الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
226 -
أحمدُ (1) بن عبد الله بن عامِر بن عبد العظيم المَعافِريُّ، دانيٌّ، أبو العبّاس وأبو جعفر.
رَوى عن عمِّه أبي زَيْد، وأبوَيْ بكر: ابن (2) اللباتي، وأبي [بكر](3) بن بَرُنْجال، وأبي الحَجّاج بن أيّوب.
رَوى عنه أبو الحَجّاج بن عبد الله بن يوسُفَ بن أيّوبَ صاحبُ الأحكام، وأبو زكريّا بن أحمدَ بن يحيى بن سيِّد بُونُه.
وكان من أهل العلم بالنَّحو والحِفظ للُّغات، أديبًا ماهرًا، ولِيَ الصّلاةَ والخُطبةَ بجامع بلدِه، وكان صِهرَ أبي عبد الله بن سعيد الدّاني. وتوفِّي سنةَ أربعينَ وخمس مئة وقد زاحَمَ السبعينَ سنة.
227 - أحمدُ بن عبد الله بن عليِّ الأشعَريُّ، مالَقيّ، أبو العبّاس
.
رَوى عن أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن عَتّاب.
228 - أحمدُ بن عبد الله بن عليّ، شاطِبيٌّ، ابن البناد
.
أخو أبي الحَسَن (4).
229 - أحمدُ بن عبد الله بن محمد بن أحمدَ بن محمد بن يحيى بن مُفَرِّج
.
رَوى عن أبي عُمر أحمدَ بن محمد الطَّلَمَنْكي.
230 -
أحمدُ بن عبد الله بن محمد بن أحمدَ السَّكُوني، قُرطُبيٌّ، سَكَنَ مَرّاكش (5)، أبو العبّاس.
(1) ترجمه ابن الأبار في التكملة (140)، والذهبي في تاريخ الإسلام 11/ 772، والسيوطي في بغية الوعاة 1/ 317.
(2)
بعد هذا فراغ في الأصل.
(3)
فراغ في الأصل وما أثبتناه من التكملة.
(4)
ستأتي ترجمته في السفر الخامس من هذا الكتاب (الترجمة 470)، وهو في التكملة (2812).
(5)
هو ممن يستدرك على صاحب الأعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام.
رَوى قراءةً وسَماعًا عن أبي بكرٍ عَتِيقِ بن عليّ الصُّنْهاجي، وأبي جعفرٍ محمد بن يحيى الوزغي، وآباءِ الحَسَن: ابن محمد بن حَفْص وابن موسى ابن النَّقِرات وابن يحيى الأخفَش، وأبي زكريّا بن مجمد بن خَلَف الهَوْزَني، وأبوَيْ محمد: ابن سُليمان بن حَوْط الله وعبد العزيز بن عبد الرحمن القَيْسي، وأبي يحيى ابن بكرِ بن عليِّ بن أحمدَ الحاجِّ القَلْعيُّ الضَّرير.
وأجاز له أبو جعفر بن يحيى بن عَمِيرةَ، وأبو زكريّا بن حَسّان المرجيقي، وآباءُ القاسم: أحمد بن يزيدَ بن بَقِيّ، وعبدُ الرحمن بن إبراهيمَ بن الفَرَس، وعبدُ المُنعم بن محمد بن تيسيت، وأبوا محمد ابنا المُحمَّدَيْنِ: ابن أبي السَّداد وابن عيسى التادلي. وكان من أهل العناية بالعلم ولقاءِ المشايخ جيِّدَ الخَطّ مجوِّدًا للقرآنِ العظيم مُتقنًا بأدائه راويةً للحديث، ذا حظٍّ وافرٍ من العربيّة.
231 -
أحمدُ (1) بن عبد الله بن محمد بن الحُسَين بن أحمد بن عَمِيرةَ المَخْزوميُّ.
كذا وقَفْتُ على نَسَبِه بخطِّه في غيرِ موضع، وكان كثير من الناس يَنْفُونَه عن هذا النسَب، فحَكَى الحكيمُ أبو إسحاقَ إبراهيمُ بن [محمّد](2) الشاطبيُّ المعروفُ بابن الحاجِّ (3)، وكان تأريخيًّا، أنّ الرئيسَ أبا الحُسَين بنَ عيسى (4)
(1) انظر مصادر ترجمته في كتاب الدكتور محمد بن شريفة: أبو المطرف أحمد ابن عميرة المخزومي -حياته وآثاره (منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي- المغرب)
(2)
بياض في الأصل، والاسم مستفاد من ترجمة ولد المذكور الطبيب أبي الحسين يحيى بن إبراهيم المعروف بابن الحاج الشاطبي، وهي موجودة في برنامج الوادي آشي (68) وسبك المقال لابن الطواح (97)(مخطوط الخزانة الملكية بالرباط).
(3)
له ترجمة مطولة في رحلة ابن رشيد 2/ 127 - 156 تحقيق الشيخ ابن الخوجة.
(4)
هو أبو الحسين يحيى بن أحمد بن محمد بن أحمد بن طاهر بن علي بن عيسى المتوفى سنة 634 هـ، ترجمه ابن الأبار في التكملة (3419)، والحلة السيراء 2/ 303، وابن سعيد في المغرب 2/ 281، والذهبي في المستملح (870)، وتاريخ الإسلام 14/ 165.
-وكان ينتسبُ إلى سَعْد بن عُبَادة- سأل يومًا أبا [الحَسَن](1) الزيّاتَ، سأله (2) فقال له: ما تقولُ في مَخْزوميّة ابن عَمِيرة؟ فقال له: إنْ كانت سَعْديّتُك مثلَ مَخْزوميّته فأنت صادق (3). قال أبو إسحاقَ الحكيم: يُعرِّضُ بأنّ ابن عَمِيرةَ ليس بمَخْزوميّ وأن جَدَّه أو أباه كان لَقِيطًا لرجُل من آلِ عَمِيرةَ الشُّقْرِيِّين. قال الحكيم: وهم في الأصل يهودٌ. والعُهدةُ في هذا على أبي إسحاق بن الحاجِّ، واللهُ أعلم (4).
وكان أبو المُطرِّف رَوى عن أبي الخَطّاب أحمدَ بن محمد بن واجِب، وأبي الرَّبيع بن موسى بن سالم، وأبي عبد الله بن أيّوبَ بن نُوح، وأبي عليٍّ عُمرَ بن محمد بن الشَّلَوبِين وأبي عُمرَ أحمدَ بن هارون ابن عاتٍ، وأبي محمد بن سُليمان بن حَوْطِ الله، لقِيَهم وقرَأ عليهم وسَمع وأجازوا له، وصَحِبَ أبا بكر عَزِيزَ بن عبد الملِك بن خَطّاب قبلَ تولِّيه ما توَلَّى من رياسة بلدِه مُرْسِيَةَ وانتفعَ به كثيرًا. وأجاز له من أهل المشرِق: أبو الفُتُوح نَصْر بن أبي الفَرَج بن عليٍّ الحُصْري.
رَوى عنه ابنُه أبو القاسم، وأبو بكر بن عبد الله بن خَطّاب، وأبو الحَسَن طاهرُ بن عليٍّ الشُّقْري، وأبو عبد الله بن أبي بكرٍ البري، وحدّثنا عنه من شيوخِنا أبو جعفر ابنُ الزُّبير، واسلوا عبد الله: ابن إبراهيمَ بن عُمرَ السلويُّ الخطيبُ ابن البَراذِعي، وحدَّثنا عنه ابن يحيى بن ربيع، وصاحبُنا أبو العبّاس بن محمد بن شنيف، وحدّثنا عنه أبو محمد مَوْلى أبي عثمانَ سعيد بن حَكَم.
وكان أوّلَ طلبه العلمَ شديدَ العناية بشأن الرواية، فأكثَرَ من سَماع الحديث وأخْذِه عن مشايخ أهلِه، ثم تفَنَّن في العلوم ونَظَرَ في المعقولاتِ وأُصول الفقه،
(1) بياض في الأصل، وأكملناه من ترجمة المذكور في السفر الخامس (الترجمة 463)، وعنوان الدراية (115).
(2)
هكذا في الأصل، وهو تكرار للتوكيد.
(3)
بعد هذا بياض في الأصل.
(4)
انتقد ابن الخطيب المؤلف على إيراد مثل هذه الرواية، فقال:"لم يكن من بيت نباهة، ووقع لابن عبد الملك في ذلك نقل كان حقه التجافي عنه، لو وُفِّق"(الإحاطة 1/ 173).
ومال إلى الآداب فبَرَعَ فيها براعةً عُدَّ بها من كُبَراءِ مُجيدي النَّظْم، فأمّا الكتابةُ فإنه عَلَمُها المشهورَ، وواحدُها التي عَجَزت عن الإتيانِ بثانيه الدّهور، ولا سيّما في مخُاطبة الإخوان، [هنالك استَوْلَى](1) على أمدِ الإحسان، وله المُطوَّلاتُ المُنتخَبة، والقِصَارُ المُقتضَبة، وكان يُملحُ كلامَه نظمًا ونثرًا بالإشارة إلى التواريخ، ويُودعُه إلماعاتٍ بمسائلَ عِلميّة منوَّعةِ المقاصِد تشهَدُ بتمكُّنِه في المعارِف على تفاريقِها، كقولِه، وهو مما استَفتَح به مُخاطَبةً [البسيط]:
يا غائبًا سَلَبْتني الأُنسَ غَيْبتُهُ (2)
…
فكيف صَبري وقد كابدتُ بينَهما؟!
دعوايَ أنك في قلبي يُعارضُها
…
شوقي إليك فكيف الجمعُ بينَهما؟! (3)
وكتَبَ إليه أبو عبد الله بنُ أبي الحُسَين كتابًا افتتَحَه بقولِه (4)[الكامل]:
شُكري بفاتحةِ الخِطابِ مُنزَّةٌ
…
عن حَصْرِه بالوَصْفِ والتّحبيرِ
ومَوَّدتي وَقْفٌ عليكمْ واجبٌ
…
عارٍ عن التّوسيع والتّخييرِ
كبَّرتُ للبُشرى أنَتْ وسَماعُها
…
عيدي الذي لشُهودِه تبكيري
وكذلك الأعيادُ سُنّةُ يومِها
…
مختصّةٌ بزيادةِ التكبيرِ
فافتتَحَ جوابَه بقوله [الكامل]:
أفْدي الكتابَ أتَي وساحةُ طَرْسِهِ
…
رَوْضٌ موَشًّى بالبديع موشّعُ
وله حقوقٌ ضاقَ وقتُ وجوبِها
…
ومن الوجوبِ مضيَّقٌ وموشَعُ
(1) بياض في الأصل أكملناه من الإحاطة.
(2)
في الأصل: غيلته، وهو تحريف.
(3)
ورد البيتان منسوبين إلى أحمد بن عبد الرحمن الرّصافي في جذوة الاقتباس (146)، ونسبا إلى ابن عميرة في ترجمته في المصدر نفسه (73).
(4)
قال محمد بن شريفة: كنتُ أحسب أن في النص هنا خللًا فعزوت هذه الأبيات إلى المترجم في كتابي: أبو المطرف أحمد ابن عميرة (244) لما بينها وبين جوابها الآتي -فيما أحسب- من فصل.
وله في غَرضٍ آخَر [الخفيف]:
بايَعُونا مودّةً هيَ عندي
…
كالمُصَرّاةِ بَيْعُها بالخِداعِ
فسأقضي برَدِّها ثم أقضي
…
معَها من نَدامتي ألفَ صاعِ
وله في معنًى فِقهيٍّ آخَر [الطويل]:
شرَطْتُ عليهمْ عندَ تسليم مُهجتي
…
وعندَ انعقادِ البيع قُربًا يُواصَلُ
فلمّا أردتُ الأخْذَ بالشّرطِ أعرَضوا
…
وقالوا: يصحُّ البيعُ والشّرطُ باطلُ
ومنه قولُه من أبيات [الكامل]:
ورفعتَ من أملي بأكرمِ شيمةٍ
…
نزَلَتْ وأنت البدرُ منزلةَ السُّها
وتواضع أسلَفْتَه في سُؤدَدٍ
…
ورُبًا رأيتَ العَقْدَ إلا ها وها
ومن هذه الأبيات [الكامل]:
عندي يدٌ لكَ بعدَ أُخرى قرَّرتْ
…
من وُدِّك الذُّخْرَ المعَدَّ لِما دَهَا
والدّهرُعن حظِّي سها أفينبغي
…
من ذي اليدينِ سكوتُه عمّن سَهَا
وله من هذا النَّحو كثيرٌ نظمًا ونَثْرًا، ومنه في النّثر قطعةٌ من رسالة هنَّأَ بها المستنصِرَ بالله أبا عبد الله ابنَ الأمير الأجَلِّ أبي زكريّا ابن الشّيخ أبي محمد ابن الشيخ أبي حَفْص بإجرائه ماءَ السِّقاية بجامع حضرةِ تونُسَ حرَسَها اللهُ وجميعَ بلاد الإسلام، وهي (1):
الحضرةُ العَلِيّة أبقى اللهُ الإسلام بها قريرَ الناظر، قريبَ الناصر، وقَرَنَ مساعيَها بيُمنِ الطائر، ونُجْح الموارِدِ والمصادر، ولا زالتْ مآثرُها سائرةً معَ المُنجِد والغائر، زارِيةً على الماضي والغابر، وآثارُها حجّةً للمفاخر، بما ترَكَ الأولُ للآخِر.
(1) أورد الشريف السبتي معظم فصول هذه الرسالة في رفع الحجب 1/ 77.
ومنها: فكتَبَ (1) كَتَب اللهُ للمقام العالي الكريم تأييدًا يملِكُ أمرَ الوَرى، وسُعودًا تعلو فوقَ الذُّرى، وتنزلُ إلى ما تحتَ الثَّرى، من قابِس وبركةِ الإمارةِ العزيزة أيَّدَها اللهُ تخرُقُ المعتادَ خَرْقًا، وتَجوبُ البلادَ غَرْبًا وشرقًا، وتُبَشِّرُ باغيَ الورود، بالعَذْبِ البرود، وما رأى عارِضًا ولا شامَ بارقًا، وإنّما هي هدايةٌ ألقِيَتْ في جَنانِها، وآيةٌ استأخَرتْ إلى زمانِها، وهمّةٌ انبطت بعدَ طول الإكداء، وسُقِيت قبلَ قَلْب الرِّداء، وأشعرَتْ ونِتاجُها حيث أجهِضَت الحَوامل، وعلاجُها قد عَجَزت عنهُ الأوائل، بأنّ أمرَها يعلو كلَّ أمر، ويومًا منها كليلةِ القَدْر خيرٌ من ألفِ شهر.
ومنها: والحمدُ لله الذي أحيا بها البلدَ (2) الميِّت، وألهمَها قولَه:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17]، تفويضًا لمن قَدَّر الأحوالَ طَوْرًا وطَوْرًا، ودَرَّجَ النباتَ ورَقًا ونَوْرًا، وقال لخَلْقِه:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} [الملك: 30]. وقد أتى به سبحانَه بعزيمةٍ صَدَقَ حاملُها، ونيّةٍ رضيَ عَملَ عاملِها، وعن رَوّية أنشرَتْه بعدَما أقبرَتْه، وكأنّما خيَّرتْه وما أجبَرتْه، وبمُرادِها الذي (3) خَبّأتْه أخبرَتْه، فأصاخ بالأُذُنِ الواعية، وجاء بحِكمة الأنشاء في ظُلمة الأحشاء، حتى أفضَى متواريهِ إلى الإفشاء، وأغنى جاريهِ عن الدَّلوِ والرِّشاء، فكأنَّ المسجدَ الجامعَ قدِ استَسْقَى لقومِه، واقتضى حقَّ أمسِه ليومِه، ورأى أنّ ما يوعبه (4) بسبب الخَلْق، من سيل (5) الوَدْق، ربما نَضَبت ثميلتُه، وكذَبَت مخيلتُه، فشَفَعَ للظِّماء، في مَعينِ الماء، واستغاثَ يدَ الجُود، للركوع والسجود، ولجأَ في إسباغ الطَّهور، لسابغ الكرَم المشهور، فلم يلبَثْ أنْ سمعَ النّداءَ: لَبيْك، وهذه
(1) في رفع الحجب: "كتب العبد".
(2)
في رفع الحجب: "هذا البلد".
(3)
في الأصل: "التي"، خطأ.
(4)
في الأصل: "يوعيه"، ولا معنى لها.
(5)
في الأصل: "سبل"، وهو تصحيف، وما هنا من رفع الحجب.
السُّقيا تنتهي إليك، وتستَهِلّ حوالَيْك لا عليك، فإنْ كنتُ قد دعَوْتُ بأنْ تُروَى الضُّلوع الحِرَار، وتَرضَى الصَّفوةُ الأبرار، فالدعوةُ بحمدِ الله مُجابة، والدِّيمةُ لا مُقلِعةٌ ولا مُنْجابة، نشَأَتْ بَحْريّة لأعظم البحار هي منسوبة، بَرِّيةً لأنّها من جانبِ البرِّ مجلوبة، تُعَدُّ كوْنيّةً عند مَن يعقِلُ ويُحصِّل، كَوْثَريّةً لأنّ ماءها إلى الكوثرِ يوصِل، وكيف لا ومِسياله (1) إلى شَطرِ الإيمان وسيلة، وغَرفاتُه للغُرّةِ والتَحْجيل مطيلة، والنظرُ إليه كاستعمالِه عبادة، وخروجُ الخطايا معَ آخِر قطرةٍ فضيلةٌ من الخبَرِ مستفادة، فما أعظمَ مِنّةَ جالبِه، وأجَلَّ قَدْرَ هِبتِه من مواهبِه، وأحراهُ بأن يكونَ له من ثواب المتطهِّرينَ واللهُ يحبُّهم، وفي حِزبِه هو حِزبُهم ما يَرفَعُه إلى الدّرجاتِ العُلى، ويُزَيِّنُه من شَرَفِ الذِّكر الحُلى، ويَجزيه عن كلِّ كبِدٍ رَطْبة سَقاها، ومشقّة صعبةٍ وَقَاها، بكلِّ صعبةِ أجرًا يقودُ إليه منه أفضلَ إلف، ويضاعفُه إلى مئة ألفِ ضِعف، بل يتعدَّدُ بتعدُّد وارديهِ على الأنام، ومشاهديه معَ الأيام والأعوام، {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261]، وينابيعُ جُودِه لا يَغيظُها الصّباحُ والمساء (2).
وقطعةٌ من رسالة أجاب بها أبا العباس ابنَ أُميّةَ وقد أعلَمَه باستيلاءِ الروم قصَمَهم اللهُ على بَلَنْسِيَةَ رجَعَها الله (3):
بالله، أيَّ نحوٍ ننحو، وسطورٍ نُثبتُ أو نمحو، وقد حُذِف الأصلُ والزائد، وذهبتِ الصِّلةُ والعائد، وبابُ التعجُّب طال، وحالُ اليأس لا تخشَى الانتقال، وذهَبَت علامةُ الرفع، وفُقِدت سلامةُ الجمع، والمعتَلُّ أعدى الصّحيح، والمُثلَّثُ أردى الفصيح، وامتَنعتِ العُجْمةُ من الصَّرف، وأمِنتْ زيادتُها من الحذف، ومالت قواعدُ المِلّة، وصِرنا إلى جَمْع القلة؟
(1) في رفع الحجب: "ومسيله".
(2)
انظر رسالة ابن الأبار في الموضوع نفسه في أزهار الرياض 3/ 211 كما قصر حازم قسمًا من مقصورته على الإشادة به.
(3)
وردت في رسائله: 205 (مخطوط)، والروض المعطار (50)، والإحاطة 1/ 176 وغيرها.
وفَصَلَ من رحلتِه (1) معَ الرّشيد (2) أبي محمد عبد الواحد ابن المأمونِ أبي العُلَى إدريسَ ابن المنصورِ أبي يوسُفَ يعقوبَ ابن الأمير أبي يعقوبَ يوسُفَ ابن الأمير أبي محمدٍ عبد المُؤْمن بن عليًّ وقد خَرَجَ معَه من سَلا (3) إلى حَضرتِه مَرّاكُش، قال فيه يصفُ المصحف:
وبَرزَ الإمامُ بينَ يدَيْه الإمام (4)، وأمامَه النُّورُ الذي يُضيءُ به الوراءُ والأمام، حبلٌ اعتَصمَ به المعتصمون، وحُجّةٌ انقطَعَ بها قومٌ خَصِمُون (5)، وذخيرةُ الخلائف، وبقيّةُ العهدِ السالف، عاصَرَ الصّحابة، وعاشَرَ جِيلَهمُ الطيِّبَ بطابة (6)، وباشَرتْهُ أيدٍ جمَعتِ التنزيل، وأخذتْه عن الرسُول عن جِبريل، فالقارئُ فيه للكتاب المنزَّل، يحُلُّ محلَّ آخِذِه عن الصَدْر الأوّل (7)، قد شهِدَ مع الشهيد الدار، وكان معَه يومَ دار ما دار، فرأى ما نال نائلة (8)، وتوسَّط تلك المواقفَ الهائلة، فهُو يصنَعُ الخُشوعَ لمن كان متصنِّعًا، ويَصدَعُ القلوبَ وإن كان ذلك منها مُتَمنِّعًا، {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا} [الحشر: 21]، حَفِظَتْ (9) صَدَفَةُ الوجودِ لآلئَه، وكان الاعتناءُ الرّبّانيُّ كالئَه، إلى (10) أنْ بَلَغَ محِلَّه، وعقَدَ معَ آلِ القرآن إلَّه، فأخَذوه بقوّة، وجَلَوا منه أشرفَ (11) عَرُوسٍ مَجْلُوّه، فهُو عندَهم
(1) توجد فصول من هذه الرحلة في رسائله: 180 وما بعدها (مخطوط الرباط رقم 233 ك)، وانظر تحليلًا لها في كتاب الدكتور محمد بن شريفة: أبو المطرف (120 - 121).
(2)
انظر أخبار الرشيد في البيان المغرب 3/ 282 وما بعدها (القسم الموحدي).
(3)
كان هذا الخروج سنة 637 هـ.
(4)
الأولى: الخليفة، والثانية: المصحف الإمام.
(5)
في الرسائل: حبل الله الذي به اعتصم المعتصمون، وحجته التي بها انقطع القوم الخصمون.
(6)
طابة لغة في طيبة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم.
(7)
في الرسائل: فالناظر فيه تابعي بهذا الاعتبار، وله من الشرف بعلو الرواية ما يدنيه من المختار.
(8)
هي نائلة زوجة الخليفة عثمان بن عفان التي شهدت استشهاده.
(9)
في الرسائل: "ولقد حفظت".
(10)
في الرسائل: "حتى".
(11)
في الرسائل: "أيمن".
{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]، ولا يلي أمرَه إلا الذين هم بأمرِه يَظهَرون، وسار يتقَدَّم أمامَ الخَلْق، وتتقدَّمُه رايةُ الحقّ، فهو على ما وَرَد في وَصْفِه {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42].
قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: استعمَل الجيلَ بمعنى القَرْن غَلَطًا، وإنّما هو بمعنى الأُمّة، فالعربُ جيلٌ والرُّومُ جيل، وكذلك الفُرْسُ والتُّركُ وغيرُهم. وقدِ استدعَى هذا الفصلُ تبيينَ أمرَيْنِ قد يُشكِلان على بعض مُطالعي هذا الكتاب؛ أحَدُهما: شأنُ هذا المصحف، والثاني: كيفيّةُ الترتيبِ الذي أشار إليه الشّيخ أبو المُطرِّف في هيئة هذا البُروز:
أمّا المصحفُ فإنّ أبا محمد عبدَ المؤمن بنَ عليّ وآلَه من بَنيه وأتْباعَهمِ كانوا يُصرِّحونَ بمُعتقَدهم فيه أنّه الإمامُ مصحفُ أميرِ المؤمنينَ عثمانَ بن عفّان رضي الله عنه، وعلى ذلك كان إطباقُ أهل الأندَلُس، فقد قال الرازي في "تاريخِه": وفي يوم الأحد لثمانٍ خَلَوْنَ من جُمادى الآخِرة سنة أربع وخمسينَ وثلاث مئة احتُملَ المصحفُ المرَتَّبُ في جامع قُرْطُبةَ لقراءةِ الإمام فيه صَبيحةَ كلِّ يوم بعدَ صلاة الصّبح، وهو مصحفُ أميرِ المؤمنين عثمانَ بن عفّان رضي الله عنه. وممّا خَطَّه بيمينِه إلى دار صاحب الصّلاة محمدِ بن يحيى ابن الخَرّاز (1) عن عهدِ أميرِ المؤمنين أبقاه اللهُ احتراسًا به وتحَفِّيًا عند فَتْح الحَنايا التي يُفضي منها إلى موضع الزِّيادة التي زادها أعزَّه اللهُ في الجامع، وكان فتَحَها في هذا التاريخ.
وقد ذكَرَ التأريخيُّ الحافظُ الحافلُ أبو مَرْوانَ حَيّانُ بن خَلَف بن حَيّان في كتابِه "المقتبِس"[كلامًا](2) نمَّقَه بحُسن عبارته المعهود من كلام الرازي في ذكْرِه نقَلْتُه من خطِّ الراوِيهَ أبي القاسمِ ابن بَشْكُوال، وهو: ولمّا احتيجَ في هذا الوقت إلى خَرْق سُورِ القِبلة المقدَّمة لهذه البِنْية الحكميّة لاتّصال قِطَع بُنَى المسجدِ بعضها ببعض واتّساقِها، احتُملَ المصحفُ المدعوُّ بالإمام المُختزَن كان بمقصورةِ
(1) ترجمته في تاريخ ابن الفرضي (1323) وفيه: وولي الصلاة بقرطبة.
(2)
زيادة متعينة.
هذا الجامع المرَتَّب لقراءة إمام الفريضة فيه كلَّ يوم عندَ فَراغِه من صلاة الصُّبح، وهو مصحفُ أمير المؤمنينَ عثمانَ بن عفّان رضي الله عنه، خَطَّه بيَمينِه، وله عندَ الأندَلُس شأنٌ عظيمٌ، واحتفاءٌ شديد، أمَرَ الخليفةُ من أجْلِ ذلك باحتمالِه إلى دارِ صاحب الصّلاة الثِّقةِ المأمونِ محمدِ بن يحيى بن عبد العزيز المدعُوِّ بابن الخَرّاز وإخزانِه لدَيْه، احتراسًا به وتحفُّظًا بمكانِه، إلى أن ينقضيَ أمرُ القِبلةِ (1) الجديدة وتتحصَّنَ بمقصورتها المُحْدَثة الموثَّقة فيعادَ المصحفُ إلى مكانِ إحرازِه بها، ففُعلَ ذلك بالمصحف، واحتَمَلَه مَشْيخةُ السَّدَنة إلى دار ابن الخَرّاز، وذلك يومَ الأحد لثمانٍ خَلَوْنَ من جُمادى الآخِرة من سنة أربع وخمسينَ وثلاث مئة. انتهى الفصلُ منقولًا من خطِّ الراوِية أبي القاسم ابن بَشْكُوال كما ذُكِر، وبخطِّه في الحاشيةِ اليُمنى محُاذيًا بأوّله آخِرَ هذا الفصل ما نَصّه: أُخرِجَ هذا المصحفُ عن قُرْطُبة وغُرّب عنها ليلةَ السبت الحاديةَ عشْرةَ من شوّالٍ سنةَ اثنتينِ وخمسينَ وخمس مئة وحُمِلَ صَبِيحةَ يوم السبت وجُوِّزَ إلى العُدْوة، أخَذ اللهُ مَن سَعَى في تغريبِه وخروجِه عن الحضرة أخْذَ آسِف ولا أمهَلَه بالذي لا إله إلا هو وعَجَّل بصَرْفِه إلى مكانِه بقُدرته لا يُعجِزُه شيءٌ جل جلاله وعَظُمَ سُلطانُه. انتهَى نصُّ هذه المُعلَّقة في الحاشية المنَبَّه عليها كما ذُكِر. ورحِم الله أبا القاسم ابنَ بَشْكُوال ونفَعَه بمقصده، فإنّما استأثَرَ بعِلق نَفِيس، واستكثَرَ من خيرِ جليس، وأفضل أنيس، وتأثَّر لانتقالِ موقوفٍ على محلِّه الأحقِّ به حبيس، فلذلك أتْبَعَ خبرَه عنه نفْثةَ مصدورٍ عن قلبٍ قَريح، ولَهْفَ موتور ذي فؤادٍ بمؤلِم هذا المُلِمّ جريح، ولو كوشفَ رحمه الله بحالِ قُرْطُبةَ من بلاد الأندَلُس وسواها، وانتهاكِ عبَدةِ الصّليبِ مَحُوطَ حِماها، واستيلائهم على ما اشتَملَتْ عليه من كثيرٍ من المصاحفِ غيرَ ذلك المصحفِ الكريم، وابتذالِهم ما عُنيَ أكابرُ العلماءِ بصيانتِه من ذخائرِ دواوينِ العلم على العهد القديم؛ لَسُرَّ بإخراجِه عن قُرْطُبة واحتمالِه، وأعان بالتحضيض نُصحًا له على انتقالِه، إنقاذًا له من أيدي المشركين،
(1) في الأصل: "الغلبة".
واستدامةً لبقائه في كَلاءةِ المسلمين، وكان إخراجُه في التاريخ الذي ذكَرَه الراويةُ أبو القاسم ابنُ بَشْكُوال في أيام أبي محمدٍ عبد المؤْمن بن عليٍّ وبأمرِه، وفي ذلك يقولُ الشاعرُ المُجيد أبو عبد الله محمدُ بن حُسَين بن حَبُوس الفاسيُّ (1) من قصيدةٍ يمدَحُ بها أبا محمد عبدَ المؤمن بنَ عليّ [سريع]:
سيَشكُرُ المصحفُ إكبابَكمْ
…
عليه إذْ أوجَدَه الفَقْدُ
أذكَرْتُم الأيامَ ما أغفَلَتْ
…
من بِرِّه إذ قَدُمَ العهدُ
مصحفُ ذي النُّورَيْن عثمانَ ما
…
كان لكمْ عن صوْنِه بُدُّ
ما اختارشيئًا مُؤْنسًا غيرَهُ
…
حين أتَى واقتَربَ الوعدُ
أوسَعْتُمُ الدّنيا اطِّراحًا وما
…
كان لكمْ إلا به وَجْدُ
يَحْنو عليه العَطْفُ منكمْ ولا
…
يَغُبُّه الإشفاقُ والوُدُّ
صبابةً منكمْ به لم تكنْ
…
تثيرُها جُمْلٌ ولا دَعْدُ
أحْبَبْتُم المولى فأحْبَبْتُمُ
…
ما خَطَّه من وَحْيِه العَبْدُ
ألبَستُموهُ حِليةً لم يكنْ
…
يسمَحُ للكفِّ بها الزَّنْدُ
لم تدركِ الأعرابُ ما كُنْهَها
…
ولا ادّعت (2) إدراكَها السُّغْدُ (3)
لأسفَرَتْ سفرتُكمْ هذه
…
عن واضحاتٍ نُجْحُها نَقْدُ
(1) ترجمة ابن حبوس في التكملة (1725) وترجم له المؤلف في السفر الثامن (الترجمة 85 وما بعدها)، وقد نقلها عنه صاحب أعلام مراكش وأغمات 3/ 26 - 31 (4/ 110)، وصدّر به أبو صفوان ابن إدريس كتابه زاد المسافر (43) وهو مذكور في المعجب (282 - 284)، وترجمه ابن القطان في نظم الجمان (134)، والذهبي في تاريخ الإسلام 12/ 443 (ط. 1963 م)، وانظر العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين للأستاذ محمد المنوني (168)، ولم تقع الإشارة من قبل إلى القصيدتين الواردتين عند المؤلف هذا.
(2)
في الأصل: "اد".
(3)
في الأصل: "السعد".
تكفَّلَ السَّعدُ بمقصودِكم
…
وبانتِ الوِجهةُ والقصدُ
عنايةُ الله بكمْ جَمّةٌ
…
له عليها الشكرُ والحمدُ
وقال فيه أخرى، وهي عندي من غُرَرِ قصائده (1) [سريع]:
فعلُ امرِئٍ دَلَّ على عَقْلِهِ
…
والفَرْعُ منسوبٌ إلى أصلِهِ
إنّ الذي يَكرُمُ في جِنسِهِ
…
هو الذي يَكرُمُ في فصْلِهِ
والمرءُ لا يُشكَرُ عن نفْسِه (2)
…
وإنّما يُشكَرُ من فضلِهِ (3)
والخيرُ والشرُّ، لهذا وذا
…
أهلٌ، فَرَجِّ الخيرَ من أهلِهِ
لا يَترُكُ اللازمُ ملزومَهُ
…
والشخصُ لا ينفَكُّ عن ظلِّهِ
وكلُّ مفطورٍ (4) على شيمةٍ
…
لا بدَّ أن تظهَرَ في فعلِهِ
لا يُدركُ الطَّرفُ على شَدِّهِ
…
ما يُدركُ الطَّرفُ على رَسلِهِ
والناسُ أشتاتٌ وفي الطَّبع ما
…
قد يعطِفُ الشّكلَ إلى شكلِهِ
إضافةُ السُّفْل إلى عُلوِهِ
…
إضافةُ العُلوِ إلى سُفْلِهِ
ما غايةُ العالِم في علمِهِ
…
كغايةِ الجاهلِ في جهلِهِ
(1) أورد ابن فرحون في الديباج ثمانية أبيات من هذه القصيدة، ونسبها إلى أبي المطرف أحمد ابن عميرة المخزومي، وذلك وهم ربما أوقعه فيه قلة التروي عند قراءة هذه الترجمة ومنها نقل، فقد فهم -وهذا يحدث من سرعة القراءة- أن مرجع الضمير في قول المؤلف: وقال فيه أخرى. . . يعود على المترجم ابن عميرة مع أن قوله: "فيه أخرى" يبين أن الضمير يعود على أقرب مذكور وهو ابن حبوس صاحب القصيدة الأولى في الموضوع نفسه، قاله محمد بن شريفة، وقال: وقد تابعت ابن فرحون في هذا الوهم في كتابي: أبو المطرف 241 - 242، فليصحح هناك، وانظر الديباج 1/ 206 - 207.
(2)
في الديباج: "بغيه"، ولكنها وردت في نسخة أخرى منه كما هنا، وهو الصواب.
(3)
في الديباج: "عن عقله"، ولكنها وردت في نسخة أخرى منه كما هنا، فهو الصواب.
(4)
في الديباج: "مقصور".
ولا الذي يُشكَرُ عن بَذْلِه
…
مثلُ الذي يُشكَرُ عن بُخلِهِ
عَمْري لقد حمَلَ أمرَ الوَرى
…
مضْطلعٌ بالعِبءِ من حِمْلِهِ
مَنْ لم تزَلْ أنواءُ أفكارِهِ
…
تَهْمي على المُمحِلِ في مَحْلِهِ
ذاك سِراجُ الكلِّ بل شمسُهُ
…
بل عقْلُهُ الفَعّالُ في عَقْلِهِ
تُضيءُ أنوارُ النُّهى حولَهُ
…
في عَقْدِه المبرَم أو حَلِّه
وإنما الفضلُ إلى وقتِه
…
فيقدُم المِثلُ على مثلِه
هذا كتابُ الله جَلَّ اسمُهُ
…
بخطِّ عثمان وفي دَخْلِهِ (1)
خيرُ إمام آخِرٌ جاءه
…
خيرُ إمام كان من قَبْلِهِ
إليه يُنمَى كلُّ [ما] مصحفٍ
…
تأنَّقَ العالَمُ في نَقْلِه
أجرى ابنُ عفانَ إلى نَصْرِهِ
…
وخَصلُكمْ زادَ على خَصْلِهِ (2)
أنيسُه في وَحْشةِ الدارِ إذ
…
تواطَأَ القتلُ إلى قتلِه
رمَى به الخابطُ في غَيِّهِ
…
وضَمَّه الحاطبُ في حَبْلِهِ
وصار من أوكَدِ شُغل امرئ
…
في تَرْكِه الإعراضُ عن شُغْلِهِ
صيانةُ الشّيخ له أوجَبَتْ
…
لَجاجةَ الباغينَ في بَذْلِه
حتى أتى الأمّةَ مَن نَبَّهتْ
…
شهادةُ الرُّسْلِ على عَدْلِه
فأيقَظَ الأجفانَ من نَوْمةٍ
…
صَحا بها المخبُولُ من خَبْلِهِ
عرَّفَ ما يُجهَلُ من حقّهِ
…
وضَمَّ ما فُرِّقَ من شَمْلِهِ
ومال في تعظيمِهِ مَيْلةً
…
أعادت الفَرْعَ إلى أصلِهِ
ألبَسَه من رائقِ الحُلي ما
…
يعجِزُ جِيدُ الدّهرِ عن حَمْلِهِ
(1) هذا البيت والبيتان بعده موجودان في كتاب المسند لابن مرزوق، ص 457.
(2)
قال ابن مرزوق: إن الشاعر أساء الأدب في هذا البيت.
وزاد ما أبطن من بِرِّهِ
…
على الذي أظهَرَ من حَفْلِهِ
نَشْزٌ يُضيءُ النّجمُ في عُلوِهِ
…
ونيِّراتُ الشُّهبِ في سُفْلِهِ
فمِن حصى الياقوتِ حَصْباؤه
…
وتِبْرُه يُغنيه عن رَمْلِه
كأنّما الأصباغُ فيه وقد
…
تألّفَ الشّكلُ إلى شكلِهِ
زخارفُ النُّوارِ في روضةٍ
…
هراقَ فيها اللَّيلُ من طَلِّهِ
فاضَ أَتِيُّ الحُسن في كُلِّهِ
…
فكلُّه يَعجَبُ من كلِّهِ
لم ترَ عينٌ قطُّ شِبْهًا لهُ
…
ولم تَصِخْ أُذْنٌ إلى مِثْلِه
أذاعتِ الحِكمةُ سِرَّ النُّهى
…
فيه ومات الخَبْطُ في جهلِهِ
تقَيَّدَ اللَّحظُ به فهْو لا
…
يَصرِفُه الناظرُ عن نُبلِهِ
ذلك من فضل إمام الهدى
…
وكلُّنا نُعزَى إلى فضلِهِ
كأنّما العُمّالُ آلاتُه
…
تفعلُ ما يَصدُرُ عن فعلِهِ
جهابذُ الآفاقِ قد بَلَّدوا
…
في فصلِ ما يَفصِلُ أو وَصْلِهِ
وكلُّهمْ برَّزَ في سَبْقِهِ
…
وأحرَزَ الخَصْلَ على مَهْلِهِ
ما خَطْوُ من يَعْدو به سابحٌ
…
كخطوِ مَن يعدو على رِجْلِهِ
وليس من يَغرِفُ من نهرِهِ
…
مثلَ الذي يَغرِفُ من سَجْلِهِ
ولا الذي يمرَحُ مُرخًى لهُ
…
مثلُ الذي يمرَحُ في شكلِهِ
ولا حسامٌ نال منه الصَّدا
…
مثلُ الذي بُولغَ في صَقْلِهِ
التَمرُ معزوٌّ إلى نَخْلِه
…
والشّهدُ منسوبٌ إلى نَحْلِه
والقُدسُ محفوظٌ على أهلِهِ
…
وأنتمُ تاللهِ من أهلِه
عجائبُ العالَم مختصّةٌ
…
بأولياءِ الله أو رُسْلِهِ
قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: أثبتُّ هذه القصيدةَ الفريدةَ بأسرِها استجادةً لها واستغرابًا لِما حوَتْه من أنواع الحِكَم والأمثالِ السائرة، وفي نحوِ ذلك يقولُ الأديبُ الحسيب أبو جعفر بنُ عبد الرحمن الوَقَّشِي من قصيدةٍ يهنِّئُ بها الأميرَ أبا يعقوبَ بن عبد المؤمن بعيدِ الفِطر [الطويل]:
ومصحفَ عثمانَ بنِ عفّانَ أهمَلَتْ
…
ملوكُ الوَرى من حقِّه كلَّ لازمِ
فأشفَقْتَ من جهلِ الجميع بشأنِهِ
…
وأهّلتَهُ صَوْنًا له بِرَّ عالمِ
وألبستَهُ تِبْرًا يَرُوقُ مرصَّعًا
…
وقد كان في بُرْدٍ من الجِلدِ قاتمِ
قال أبو جعفر: لمّا انتهيتُ بالإنشاد إلى هذا البيت قال الأميرُ أبو يعقوب: مَنْ أعلَمَك بهذا؟ والله لقد كان كما قلت.
رجَعْنا إلى بقيّة الأبيات [الطويل]:
وأبرزتَهُ للعالَمينَ ونُورُهُ
…
يَفيضُ عليه من جواهرِ ناظمِ
تَكنَّفَه منهُنَّ نُخبةُ معدِنٍ
…
تُجاورُها فيه يتيمةُ عائمِ
فجاء يَرُوعُ الناظرينَ بحُسنِهِ
…
ويُخجِلُ أجيادَ الحِسَان الكرائمِ
وداخلَه نورٌ من الحقِّ ساطعٌ
…
يقودُ إلى حظٍّ من الخُلدِ دائمِ
فأصبح ذا النُّورينِ كاسم وَليِّهِ
…
وخيرٌ له في بَدْئه والخواتمِ
فليت أبا عَمْرٍو (1) يُعاينُ شكلَهُ
…
فيَشكُرَ أفعالَ الحَفِيِّ المُكارِمِ
وفي مثل هذا الغَرَض يقولُ أبو عبد الله بن عبد العزيز بن عَيّاش (2) ويصِفُ تَحْليةَ المنصورِ أبي يوسُفَ يعقوبَ بن أبي يعقوبَ المذكورِ إيّاه أيضًا [الطويل]:
(1) يقصد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
(2)
له ترجمة في التكملة (1622)، والسفر السادس من هذا الكتاب (الترجمة 1034)، وزاد المسافر (94)، والمعجب (338)(ط. 1963 م).
ونُفِّلْتَه من كلِّ مَلْكٍ ذخيرةً
…
كأنَّهُمُ كانوا برَسْمِ مكاسِبِهْ
فإنْ ورِثَ الأملاكَ شرقًا ومغرِبًا
…
فكم قدْ أخلُّوا جاهلينَ بواجِبِهْ
وألْبَسْتَهُ الياقوتَ والدُّرَّ حِلْيةً
…
وغيرُك قد رَوّاهُ من دمِ صاحِبِهْ (1)
وقد أكثَرَ شعراءُ دولةِ أبي محمدٍ عبد المؤمن وبَنيه بعدَه من هذا المعنى، وتواطَأَتْ أقوالهُم بناءً على معتَقداتِهم أنه مصحفُ عثمانَ بن عفّان الذي كان بين يدَيْه حين استُشهِد رضي الله عنه، ويَذكُرونَ أنّ دَمَه كان منه بموضعَيْنِ: أحَدُهما: قولُه سبحانَه: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 137]، والثاني: قولُه تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} [الأعراف: 77]. وهذا كما تراه ظاهرُ التصنُّع، وهو -واللهُ أعلم- غَلَطٌ بيّن تَبِع فيه بعضُ الناس بعضًا، فإن المتقرِّرَ من شأنِ مصحفِ عثمانَ بن عفّان أنه ضاع بالمدينة في بعضِ الفِتن الطارئة عليها، ولكنّ أبا بكرٍ محمدَ بن أحمد بن يعقوبَ بن شَيْبةَ بن الصَّلْت بن عُصفُورِ بن شَدّاد بن هَمْيَانَ السَّدُوسيَّ مولاهم، قال: رأيتُ بخطِّ جَدِّي يعقوبَ بما أجازه لي، ثم حدَّثني به أبي أحمدُ بن يعقوبَ بَعْدُ عنه: حدّثني أبي، قال: حدّثني أبي: رأيتُ الإمامَ مصحفَ عثمانَ بن عفّان رضي الله عنه وأرضاه في شهر ربيع الأوّل سنةَ ثلاثٍ وعشرينَ ومئتَيْن قد بَعَثَ به أبو إسحاقَ أميرُ المؤمنين وهو المُعتصم بالله ابنُ أميرِ المؤمنينَ أبي جعفرٍ هارونَ الرَّشيد لتُجَدَّدَ دَفّتاهُ ويُحَلَّى، فشَبَرتُ طولَ المصحف فإذا هو شِبران وأربعُ أصابع مفرَّقة، وعدَدْتُ سطورَ بعض وَرَق المصحف فإذا في الوَرَق ثمانيةٌ وعشرونَ سطرًا، ورأيتُ أثَرَ دمٍ فيه كثيرًا في أوراقٍ من المصحف كثيرة، بعضُ الوَرَق قَدْرُ نصفِ الوَرَقة وبعضٌ قَدْرَ الثُّلُث، وفي بعض الوَرَق أقلُّ وأكثر، وعلى أطرافِ كثير من الوَرَق، ورأيتُ عِظَمَ الدّمِ نفسِه في سُورة (والنجم) في أول الوَرَقة كأنّه دمٌ عَبِيط أسودُ على {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا
(1) الأبيات في التكملة، وأعادها المؤلف في ترجمته، وهي كذلك في مستفاد الرحلة وفي المسند الصحيح الحسن لابن مرزوق (456 - 462).
تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23]، ثم بعدَه أيضًا، ورأيتُ أثَرَ نُقطةٍ من دم على هذا الحرف:{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 137]، فسألتُ الذي رأيتُ المصحفَ عندَه: ما لهذه دارِسةً؟ فقال: ممّا يمسَحُ الناسُ أيديَهم بها، ورأيتُ أثَرَ مَسحِ الأيدي بيِّنًا وأثَرُ النُّقطة بيِّنٌ. انتهى المقصودُ من الواقع في صِفة مصحفِ عثمانَ بن عفّان رضي الله عنه عند أبي بكرٍ محمد بن أحمد بن يعقوبَ بن شَيْبةَ المذكور، وقد ذَكَرَ -كما سمِعتَ- رؤيتَه مصحفَ عثمانَ بن عفّان وآثارَ الدّمِ فيه معيَّنةَ المواضع ومُبهَمتَها وتاريخَ رؤيته ذلك، ولا يُمكنُ أن يكونَ هذا الذي كان بالأندَلُس؛ لأنّه لم يطرَأْ على بني العبّاس ما يُخرِجُه عن أيديهم وُيصيِّرُه إلى الأندَلُس، ثم إنّ أثَرَ الدمِ في هذا الذي كان بالأندَلُس كان في الموضعَيْنِ المذكورين لا غيرُ، بخلافِ ما ذَكَرَ ابنُ شَيْبةَ. والذي يَظهَرُ لي -واللهُ أعلم- أنّ هذا المصحفَ الذي كان بالأندَلُس هو أحدُ المصاحفِ الأربعة التي بعَثَ بها عثمانُ بن عفّان رضي الله عنه إلى الأمصار: مكةَ، والبصرة، والكوفة، والشّام، فإنْ يكنْ أحدُها فلعلّه الشّاميُّ استَصحَبَه الأميرُ أبو المُطرِّف عبدُ الرحمنِ الداخِلُ إلى الأندَلُس ابنُ مُعاويةَ بن هشام بن عبد الملِك بن مَرْوان بن الحَكَم بن أبي العاص بن أميّةَ بن عَبْدِ شَمْس، وكان دخولُه إلى الأندَلُس غُرّةَ ربيع الأوّلى سنةَ ثمان وثلاثينَ ومئة، أو يكونُ ممّا بَعَثَت إليه أُختُه به من الذّخائرِ والتُّحَفِ والهدايا التي كانت تُوالي توجيهَها إليه من الشام، أو يكونُ ممّا اجتُلِبَ إلى غيرِه من ذُرِّيتِه، واللهُ أعلم. ويؤيِّدُ ما ذهبتُ إليه من ذلك أنّ مقدارَ حَجْم الذي وَصَفَه أبو بكر بنُ شَيْبةَ حسبَما تقَدَّم إيرادُه مخالفٌ مقدارَ حَجْم الذي كان بالأندَلُس، فقد وَصَفَ لي جماعةٌ ممن شاهدوه وباشَروه منهم شيخانا أبو الحَسَن الرُّعَيْنيُّ وأبو زكريّا يحيى بنُ أحمد بن عَتِيق رحمَهما الله وغيرُهما فاتَّفَقوا على أنّ طُولَه دونَ الشِّبر، وأن أسطارَه دون العشَرة، فاقتضَى ذلك أنّ أوراقَه أكثرُ من أوراقِ الذي وَصَفَ أبو بكر بنُ شَيْبة، وقد ذَكَرَ لي واصِفوهُ المذكورونَ أنه كان ضخمًا لكثرةِ وَرَقه، وذَكَرَ لي بعضُهم أنه عايَنَ المعوِّذتَيْن في صفحتَيْنِ منه كلُّ واحدةٍ منهما في صفحة، ولمّا أجازَهُ أبو محمدٍ عبدُ المؤمن إلى بَرِّ
العُدوة احتفلَ في الاعتناء بكُسْوتِه وأبدَلَها -وكانت من جِلد - بألواح مصَفَّحة بصحائفِ الذهب، وقد نَظَمَ في مواضيعَ منها لآلئَ نفيسةً وأحجارَ ياقوتٍ وزُمُرُّد من أرفع ما كان عندَه، ثم لم يزَلْ بَنُوه بعدَه يتَفنَّنُونَ في زيادةِ جليل الجواهرِ وفاخِر الأحجار على ما كان محُلًّى به حتّى استوعَبوا دَفَّتَيْه بذلك بما لا قيمةَ له ولا نظير، وكانوا أبدًا يُحضِرونَه في مجالسِهم في ليالي رمضانَ ويُباشِرونَه بالقراءةِ فيه ويُصفِّحونَ وَرَقَه بصفيحةِ ذهبٍ مستطيلة شِبهَ المِسْطَرة ويَستصحِبُونَه في أسفارِهم وحركاتِهم متبرِّكينَ به إلى أنِ احتَمَلَه معَه المعتضِدُ بالله (1) أبو الحَسَن عليٌّ ابن المأمون أبي العلاء إدريسَ ابن المنصور أبي يوسُفَ المذكور قبلُ على عادة سَلَفِه حين توَجَّه إلى تِلِمْسينَ آخرَ سنةِ خمسٍ وأربعينَ وست مئة فقُتلَ بمقرُبة من تِلِمْسينَ في آخرِ صَفَر سنةَ ستٍّ بعدَها (2) وقَدِمَ مكانَه ابنُه أبو إسحاقَ إبراهيمُ ثم قُتلَ ثانيَ يوم تقديمِه، واختَلَّ الجيشُ ووَقَعَ النَّهبُ في خزائنِ السلطان واستولَتْ أيدي العرَب وغيرِهم على جميع مَن كان بالعسكرِ ممن لا قُدرةَ له على مُدافعةٍ عن نفسِه، فكان ممّا نُهِبَ
(1) أوسع مصدر في أخبار المعتضد بالله هذا هو البيان المغرب 3/ 358 وما بعدها (القسم الموحدي).
(2)
انظر المصدر السابق، ص 385 وما بعدها، وقد جاء في "المسند" لابن مرزوق ما يلي: "ورأيتُ بخط المحدث التاريخي أبي القاسم التجيبي فيما ذيّله على تكملة ابن عبد الملك في هذا الموضوع قد كتب بحذاء ذكر المعتضد ما نصه: قرأت بخط أي علي بن منصور الجنب قال: سمعت الكاتب أبا الحسن الرعيني يقول: لما أراد المعتضد التوجه في الحركة التي قُتل فيها اجتمع إليه أهله وأولاده للوداع فدعوا له بأن يرده الله إليهم سالمًا فكان من قوله لهم: والله لا رأيتموني هنا أبدًا. قال: وأعجبُ من ذا أن علي بن عبد الله المغيلي كان يقول: وصل إليّ بربري من أهل أزمور في الحركة التي مات فيها المعتضد برقعة قديمة فيها مكتوب بخط قديم: يَقتُلُ الملك الأحمر البربري الأشتر، فكان الذي خرج إليه من الحصن الذي تحصَّن فيه يَغْمراسن وهو تامزردكت رجلٌ أشتر. قال: وكان يقال: من النوادر موت المعتضد وحده وكان جيشه نحو مئة وعشرين ألفًا. (المسند الصحيح الحسن 462 - 463).
قلنا: السفر الأول الموجود ليس من النسخة المذيلة للتجيبي ولهذا لا نجد فيها هذا التذييل، وقد وصل إلينا من هذه النسخة السفر الخامس والسفر السادس، وقد كانت بيد ابن مرزوق الذي ينقل عنها في المسند والمناقب المرزوقية.
ذلك الوقتَ هذا المصحفُ الكريم، ولم يَعلَمْ مُنتهِبُه قَدْرًا له ولا قيمة، فدخَلَ به تِلِمْسينَ وعرَضَه على البيع، فأخبَرني الشَيخُ أبو الحَسَن الرُّعَيْنيُّ رحمه الله أنه رآه بيدِ سِممسارٍ يُنادي عليه بسُوق الكتُب بتِلِمْسينَ بسبعة عشَرَ درهمًا وقد ضاعت منه أوراقٌ، فأُنهِيَ خبَرُه إلى صاحب تِلِمْسينَ حينئذٍ أبي يحيى يَغمراسن بن زَيّانَ الزَّناتيِّ من بني عبد الواد (1)، وهو الذي قصَدَه المُعتضدُ أبو الحَسَن المذكورُ للدُّعاءِ له بالدخولِ في طاعتِه، فحين عَلِم به انتَزَعَه من يدِ الذي ألفاه عنده، وأمَرَ بصَوْنِه والاحتياطِ عليه، ولم يزَلْ بعدُ يطمَعُ به المرتضَى (2) من بني عبد المؤمن، والمُستنصِرُ من بني أبي حَفْص صاحبُ إفْريقيّةَ (3)، والغالبُ بالله أبو عبد الله بن يوسُفَ أميرُ الأندَلُس المدعوُّ بابن الأحمر (4)، فلا يَحْلُونَ منه بطائل حتى تُوُفُّوا جميعًا في حياة أبي يحيى المذكور، فأورَثَه بَنِيه، فهو عندَهم إلى هذا التاريخ، وهو سنةُ اثنتين وسبع مئة، فهذه نُبذةٌ من التعريف بشأنِ هذا المصحف (5).
فأمّا الترتيبُ الذي أشار إليه الشّيخُ أبو المُطرِّف بن عَمِيرةَ: فهو أنّ أُمراءَ بني عبد المؤمن كانوا إذا تحرَّكوا لغَزْوٍ أو سَفَر جَعَلوا أمامَهم بمقرُبةٍ منهم رايةً كبيرةً بيضاءَ يُعتامُ لها أتمُّ العِصِيِّ طولًا لتُرشِدَ إلى موضع السُّلطان من العسكرِ فيَهتديَ إليه من أراد قصْدَه -وهي التي عبَّر عنها أبو المُطرّف بقولِه: وأمامَهُ النُّور، وبقولِه: تتقدَّمُه رايةُ الحق، وبقوله: من بينِ يدَيْه- ويليها المصحفُ الكريم -وهو الذي عناه بقوله: بينَ يدَيْه الإمام- محمولًا على أضخم بُخْتيٍّ يوجَدُ وقد جُعِلَ في قُبّةِ حرير ارتفاعُها نحوُ عشَرةِ أشبار وعرضُ كلِّ وجه من وجوهِها الأربع
(1) ترجمته وأخباره في بغية الرواد 1/ 117 وما بعدها.
(2)
ترجمة المرتضى وأخباره في جذوة الاقتباس (284)، والبيان المغرب 3/ 389 وما بعدها، وفي غيرهما.
(3)
أخباره في تاريخ الدولتين (32)(ط. تونس 1966 م).
(4)
ترجمته في الإحاطة واللمحة البدرية (30).
(5)
انظر في هذا المصحف العثماني أيضًا: المعجب (326)(ط. القاهرة 1963 م).
نحوُ أربعةِ أشبار وبأعلاها جامورٌ (1) محُكَمُ الصَّنعة على نحوِ جَواميرِ الأخبية من أتقنِ ما أنت راءٍ جمالًا، وفي أعلى كلِّ رُكنٍ من أركان القُبة عُصَيّةٌ رُكِّب فيها سُنيِّنٌ مذَهَّبٌ وقد رُبِطت بها رايةُ حرير لا تزال تخفُقُ عَذَباتُها بأقلِّ ريح ولو لم يكنْ إلا بهزِّ الجَمَل إيّاها في سَيْره، ويسَمَّى جملَ المُصحف، ويتبَعُه بَغْلٌ من أفْرَهِ البِغال يحمِلُ رَبْعةً كبيرة مُربَّعةَ الشكل في ارتفاع ذراع أو نحوها، وقد غُشِّيت كذلك بحرير وضُمِّنتِ "الموطَّأ" لمالكِ وصحيحَي البخاريِّ ومسلم وسُنَنَيْ أبي داودَ والنَّسائي وجامعَ أبي عيسى الترمذي، وكان عوَامُّ ذلك الوقت يقولونَ فيه: بَغْلُ المصحف، وهو غَلَطٌ منهم، ويليه الأميرُ في صَدْرِ الجيش والعساكر عن يمينِه وشِماله وخَلْفِه -وهو الذي عبَّر عنه أوّلًا بقولِه: وَبَرَزَ الإمام، وآخِرًا بقولِه: أمام الخَلْق، وبقولِه: ولا مِن خَلْفِه. فهذه هيئةُ الترتيب، وقد شاهدتُه مرّاتٍ في بروز المُعتضِد والمرتضَى المذكورينِ وأبي العلاء إدريسَ بن أبي عبد الله بن محمد بن أبي حَفْص عُمرَ بن عبد المؤمن آخِرِ أُمرائهمُ المعتَبرينَ عندَهم، وبقَتْلِه على يدِ الأمير أبي يوسفَ يعقوبَ بن عبد الحقِّ الزَّنَاتيِّ المَرِينيِّ انقَرَضَت دولةُ بني عبد المؤمن، فسبحانَ مَن لا يَبِيدُ مُلكُه ولا يفنَى سُلطانُه جل جلاله وتعاظَمَ شأنُه. وكأنّ لسانَ حال هذه الهيئة يقولُ: إنّ هذه الرايةَ مُنذِرةٌ بإطلالِ صاحبِها على مقصودِه، وأنه داعٍ إلى ما يقتضيه الكتابُ والسُّنة، فمَن أطاعَه كان مُسلمًا له ومن عَصَاه حارَبَه بهذا الجيش الذي هو من حِزبِه.
قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: قد أطَلْنا في هذا الفصل إطالةً أخرجَتْنا عن المقصود، ولكنّا أودَعْناه فوائدَ منوَّعةً يعِزُّ وجودُها، وقد آنَ لنا أن نرجعَ إلى ذكْرِ أبي المُطرِّف ابن عَمِيرةَ، فنقول: وله فصولٌ وَعْظيّةٌ (2) على طريقةِ الإمام أبي الفَرَج ابن الجَوْزيِّ، منها قولُه: إذا عَرَجت شياطينُ الهوى إلى سماءِ العقل وجدتَها
(1) الجامور: الرأس، والمراد هنا رأس القبة.
(2)
راجع تحليلاً لمواعظ ابن عميرة في كتاب الدكتور محمد بن شريفة: أبو المطرف أحمد ابن عميرة المخزومي (299).
مليئةً {حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن: 8]، تطلُبُ غِرّةَ النفْس والرقيبُ قريبٌ {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} [الصافات: 10]، وتنصِبُ لها حِبالةَ {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} [النساء: 120]، فيمنَعُها مِن أن تقطعَ فيها حاجزُ {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء: 65]: إنّها لَتُسافرُ في عالَم الكسْبِ فتعترضُها في تلك الفَلاة وتَختِلُها عند الغَفَلات، والحارسُ يُنادي: يا خيلَ الله اركَبي.
ومنها، في قصّة بلالٍ وأُميّةَ بن خَلَف بن وَهْب بن حُذافةَ بن جُمَحَ واسمُه تَيْمُ بن عَمْرو بن هصيص بن كَعْب بن لُؤيِّ بن غالبِ بن فِهْرِ بن مالِك بن النَّضْر بن كِنَانةَ بن خُزَيْمةَ بن مُدرِكةَ بن إلياسَ بن مُضَرَ بن نِزار بن معَدِّ بن عدنان، وكان ممّن يُعذِّبُ بلالًا على الإسلام: المرءُ بضره لا بغيرِه، وبفضيلتِه لا بفصيلتِه، تَقْوى الرجُل سببٌ تنتهي عندَه الأسباب، ونسَبٌ تَهونُ معَه الأنساب، دُعِي إلى الإسلام أخو جُمَح فجَمَحَ وما جَنَح، وكان في رِقِّه بلالٌ فرَقَّ قلبُ الرَّقيق، وصَدَقَ عتِيقُ الصِّدِّيق، يومَ الفتح تبيَّنَ خَطَلُ ابنِ أخطل وقد عاذ بمكانِه، ونَعِمَ بالُ بلال حين غاظ بعضَ السامعينَ بأذانِه، ما ضَرَّ الحبَشيَّ لونُه وإنِ ازدَرَوْه، ولا نفَعَ القُرَشيَّ كونُه أحدَ من داروا حولَه وداروه، ما أقرَضَه بمكّةَ سلًّا لسيفِ العُدوان وانتَضَاه، فعلى القَليبِ قَضاهُ إيّاه، وخِيارُكم أحسَنكم قضاءً، لم يَرْعَ له ولايةَ الحقّ، فأعرَضَ عن حُرمة أسرِه المستحَقّ، أغرى به سُفهاءَ مكّةَ فحشَرَ عليه سَراةَ يَثْرِب، أقعَدَه في الرَّمضاءِ حتى حَمِيَ فضَرَبَه بسيوفِ الأنصار حتى بَرَد [الكامل]:
صاحِبْ رجاءَ غدٍ عسى الأيامُ أنْ
…
يَرجِعْنَ قومًا كالذي قد كانوا
واستعمِل البُقْيا حَذارِ جنايةً
…
تُجزَى بها فكما تَدِينُ تُدانُ
ضَلَّ امرُؤٌ جعَلَ الإساءةَ عادةً
…
ويَرى المَثُوبةَ أنها إحسانُ
وله مجالسُ وَعْظيّةٌ كان يصنَعُها للواعظِ الفاضل الصالح أبي محمد بن عليِّ بن أبي خُرْص، رحمه الله، ومِن قِبَلِه استفَدْناها، منها في قصّة آدمَ وإهباطِه من الجنّة إلى الأرض: رَوى الضّحّاكُ عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: بَيْنا آدمُ
يَبكي بعدَ أن أُهبِطَ من الجنّة، جاء جِبريلُ عليه السلام فسَلَّمَ عليه، فبَكَى آدمُ حتى بَكى جِبريلُ لبكائه ثُم قال: يا آدمُ، ما هذا البكاء؟ قال: يا جِبريل، وكيف لا أبكي وقد حوَّلَني ربِّي من السماءِ إلى الأرض، ومن دارِ النعيم إلى دار البُؤْس؟ كان إذا رأى الملائكةَ ذَكَرَ الوَطَن فهاجَتْ حسَراتُه، ومتى تفكَّرَ فيما إليه نَزلَ سالت بالدّمِ عَبَراتُه، وكيف لا يتَجرَّعُ الأسفَ كلَّه، ومَن سجَدَ له بالأمسِ يرحَمُ اليومَ ذُلَّه؟! [الطويل]:
كفى حَزَنًا مثوايَ في أرضِ غُربةٍ
…
وقلبيْ بأُخرى مُستهامٌ متَيَّمُ
أقول لبُعدِ الدار: يا طُولَ شِقوتي
…
كأنّي بطِيب القُرب لم أكُ أنعَمُ
أُصانعُ لحْظَ العينِ عندَكَ خِيفةً
…
واكتُمُ ما بي فيك واللهُ أعلمُ
وألثُمُ عُلْويَّ الرِّياح إذا سَرَتْ
…
وما كنتُ لولا أنت للرِّيح ألثُمُ
ربيعيَ ذاك الوجهُ لو كان زائري
…
وأوّلُ عامي من هواهُ المحرَّمُ
وَيْحَ ابنِ آدم، أمَا يَذكُرُ قصّةَ أبيه، ويقيسُ يسيرَ جِنايتِه بعظيم ما يجنيه؟! زادَ عليه في المخالفة طُولًا وعَرْضًا، فليتَه أُعطيَ من ندامتِه ولو بعضًا، زلَّةٌ أهبَطتْه من جنّة المأوى، وأدنفَتْه حتى أعلى بالشّكوى [مجزوء المنسرح]:
أتَى الخِيامَ بقلبٍ
…
معَ الأصِحّاءِ صاحِ
وراح منها سَقيمًا
…
نشوانَ من غيرِ راحِ
ولم يكنْ ما شَجَاهُ
…
منه يَلوحُ لِلاحِ
لولا إفاضةُ دمعٍ
…
قضَى لهُ بافْتضاحِ
والله ما راقَ عيني
…
سَنا جَبينِ الصّباحِ
ولا انثناءُ غصونٍ
…
ولا ثنايا أقاحِ
مُذْ قدَّرَ اللهُ بَعْدي
…
عن أرضِكمْ وانتزاحي
ومنها في الوَعْظِ والتوبيخ: يا هذا، مِدادُ الذُّنوب إنّما يَمْحوهُ ماءُ الدّمع، أفلا تعِدُّ له عينًا باكية، وخَطَرُ العقل يَقتُلُ غلامَ الهوى، وأنت تقولُ: أقتَلْتَ نفْسًا زاكية؟! اعترضَتْك شُبهةُ الغَيّ، فهذا دليلُ الرُّشدِ قد تبيَّن، وإن خرَجْتَ خائفًا من مِصرِ المعصِيةِ فأجهِدْ نفْسَك على أن ترِدَ ماءَ مَدْيَن، عَزْمُ الكرام وكيلُ أمين الغيب، وهمّةُ الرجال ما التأنيثُ لاسمِها بعَيْب، قالت أسماءُ لولَدِها وقد خشِيَ المُثْلة: الشّاةُ الميِّتة لا تألَمُ السَّلْخ، ونادى ابنُ أدهم مَنْ شَجَّه: إنّ الرأسَ الذي يحتاجُ إلى [المُخ](1) تركتُه ببَلْخ (2)[الطويل]:
أيعلمُ مَن أوْدَى بصبريَ ما ألقَى
…
وأنّ نَعيمي في هواهُ بأنْ أشقَى
إذا قيلَ: هذا عاشقٌ، قلتُ: ميِّزوا
…
فأكثرُ مَن تلقَوْنَه يدَّعي العشقا
ويا بأَبي ذاك الحبيبُ الذي ثَوَى
…
من القلب مثوًى لم أُسامحْ به خَلْقا
تجافَيْتُ عن إعراضِه وجفائِه
…
فمِن حقَّه أن لا أرى معَهُ حَقّا
وجمجَمتُ في شكوايَ إذْ لم أجدْ لها
…
محلًّا لإلْقائي ولم أستطعْ نُطقا
وكنتُ أرى والصِّدقُ شانيَ في الهوى
…
بأنّي على حالي سأُجزَى به صِدقا
فأخلَفَ ظنِّي والمُحبُّ ظُنونُه
…
متى حاولَتْ جَمْعًا تُحوِّلُه فَرْقا
وللشّرقِ في قلبي لُبانةُ عاشقٍ
…
فيا ليتَ [شِعري](3) من يُبلِّغُها الشَّرقا
ألا إنّ ماءً فيه ماكنت أشتكي
…
لهيبَ الحشا لو كنتُ يومًا به أُسقَى
وطِيبُ نسيم لا يُرى مَن أضَلَّهُ
…
سوى اليأسِ منه أويرى ذلك الأُفْقا
فمَن مُبلغٌ سُكّانَهُ أنّ عهدَهمْ
…
وإن همْ أضاعوهُ على حِفظِه أبقى
سلامٌ عليهمْ كيف كانوا فإنّهمْ
…
وإن لم يَرِقُّوا لا أزالُ لهمْ رِقّا
(1) خرم في الأصل.
(2)
في الأصل: "بملخ".
(3)
زيادة يستقيم بها الوزن.
ومحاسنُه في هذا الباب كثيرة.
ومن نَظْمِه، وله تعلُّقٌ بنوعٍ من التاريخ في ذكْرِ ملِكٍ اختَلّتْ حالُه بداخلةٍ دخَلَت عليه [الكامل]:
أخْذٌ وترْكٌ لا تأمُّلَ فيهما
…
للحال في المتروكِ والمأخوذِ
نبَذوا عهودَهمُ ويا لكَ ضِلّةً
…
مِن نَبْذِها لمشرّدٍ منبوذِ
عمَّت أذاياتُ الزمان ودونَ ما
…
صِرنا إليه كلُّ أمرٍ مُوذي
فاعجَبْ لفارِ السّدِّ في وَهْنِ القُوى
…
حيث انتَهى وبَعُوضةِ النُّمروذِ
وله في الحنينِ إلى الأوطانِ وما لقِيَ به من التقلُّب في البُلدان ومُفارقة الإخوان [البسيط]:
كم التنقُّلُ في سُكرٍ بلا طرَبٍ
…
مشيَ النَّزيف صَريع الجَنْبِ بالبَنْجِ
مِن منزلٍ نحوَ ثانٍ ليس يُشبهُهُ
…
كأنّما حمَلَتْنا خيلُ شِطْرَنْجِ
وهذان البيتانِ وإن كانا كما تراهما في غايةٍ من تحسين المُبْنى وتحصين المعنى فقد شَذَّ في قافيتِهما عن المعهودِ في مثلِهما من التزام الرِّدْف لحَذْفِ ما حُذِفَ منه على ما أُحْكِم في عِلم القوافي. وفي نحوٍ من ذلك، وكتَبَ إلى صاحبه أبي عبد الله بن محمد المُرْسِيِّ ابن الجَنّان (1) الكاتبِ رحمه الله [الطويل]:
تَذكَّرَ عهدَ الشّرقِ والشرقُ شاسعُ
…
وذابَ أسًى للبَرْقِ والبرقُ لامعُ
وأتْبَعَ ذكْرَ الجَزْع أنّةَ مُوجَعٍ
…
له أبدًا قلبٌ على الجَزْع جازعُ
كفى حزَنًا نأْيٌ عن الأهل بعدَما
…
نأَيْنا عن الأوطانِ فهْي بَلاقعُ
نوَى غُربةً حتى بمنزلِ غُربةٍ
…
لقد صنَعَ البَيْنُ الذي هو صانعُ
أحِنُّ إلى أرض تَقادَمَ عهدُها
…
ومن دونِها أيدي الخطوبِ الموانعُ
وكيف بشُقْرٍ أو بزُرقةِ مائهِ
…
وفيه لشُقْرٍ أو لزُرقٍ مَشارعُ
(1) ترجمته في عنوان الدراية (213)، والإحاطة 2/ 256.
هكذا قال ووقَفْتُ عليه بخطِّه، ولو قال:"أو بزُرقِ مياهِه وفيها" لكان أتمَّ في التجنيس، فتأمَّلْه.
ومنه، وكتَبَ به إلى شيخِنا أبي الحَسَن الرُّعَيْنيِّ رحمه الله [المنسرح]:
صاح بهم صائحُ الرِّحيلِ فما
…
فيهمْ على البَيْن واحدٌ سَلِما
وجاسَ بالرَّوع عُقْرَ دارِهمُ
…
من بعدِ ما كان سِربُهمْ حَرَما
فهمْ عبَاديدُ في البلادِ ولا
…
شَمْلَ بكفِّ الخطوبِ مُنتظِما
قد أقسَمَ الدّهرُ أن يُفرّقَهمْ
…
وجَنَّبَ الحِنْثَ ذلك القَسَما
ياسائلي عن بُكايَ بعدَهمُ
…
بكَيْتُ دمعًا حتى بكيتُ دما
وفي الأدبِ وحِرفتِه [الكامل]:
أدب وحِرفتُه وها أنا منهُما
…
مع مُبصِرٍ صَنِع وأعمى أخرقِ
ما فكّ قَيْدَ الخطِّ ذا إلا بَدَا
…
لأخيه فيه فردةٌ للمُطبِقِ
ومن تضميناتِه العجيبة قولُه من قصيدةٍ يمدَحُ بها المستنصِرَ بالله [الكامل]:
ولقد أقَدْتَ من الزمانِ فكاذبٌ
…
مِن قولهم: جُرحُ الزمانِ جُبَارُ
وأطَلْتَ أيامَ السّرورِ فلم يُصِبْ
…
مَن قال: أيامُ السرورِ قِصَارُ
وكان يُستحسَنُ كثيرًا من كلامِه هذا البيتُ [الطويل]:
لك الفضلُ يحيى خالدًا بك ذكْرُهُ
…
فلا ذكْرَ للفضل بن يحيى بن خالدِ
لترديدِ ألفاظ الذِّكْر ويحيى وخالدٍ في العَجُز السابقة في الصَّدْر، وهو من أبياتٍ خاطَبَ بها الأميرَ أبا العبّاس [الطويل]:
أسيِّدَنا الأعلى إذا المرءُ لم يجِدْ
…
نَداكَ على حالٍ فليس بواجدِ
وإنْ هُو لم ينعَمْ بوجهِك ساعةً
…
من الدّهرِ لم تَظفَرْ يداهُ بفائدِ
لك الفضلُ يحيى خالدًا بك ذكْرُه
…
فلا ذكْرَ للفضلِ بن يحيى بن خالدِ
تخَطَّت بلا كدٍّ إلى غيرِ طالبٍ
…
وأخصَبَ مرعاها على غيرِ رائدِ
وقدعلِمَ الأقوامُ أنّك فيهمُ
…
أجلُّ اللآلي بين أبهى القلائدِ
بفضلِك قُلنا والمقالُ مزيَّفٌ
…
إذاكان لا يؤتَى عليه بشاهدِ:
أولئك جادوا والزمانُ مساعِدٌ
…
وجُدتَ لَعَمْري وهو غيرُ مساعدِ
ومنه، وذكَرَ بعضَ بني النُّعمانِ الهنتاتيِّينَ (1)، وهُو من حَسَن التجنيسِ وتامِّه [الكامل]:
في الرَّوع أوجُههم كأقمارِ الدُّجَى
…
وسيوفُهمْ كشقائقِ النُّعمانِ
والمُعلَواتُ وُلِدْنَ فيهمْ فهْيَ إن
…
نُسِبَتْ يقالُ: شقائقُ النُّعمانِ
قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: صَدْرُ هذا البيتِ الذي هو: "بفضلِكَ قُلنا" من أردإِ الصدورِ وأقبحِها نَظْمًا لتمَحُّضِه إذا أُنشِد وحدَه للهجاء ولا يَنصرفُ إلى ما قَصَدَ به من المدح إلا بإتباعِه عجُزَه فتأمَّلْه، واللهُ الموفَّق. وقد ألمَمْتُ بمعنى البيتِ الأخير من هذه الأبيات فقلتُ من قصيدةٍ طويلة أمدَحُ بها الفقيهَ الرئيسَ الأطولَ أبا عليٍّ عُمرَ ابن الفقيه الأجَلِّ العَلَم الشَّهير أبي العبّاس المليانيّ (2) وصلَ اللهُ أسبابَ سعادتِه، وهي أولُ ما رفَعْتُ إليه [الكامل]:
يا من يَقيسُ به سِواه في النَّدى
…
ألغَيْتَ في النظَرِ اعتبارَ الجامعِ
هذا يَجودُ وفي الموانع كثرةٌ
…
وسِواه ضَنَّ معَ ارتفاع المانعِ
وسأذكُرُ إن شاء اللهُ سببَ هذه القصيدة في رَسْم أبي الحَجّاج (3) ابن الجَنّان (4).
(1) انظر في الهنتاتيين ممدوحي المترجم: العبر لابن خلدون 6/ 633 (ط. بيروت).
(2)
ترجمته في عنوان الدراية (109).
(3)
بعد هذا بياض في الأصل تركه المؤلف ولم يعد إليه.
(4)
أورد المؤلف هذه القصيدة وسببها في السفر الثامن من هذا الكتاب (الترجمة 232).
ولأبي المُطرِّف رسائلُ بديعةٌ أغرَبَ فيها بالتزام بعض الحروف في جميع كَلِمِها، منها: رسالةٌ كتَبَ بها إلى الرئيس أبي الحُسَين بن عيسى بشاطِبةَ زاوَجَ فيها بينَ السِّين والشِّين فالتزَمَ السّينَ في كلمة والشّينَ في التي تليها إلى آخِر الرسالة (1)، وقد جَرى عليه الوهمُ في ثلاثة مواضعَ منها سَقَطَ له منها الشّين. ورسالةٌ خاطَبَ بها صاحِبَيْه: شيخَنا أبا الحَسَن الرُّعَيْنيَّ وأبا عبد الله ابنَ الجَنّان والتزَمَ فيها حروفَ النون في كلِّ كلمة سأُثبتُها في رَسْم شيخِنا أبي الحَسَن الرُّعَيْنيِّ إن شاء اللهُ تعالى (2)، ورسالة خَدَمَ بها المستنصِرَ بالله التزَمَ فيها الدالَ في كلِّ كلمة. وهذه الرسائلُ الثلاثُ مشتملةٌ على نَظْم ونثر، ورسالةٌ رفَعَها للرّشيدِ أبي محمدٍ عبد الواحد من بني عبد المؤمن التزمَ فيها حرفَ الراءِ لا نَظْمَ فيها. وله تأليفٌ في كائنةِ مَيُورْقَةَ وتغلّبِ الرومِ عليها نَحَا في الخبرِ عنها مَنْحَى عمادِ الدِّين أبي عبد الله محمد بن محمد الأصبَهانيِّ في تأليفه "الفَتْح القُسِّي في الفتح القُدْسي"(3). وتعقَّبَ على الإمام فَخْر الدِّين عبد الله محمد بن عُمرَ بن الحُسَين بن عليٍّ البَكْريِّ الطُّوسيِّ ثم الرّازي المعروفِ بابن خطيبِ الرَّيّ في كتابِه "المعالم في أصول الفقه"(4)، ورَدَّ على كمالِ الدّين أبي محمد عبدِ الواحِد بن عبد الكريم بن خَلَف الأنصاريِّ المعروفِ بالسِّمَاكيِّ في كتابِه المسَمَّى بـ "التّبيان في عِلم البيان المُطْلِع على إعجازِ القرآن" وَسَمَه بـ "التّنبيهات على ما في التِّبيان من التَّمويهات"(5)، واقتضابٌ نبيلٌ من "تاريخ ثورة المُرِيدِين"(6) لأبي محمد عبد الملِك بن أحمدَ ابن صاحبِ الصّلاةِ، إلى غيرِ ذلك من التعاليق.
(1) هي في مجموع رسائله 77 (مخطوط).
(2)
انظر السفر الخامس (الترجمة 636).
(3)
انظر كتاب الدكتور محمد بن شريفة: أبو المطرف (287 - 292)، ووُجد هذا الكتاب أخيرًا، ونشره الدكتور محمد بن معمر بعنوان "تاريخ ميورقة".
(4)
انظر المصدر نفسه (297).
(5)
انظر المصدر نفسه (260).
(6)
انظر المصدر نفسه (293).
وإنّما أطلتُ في ذكْرِ هذا الشّيخ وأكثَرتُ من المراد آثارِه ولا سيّما ما جلَبْتُه من أشعارِه، لأنّ طائفةً من أهل طبقتِه كانت تستقصرُ منظومَه وتدفَعُه عن الإجادة فيه، وهو كما رأيتَ وسمعتَ بلاغةً وبَراعة، وإن كان ينزِلُ عن نثرِه. وكان يذكُر أنه رأى في مَنامِه النبيَّ صلى الله عليه وسلم فناوَلَه أقلامًا، وكان يَرى ويُرى له أنّ تأويلَ تلك الرؤيا ما أدرَكَ من التبريز في الكتابة وشِيَاع الذِّكْر بها، واللهُ أعلم.
وقد كان شيخُنا أبو الحَسَن الرُّعَيْنيُّ يصِفُه بالتقدُّم في الكتابة على أهل زمانِه، وكان يمَسُّه بشيءٍ في اعتقادِه اللهُ أعلم به.
ووَرَدَ مَرّاكُشَ صُحبةَ رِكابِ الرَّشيد أبي محمدٍ عبد الواحِد من سَلا، واستَكتبَه بمَرّاكُشَ مدّةً يسيرة ثم صَرَفَه عن الكتابة وقَلَّده قضاءَ بلدِ هيلانةَ من نظَرِ مَرّاكُشَ الشّرقي (1) فتولاهُ قليلًا، ثم نقَلَه إلى قضاءِ رِباط الفَتْح وسَلا، وسيأتي ذكْرُ الإشارة إلى ذلك في جواب أبي عبد الله ابن الجَنّان إيّاه عن رسالةٍ كتَبَ بها إليه إن شاء الله (2). وأقام يتَولّاه إلى أن توفِّي الرّشيدُ ووَليَ مكانَه أخوه المُعتضِدُ بالله أبو الحَسَن عليٌّ فأقرَّه عليهما مدّةً ثم نقَلَه إلى قضاء مِكْنَاسةِ الزّيتون، وكان قد بَلَغَه أنّ المعتضِدَ قَدَّمَ على مِكْناسةَ أبا حَفْص عُمرَ ابنَ الأمير أبي إبراهيمَ بن أبي يعقوبَ بن أبي محمد عبد المؤمن بن علي، وهو الوالي مكانَ المعتضِد بعد وفاتِه، المتلقِّبُ بالمُرتضَى، فأعَدَّ له أبياتَ تهنئة بتلك الولاية، ثم اقتضَى نظرُ المُعتضِد توليةَ أبي حَفْص المذكور مدينتَيْ (3) سَلا؛ فبَعَثَ بها إليه، وهي عشَرةُ أبيات لم يَعْلَقْ منها بحِفظ مُمْليها عليّ إلا هذه الأبياتُ السبعة، وهي [المتقارب]:
(1) ذهب الفقيه عباس بن إبراهيم في كتابه الإعلام 1/ 121 إلى أن بلدة هيلانة المذكورة هي التي تعرف اليوم بكلاوة.
(2)
الموضع الذي يحيل عليه المؤلف يقع في سفر مفقود.
(3)
كذا في الأصلين بالتثنية، ولعله يريد سلا والرباط.
توحَّدتَ في الفضلِ من غيرِ ثانِ
…
فما لكَ عنه من الخَلْقِ ثانِ
ولاسمِك يا عُمرَ الجودِ ما
…
لرَوْح الجَنانِ ورُوح الجِنانِ
فإنْ يمنَعِ العدلُ من صَرْفِهِ
…
فعدلُك يمنَعُ صرفَ الزمانِ
على اليُمن متّصلًا بالأمانِ
…
وبِشْرِ التهادي ببُشْرى التهاني
قدومٌ قد استَشْعَرتْ عندَهُ
…
نفوسُ الأنام نفيسَ الأمانِ
أبرَّت خِصالُك يومَ الفَخَارِ
…
وكان لك الخَصْلُ يومَ الرِّهانِ
فمُلِّئتَ عزًّا حصينَ المِجَنِّ
…
وهُنِّئتَ عيشًا خصيبَ المجاني
وكان شديدَ التطارُح على خدمة الرُّؤساء كثيرَ الحِرص والرَّغبة في ضمِّ حُطام الدُّنيا متَظاهِرًا بالإقلال، فقد وقَفْتُ له بخطِّه على قصيدةٍ رفَعَها للأمير أبي حفصِ (1) المذكور حين وَليَ سَلا مهنَّئًا بولايتِه إياها، وقدَّم عليها نثرًا وأخَّرَ عنها مِثلَه منه عقِبَ إيراد القصيدة: هذه أيَّدَ اللهُ المَوْلى بنتُ فِكرٍ بَكِيّ، وخاطرٍ فُطِرَ على عَيّ، ثم لم تزَلْ به الأيامُ حتى أبدَتْ صَبابتَه (2)، واستَشْفت صُبابتَه (3)، وتركَتْهُ نظمًا شَتِيتًا، وذا عُسرةٍ لا يملِكُ بيتًا. ومنه: وقد ألمَعْتُ في البطاقة الواردة معَ هذه الخِدمة بما أرغَبُ أن يُعيرَه المَوْلى طرْفَه، ويَثْني نحوَه عِطْفَه وعَطْفَه، وما يُشرِّفُ به عبدَه من تفضُّل بجوابِه، واستخدام في بابِه، فنظَرُه إليه سام، ودهرُه منه في جَذَلٍ وابتسام.
فهذه إشارةٌ إلى ما كان يتظاهرُ به من رِقّة الحال والاستجداء.
ثم لّما قُتل المعتضِدُ كما تقَدَّم الإخبارُ عنه اغتَنَم أبو المُطرِّف تلك الفترةَ وفَصلَ من مِكْنَاسةَ قاصدًا سَبْتةَ، فلقِيَ الرُّفقةَ التي كان فيها جَمْع من بني مَرِين سَلَبوه وكلَّ من كان معَه، فذَكَرَ لي الشيخ أبو الحَسَن الرُّعَيْنيُّ، رحمه الله أنه كتَبَ
(1) في الأصل: "أبي العباس"، وهو سهو.
(2)
الصبابة: الرقة والشوق.
(3)
الصُّبابة: البقية القليلة من الماء ونحوه.
إليه يُعلِمُه بهذه الحادثة عليه وأنّ المنهوبَ له من مالِه يعدِلُ أربعةَ آلاف دينار عَشْريّة وكان وَرِقًا وعَيْنًا وحُلِيًّا، فأين هذا مما تضمَّنه الفصلُ الذي خاطَبَ به الأميرَ أبا حفص (1) المذكورُ حسبما قَصَصْناه؟!
ثم رَكِبَ البحرَ من سَبْتةَ متوجِّهًا إلى بلاد إفريقيّةَ، وهذه الرحلة هي التي وَصَفَ في الخِدمة التي قَدِمَ بها على الأمير أبي يحيى زكريّا وهو والي بِجَايةَ ابن الأمير أبي زكريّا فأبدَعَ في إجادتها ما شاء (2). ولم يزَلْ مُذْ فارق جزيرةَ الأندَلُس معمورَ الخاطر بالتخلُّص إلى بلاد إفريقيّةَ. وقد كان كتَبَ وهُو بسَبْتةَ حين وصُولِه إليها من مِكْناسَةَ قبلَ قدومِه علىٍ تونُس، مقدِّمًا بين يدَيْ ما أمَّلَه من القدوم على الأمير أبي زكريّا، رسالةً بديعةً خدَمَ بها الأميرَ أبا زكريّا ودفَعَها إلى الوزير أبي علي الحَسَن بن خلاص (3)، فأُلفِيَتْ في متاعِه الذي خَلَصَ إلى تونُس، وهي مُشتملةٌ على نَظْم ونثر في الغاية من براعة الإنشاء (4). وكان حَسَنَ الخَلْق والخُلُق جميلَ السَّعي للناس في أغراضِهم حَسَنَ المشاركة لهم في حوائجِهم متسرِّعًا إلى بَذْل مجهودِه فيما أمكَنَ من قضائها بنفسِه وجاهِه، تصحَبُه غفلةٌ، ولمّا قَدِم تونُسَ مال إلى صُحبة الصالحينَ بها والزُّهّاد بُرهةً ثم نَزعَ عن ذلك رغبةً في خدمة الملوك، فاستُقضيَ بالأربس: من بلاد إفريقيّةَ، ثم نُقل منها إلى قابِسَ أكثرَ مقامِه بإفريقيّة، ثم استَدْناه المُستنصِرُ بالله وأحضَره مجالسَ أُنسِه، فيَذكُرُ أنه داخَلَه مُداخلةً أنكرَها المُستنصِر وحاشيتُه عليه، حتى لَيُؤثَرُ من كلام المستنصِر في حقِّه وقد سُئل عنه: ذلك رجلٌ رام إفساد دُنيانا علينا فأفسَدْنا عليه دِينَه، وكانوا يرَوْنَ أنّ تشبُّعَه بتلك العلوم القديمة التي كان يتعاطى منها ما لا يُحسِنُ أخَلَّ به في معتقَدِه وقاده إلى فساد دِخْلة، واللهُ أعلم بسريرتِه.
(1) في الأصل: "أبا العباس"، وهو سهو.
(2)
هي في مجموع رسائله 29 وما بعدها (مخطوط) وانظر كتاب الدكتور محمد بن شريفة: أبو المطرف 145.
(3)
يراجع: أبو المطرف 71.
(4)
انظر المصدر نفسه 143.