حتى قيام المَرِينيِّين، ولقد نَقَل ابن عبد الملك عن بعض هؤلاء ونقَل بعضُهم عنه، ونرى أنه كان أوسعَهم جميعَا في الاطّلاع على المصادر والوثائق ولا سيّما في التراجم وتاريخ الحياة العلميّة والأدبيّة، وساعَدَه على التوسُّع في الموادِّ التاريخيّة والتضلّع في مختلف جوانبها، والوقوفِ على قضاياها والنفوذِ إلى أسرارها وخفاياها عواملُ متعدِّدة، منها: وجودُه في مركز الأحداث التاريخيّة، وقُربُه من أصحابها أو صانعيها كما يقال، وجمعُه لمكتبةٍ تاريخيّة مشتملة على مصادرَ أخباريّة ووثائقَ رَسْميّة أصليّة بخطوطِ أصحابِها ما نظنُّ أنها تيسَّرت لغيره، وقبلَ ذلك كلِّه شغَفٌ بل غرام بالتواريخ والأخبار سَلَبَ لُبَّه وشغَلَ عقلَه، ولعلّه دَلَفَ إلى التاريخ من بابِه الإسلاميِّ الأصيل، باب الأحاديث والأسانيد، على أنّنا نجدُه منذ صغره متحفّزَ الوعي بالأحداث التاريخيّة قويَّ الملاحظة لمظاهرِها، فقد وَصَف ترتيبَ الجيش ونظامَه عندَ الخروج لغزوِ أو سَفَر في أواخِر الموحِّدين اعتمادًا على ذاكرته (1)، وكان لصِلته -وهو صغير- ببَلاط الموحِّدين، وعلاقته -وهو
(1) الذيل والتكملة 1/الترجمة 231.
طالبٌ شابّ- بقُضاتهم وعُمّالِهم وكُتّابِهم ونقبائهم ومؤرِّخيهم أثرٌ قويٌّ في تكوينه التاريخيِّ، وتكفي الإشارةُ إلى صلتِه الوثيقة بشيوخِه من رجال الدولة وخاصّةً الخلفاءَ أمثالَ الرُّعَيْنيِّ وابن القَطّان والعراقيِّ وغيرهم ممّن ذكَرْنا فيما سبَق، ونحسَبُ أنه انتفَعَ بتقاليدِ بعض التاريخيِّين والأخبارِّيين المنسيِّين مثل: أبي العبّاس أحمد بن هارون السُّماتي نزيل مَرّاكُش المتوفَّى سنة 649 هـ، أدركه ابنُ عبد الملك وعايَنَه وذكَرَ أنه اهتمَّ بتخليد التواريخ "وقَطَع في ذلك عمُرَه الممتدّ وتخلَّف من ذلك أحمالًا من التصانيف الكبار والصغار والتعاليق والفوائد شَهِدت بطول إكبابِه على خدمة العلم وإن كانت تشتملُ على أوهام عثَرتُ على كثيرٍ من ذلك فيها"، وقد نقَلَ عنه في "الذّيل والتكملة" مرّاتٍ متعددة (1).
يمكنُ أن نميِّز صِنفَيْن من المعارف التاريخيّة لدى ابن عبد الملك، فالصِّنفُ الأول يعتمدُ فيه على المشاهدة والرواية الشّفوية والسَّماع المباشر، وَيندرجُ في هذا النوع "الفَذْلَكاتُ" التاريخيّة الاستطراديّة في كتابِه "الذّيل والتكملة"، وكذلك تراجم من أدرَكَ حياتَهم أو قارَبَ عصرَهم، وهو في هذا النوع مصدرٌ لمن جاء بعدَه من المؤرِّخين كابن عِذاري وابن الخطيب وغيرهما، والصّنفُ الثاني يرجِع فيه إلى المدوَّناتِ التاريخيّة، وما أكثرَ ما وقَفَ عليه منها، وقد ذكَر ما يخُصُّ طبقاتِ الرّجال في مقدّمة "الذّيل والتكملة"، كما أشار إلى كثير منها في أثنائه، ومما يتعلّق بالتاريخ العامّ في الأندَلس والمغرب مؤلّفاتُ: الرازيَّيْنِ، والورّاق، وابن حَيّان، والحكيم، وابن حَزْم، وعَرِيب بن سعيد، والمَلّاحي، وابن صاحب الصّلاة، والسالميّ، وأبي العباس أحمدَ بن علي الإشبيليّ، وأبي القاسم محمد بن حُمَيد البرجانيّ، وأبي عبد الله ابن عَلْقمةَ، وهو يقوِّمُها بكلمات تطُولُ أو تقصُر أحيانًا، فقد نقَل عن الرازيَّيْنِ: أحمدَ وولدِه عيسى ووَصَف تاريخَ هذا الذي ألّفه للمستنصِر بأنه "تاريخٌ مُمتع" وأشار إلى تأليفيه اللذين ألّفهما لابن أبي
(1) الذيل والتكملة 1/الترجمة 417، 700، 5/ الترجمة 525. 1245، 6/الترجمة 929.
عامر في "الوزارة والوزراء" وفي "الحجاب"(1)، ونقل عن ابن حَيان مرّات وعبَّر عن إعجابه به فقال:"التاريخيُّ الحافظُ الحافل" وامتَدح كلامَه ووَصَفَه بالحُسْن والتنميق، وأشار إلى ملحوظة دقيقة تتعلّق بتصرُّفه في كلام أحمدَ الرازيّ الذي ينقُله في "المقتبس"(2)، وانفرد -فيما نحسَب- بالنقل عن كتاب عبد الله الحكيم في "أنسابِ العرب والبربر الداخلينَ إلى الأندلس"(3)، كما نقَل عن ابن حَزْم ولا سيّما "الجَمْهرةُ"(4)، ونجد لديه نقولًا من كتاب عَرِيب في تلخيص الطّبري لا توجَدُ في المطبوع (5)، ووقَفَ على تاريخ إلبيرةَ للمَلّاحي وعلى "شجرته" في أنساب العرَب والعجَم بخطِّه وأثنى عليهما ووَصَفَهما بالإبداع والإتقان (6).
وابن عبد الملك ينقُل عن "المنِّ بالإمامة""وثورة المُرِيدينَ" لابن صاحب الصّلاة في بعض المناسبات، ولقد لفَتَ نظرَنا إلى نقطة غَفَل عنها دارسو هذا المؤرِّخ، وهي تتعلّق بمصدره في أخباره، ومستنَده في تاريخه، فقد قال في ترجمة أبي القاسم محمد بن ثَوابةَ الإشبيلي:"وله عناية بالتاريخ، وعنه أخَذَ أبو محمد ابنُ صاحب الصّلاة، وبه انتفَع في تأليفه المشهور"(7). وإذا كان ابنُ صاحب الصلاة في السِّفر الموجود لم يسمِّ شيخَه الذي اعتمَد عليه فإنّ ابنَ عبد الملك رأى من الإنصاف والأمانة العلميّة الإشارةَ إلى دوره وراء ذلك المؤلّف الممتاز، ولعلّه هو الذي اكتفَى بالإشارة إليه بعبارة:"قال الراوي" عدّة مرات وأبَى ابن عبد الملك إلا أن يُفصحَ عن اسمه.
(1) الذيل والتكملة 5/الترجمة 892.
(2)
المصدر نفسه 1/الترجمة 231.
(3)
المصدر نفسه 1/الترجمة 291 و 6/الترجمة 599.
(4)
انظر فهارس الذيل والتكملة.
(5)
الذيل والتكملة 5/الترجمة 291.
(6)
المصدر نفسه 6/الترجمة 1113.
(7)
المصدر نفسه 6/الترجمة 869.
أمّا السّالميُّ فقد ذكَرَ في ترجمته أنّ كُتبه في التاريخ مفيدة، ووقَفَ على بعضِها بخطِّه، ومنها:"دُرَر القلائد وغُرَر الفوائد في أخبار الأندلس وأمرائها، وطبقات علمائها وشعرائها"، ونَقَل مقدَّمتَه، كما وقَفَ على مختصره الذي سماه:"عبرةَ العِبَر وعجائبَ القَدَر في ذكْر الفتن الأندَلسيّة والعُدْويّة بعد فساد الدولة المُرابِطيّة"، وقال في الكتاب الأول:"وقد وقَفتُ له في هذا الكتاب على أغلاطٍ وأوهام نَحْوية، وضروب من الخَلَل في الهجاءِ الخَطّي، مصدرُ بعضها -فيما أرى- الغفلة، ولا جوابَ عن بعضها إلا الغفلةُ والجَرْيُ على المألوف من عبارة العوامّ". وكتابُ "دُرر القلائد وغُرر الفوائد" المذكورُ، من كُتُب التاريخ التي نقَل منها المؤرِّخ ابن عِذاري وسرَدَها في مصادر كتابه:"البيان المُغرب"(1).
ومعَ أنّ ابنَ عبد الملك لم يؤلِّف في التاريخ العامّ ولم يُخلِّف فيه إلا "الفَذْلَكات" التي أشرنا إليها، فقد نقَل عنه أصحابُ المدوَّنات التاريخيّة وفي طليعتهم بلدِيُّه ابنُ عِذاري، وذلك في القسم المتعلّق بتاريخ الموحِّدين من كتاب "البيان".
وممّا صرَّح فيه باسمِه والنقل عنه (2):
1 -
نصٌّ يتّصل بفتح الموحِّدينَ لإشبيليَةَ سنة 541 هـ، ويصوِّر وصُولَ عبد العزيز وعيسى أخوَي المَهْديّ ويصلاتن ابن عمِّهما إلى إشبيلِيَة على رأس جيش من الموحِّدين، ويَنسُبُ إليهم أفعالًا سيّئة، ويبدو أنّ هذا النصَّ من جملة "فَذْلكةٍ" تاريخيّة ساقها ابنُ عبد الملك في ترجمة عبد المؤمن في "الذّيل" وينبغي أن تكون هذه الترجمةُ في السِّفر السابع المفقود.
2 -
نصٌّ طويل (3) يتعلّق بنكبة الوزير الكاتب أبي جعفر أحمدَ بن عَطِيّة، والظاهرُ أنّ ابنَ عذاري نقَلَه من ترجمة المذكور في السِّفر السابع المفقود أيضًا،
(1) الذيل والتكملة 6/ 7، وانظر مقدمة البيان المغرب.
(2)
نص جديد من البيان المغرب نشر في مجلة المعهد المصري بمدريد، المجلد العشرون ص 85.
(3)
البيان المغرب (القسم الموحدي): 35، 36.
ويفتتح هذا النصَّ بالبداية التالية: "أخبَرنا أبو عبد الله محمدُ بن عبد الملك قال
…
"، وصيغةُ الإسناد تقتضي أنّ هذا المؤرِّخَ -الذي لا توجَدُ له ترجمة- عَرَف ابنَ عبد الملك وروى عنه، وهي واضحة الفائدة في تعيين عصر الرجل، وكلُّ ما قيل عنه من قبلُ على سبيل التخمين أنه نَبَغ في أواخر القرن السابع.
3 -
خبَرُ وفاة عبد المؤمن والعُمرِ الذي توفَي عنه، قال: "وكان له من السِّنين على ما رواه أبو عبد الله بن عبد الملك برواية أبي يحيى زكريّا بن يحيى بن سِنان ثلاثٌ وستونَ سنة
…
" (1).
4 -
نصّ يبدأ هكذا (2): "ومن جَدِّه وظهور سَعْدِه (يعني عبد المؤمن الخليفة) ما أخبرني أبو عبد الله بن عبد الملك، قال: حدّثني أحدُ أشياخ الموحِّدينَ بحضرة مَرّاكُش، قال: كان عبد المؤمن في أيام طلبه
…
"، وهذا يؤكّد من جهة ما رأينا آنفًا من رواية ابن عذاري عن ابن عبد الملك وسَماعِه منه مباشرة كما يؤكِّد من جهة ثانية ما سبَق أنْ قلناه عن موقع ابن عبد الملك ومكانته، وصِلاته القريبة والوثيقة بكبار الدولة المؤمنيّة، ومن المعروف أنّ الأشياخَ كانوا أهلَ الحلّ والعَقْد في هذه الدولة.
5 -
نصٌّ فيه خبرُ تعريس الخليفة يوسُف بن عبد المؤمن بابنة ابن مردنيش (3).
6 -
سمَّى ابنُ عذاري ابنَ عبد الملك وكتابَه بمناسبة الإشارة إلى ثورة عبد الرّحيم ابن الفَرَس الغَرناطيّ فقال: "فقيهٌ عالم، ذكَرَه ابن عبد الملك المَرّاكُشيُّ في "التكملة والذّيل" -كذا- له
…
" (4). وقد تساهل أو وَهِم -هو
(1) البيان المغرب: 55 وانظر نظم الجمان: 4.
(2)
البيان المغرب: 57.
(3)
المصدر نفسه: 108.
(4)
المصدر نفسه: 215.
أو الناسخ- في تسمية الكتاب، أمّا ترجمةُ ابن الفَرَس المشار إليها فلم تصلْ إلينا؛ لأنها تقعُ في الطّرفِ المفقود من السِّفر الرابع.
وممّن نقَلَ عنه وذكَرَه من المؤرّخينَ: صاحبُ كتاب "مفاخِر البربر"، الذي نُشِرَتْ قطعةٌ منه، فقد سمِعَه مرّةً ينعَى على المغاربة إهمالَهم تاريخَ أعلامهم ومعالمَهم، وإغفالَهم تخليدَ مفاخِرهم ومآثرِهم، ويقول:"كان بفاسَ من الفقهاء الأعلام، الأجِلّة أعيان الأنام، ما ليس في غيرها من بُلدان الإسلام؛ إذْ هي قاعدةُ المغرب، ودارُ العلم والأدب، لكنّ أهلَها أهمَلوا ذكْرَ محاسن علمائهم، وأغفَلوا تخليدَ مفاخِر فقهائهم"(1). ويبدو من سَبْك هذا الكلام وسَجْعِه أنه ممّا كتبه ابنُ عبد الملك، ولكنّنا لا نَعرف موضعَه ومناسبتَه، ولعلّه وَرَدَ في بعض تراجم الأسفار المفقودة، ومهما يكنْ فإنّ الكلامَ المذكورَ هو أقدمُ ما نقفُ عليه في موضوعه، وهو أصل الشكاوى التي ردّدها المشتغلونَ بتدوين تاريخ المغرب في القرون الأخيرة (2).
ونحسَبُ أنّ من بين المؤرِّخينَ الذين كانوا قريبينَ من ابن عبد الملك في المكان والزمان التاريخيَّ المغمورَ أبا عليّ صالح بن أبي صالح الإيلانيَّ نزيلَ نفيس والمتوفَّى سنة 627 هـ (3)، وقد ضاعت مؤلّفاتُه التاريخيّة ولم يبقَ منها إلا نُقولٌ في "البيان" لابن عذاري ووَرَقاتٌ حول الفتح الإسلاميِّ للمَغرب نشَرَها المؤرِّخ المستعرِب ليفي بروفنسال، ولعلّها من مطلع كتابٍ له في تاريخ المغرب.
وقد وجدنا ابنَ أبي زرع في "الأنيس المُطرب" يستمدُّ أحيانًا من الفَذْلَكات التاريخيّة لابن عبد الملك المتعلّقة بالموحِّدين، ولكنّه لا يُسمِّيه، وله
(1) مفاخر البربر: 76.
(2)
مؤرخو الشرفاء: 37 وما بعدها.
(3)
درة الحجال 3/ 30 - 31، ومفاخر البربر: 75، ومقدمة الأنيس المطرب (طبع دار المنصور).
رواياتٌ تخالفُ أحيانًا ما عند ابن عبد الملك، ولعلّ ابنَ أبي زرع كان يرجِعُ إلى "الذّيل والتكملة" في تسجيل وَفَيات الأعلام.
أمّا مؤلّفُ "الذّخيرة السَّنية" فقد ضمَّنها بعضَ التراجم الموجودة في "الذّيل والتكملة"، ويبدو من المعارضة أنّ المؤلفَ المذكورَ نقَلَ عن ابن عبد الملك.
وبالجملة، فقد كان ابنُ عبد الملك إمامَ المؤرِّخين بالمغرب في زمنه، ويُمكنُ القولُ على العموم بأنّ "الفَذْلَكاتِ" التاريخيّةَ التي اشتمل عليها كتابُه "الذّيل والتكملة" تُعَدّ أوثقَ ما يُعتمَد عليه في تاريخ الموحِّدين وأصحَّ نصوص هذا التاريخ، وذلك لِما عُرف به محرِّرُها من اطّلاع واسع وإكباب طويل على المدوَّنات التاريخية والوثائق الرسميّة، ولما يلتزمُ به من منهجيّة صارمة وموضوعيةٍ عادلة ومجُانبةٍ لأساليبِ المؤرِّخين الرسميِّين المعهودة وطرائقِهم المعروفة، وكلُّ ذلك تشهَدُ به النّصوصُ المبثوثة في ثنايا تراجم "الذّيل والتكملة".
وقد انفردَ ابنُ عبد الملك بذكر أشياءَ من تاريخ الموحِّدين لا توجَدُ عند غيره.
فمن ذلك: ما يُمكنُ أن نُطلقَ عليه "حساسيّةَ الأسماء" في عهد الموحِّدين، فقد كان اسم "عبد المؤمن" مثلًا مقصورًا عليهم، وعُرف أحمدُ بن عبد المؤمن الشَّريشيُّ شارحُ المقامات في بلده بابن مؤمن بدلًا من ابن عبد المؤمن، وذلك كما يقول ابنُ عبد الملك:"لمكان التّقية من غَيْرةِ آل عبد المؤمن من مشاركتهم في الشّهرة بالانتساب إلى جدهم، فكثيرًا ما كانوا يفعلون ذلك، ويُغيِّرون الأسماءَ والكُنَى والأنسابَ والشُّهَر على الجملة بسببه"(1). وهذه حساسيّةٌ غريبة جدًّا، فالمعروفُ على العموم وفي كلِّ زمان ومكان أَنّ الناس -خاصّتَهم وعامّتَهم على السواء- يُسَمُّوْن بأسماءِ ملوكهم وعظمائهم وزعمابهم وعلمائهم وصُلَحائهم، ولعلّ مصدرَ هذه الحساسيّةِ الغريبة لديهم تخوُّفُهم من استغلال الاسم
(1) الذيل والتكملة 1/الترجمة 349.
والاستفادة منه بشكل ما والتّمويهُ به على العامّة على سبيل الادّعاءِ والتزوير وما يُشبه ذلك.
ومن ذلك: "معتقَدُ آل عبد المؤمن وطائفتهم قديمًا وحديثًا أنّ كلَّ من خرج عن قبائلهم المعتقِدة هدايةَ مَهْديِّهم وعصمتَه فهم عَبيدٌ لهم أرِقّاء"(1).
ومن ذلك نصٌّ طريف يعكِسُ ضربًا من المعارضةِ السياسيّة يتمثّلُ في الكيفيّة العجيبة التي انتقَد بها أبو العبّاس أحمدُ بن يحيى العَبْدَريُّ نزيلُ مَرّاكُش تعيينَ المنصور "بَنيه وصِغارَ إخوتِه وبني أعمامِه وذوي قرابته وُلاةً في البلاد"(2).
كما سَجَّل بعضَ الدّسائس التي كانت تقعُ في بَلاط الموحِّدين لم يُعرّجْ عليها المؤرِّخون، مثل: تسميم المستنصِر وفساد الحاشية في عهده، ومحاكمة ابن العثمانيّ (3)، وغير ذلك ممّا سنقفُ عليه في مكانه، وممّا أفادنا به أنّ خُطّة الشورى التي كان العملُ جاريًا بها قبلَ الموحِّدين حُذفت في عهدهم (4).
أمّا كُتُب التراجم فقد وقَفَ منها على عدد كبير، وسمَّى طائفةً منها في مقدّمة "الذّيل والتكملة"، بينَما أشار إلى أخرى في خلال كتابه، كما أنه وقَفَ على كمّ هائل من كُتُب البرامج والمعاجم، ولو تتبّعنا هذه المصادرَ بالإحصاءِ والاستقصاء لطال الموضوع؛ ولذلك فسنكتفي بالإحالة على فهارس الكتاب.
ممّا تقدَّم نَعرِفُ ما كانت عليه ثقافةُ ابن عبد الملك من التوسُّع والتنوُّع، ونُدركُ صدقَ النعوت التي أضْفاها عليه مترجِموه، ومنهم ابنُ فَرْحون الذي يقولُ فيه:"الإمامُ العلّامة الأوحَد المصنِّفُ الأديبُ المفتي الفقيهُ المقرئُ المؤرِّخ الحافظ المقيِّد".
(1) الذيل والتكملة 1/الترجمة 871.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
انظر الفذلكة التاريخية الطويلة في ترجمة ابن القطان من السفر الثامن رقم (10).
(4)
الذيل والتكملة 1/الترجمة 148.