الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شخصيّته:
لا نجدُ عند من ترجَموا لابن عبد الملك ما يشيرُ ولو إلى صفة واحدة من صفاته الجسمية، ومن هنا فإننا لا نَعرِفُ شيئًا عن صورته وشكلِه (1)، كما أنّنا لا نجدُ عندَهم ما يُغني في تحليل شخصيّته.
وكلُّ ما نقفُ عليه في هذا المعنى ما ذكَرَه ابنُ الزُّبير الذي عَرَف ابن عبد الملك عن بُعد وانتهت إليه أخباره بالسّماع، فقد وَصَفَه بذكاءِ الذّهن الفائق، ونباهة الخاطر الفائقة، وحِدّة الخُلُق، وهذه صفاتٌ متلازمة أحيانًا.
ويبدو من هذا، ويشهَدُ له كلامُ ابن عبد الملك، أنّ الحِدّةَ حدّةَ الذّهن والخاطر والخُلُق معًا، كانت الصِّفةَ الغالبةَ عليه، وهي تصلحُ أن تكونَ "مفتاحَ شخصيّته" حسَبَ تعبير المرحوم العقّاد، ومن مظاهر هذه الحِدّة لديه الصّراحةُ في القول، والنّزوعُ إلى النّقد، والطموحُ إلى التفوُّق على الأضراب، والتمدُّح بالعمل المتقَن، وهذه المظاهرُ باديةٌ لمن يقرأُ الأسفار المنشورةَ من "الذّيل والتكملة".
فأمّا الصّراحةُ في القول فقد جعَلتْه يدوِّنُ كلَّ ما يعرفُه من أحوال المترجَمين أو يقعُ إليه من أخبارهم، وهو لا يتغاضَى عن نقلِ الروايات التي قد يكونُ فيها مسّ بهم، وهذا منتهى الصّراحة والأمانة، وليس كلُّ المؤرِّخينَ على هذَيْن الوصفَيْن، فمِن صراحتِه وعدم تكتُّمِه: ما نقَلَه من خلافٍ في مخزوميّة أبي المُطرِّف أحمد بن عَمِيرة، وما حكاه عن ابن الحاجِّ الشاطبيّ من تعريض بأصلِه، وتصريح بيهوديّة سَلَفِه. وقد انتقد ابن الخطيب صنيعَ ابن عبد الملك فقال تحت عنوان: أولّيّته -وهو عنوانٌ تقليديٌّ في تراجمه-: "لم يكن من بيتِ
(1) وصف ابن الخطيب ولد ابن عبد الملك فقال: كان رحمه الله غريب المنزع، شديد الانقباض محجوب المحاسن، تنبو العين عنه جهامة وغرابة شكل ووحشة ظاهرة في طي ذلك أدب غض ونفس حرة وأبوة كريمة، أحد الصابرين على الجهد المتمسكين بأسباب الراضين بالخصاصة.
نباهة، ووقَعَ لابن عبد الملك في ذلك نقلٌ كان حقُه التجافيَ عنه لو وُفِّق" (1)، وكلامُ ابن الخطيب أخفُّ وقعًا من نَقْل ابن عبد الملك، ولكنه في الواقع إجمالٌ لِما فصَّله مؤلّفُ "الذّيل والتكملة".
ومن ذلك: أنه ذكَرَ بيتَيْن في هجاءِ ابن الأبار فاعتَرضَ عليه راوي كتابه أبو القاسم التُّجِيبيّ بقوله: "لو تركتَ نقْلَ هجاءِ أهل العلم وغيرِهم كان أجملَ بك أيُّها الشيخ"(2).
وقال في ترجمة أبي عليّ الشَّلَوْبِين: "على أنّ كثيرًا من أهل بلده كانوا يرغبونَ بأبنائهم عنه ولا يسمَحونَ لهم بالتتلمذ له والقراءة عليه لقبيح لا يليقُ مثلُه بأهل العلم نسَبوه إليه"، وعقَّب على هذا الكلام أبو القاسم التُّجِيبيُّ أيضًا فقال:"لا أعلمُ من ذَكَرَ أبا عليّ بما عرَّض به المصنِّف، وقد لقيتُ من أصحابِه عددًا كثيرًا، فكان حقُّه أن لا يتعرَّض لمثل هذا الشيخ في شُهرتِه وجلالة معلوماته وكثرة المنتفعينَ به"(3). وقال في ترجمة محمد بن خَلَف: "قُرطُبيٌّ، أبو بكر ابنُ الحَصّار وابن النَّخّاس، وكان أبوه المقرئ يَكرَهُها"، وعلّق على هذا تلميذُه المذكورُ بقوله:"إذا كان يكرَهُها فلمَ لم تُعرِضْ عنها؟! "(4).
ونقَلَ في ترجمة أبي الحَسَن بن مؤمن محاسنَه ثم نقَضَها بما يُنسَب إليه من مساوئَ ومطاعن، ومنها: أنه كان "يُرمَى في دِينه بالميل إلى الصَّباءِ خاصّة"، ثم قال:"وهذه خُلة إن صَحّت أخَلّت بجميع ما يُعزى إليه من الفضائل التي ذكَرْنا وغيرها"(5).
(1) الذيل والتكملة 1/الترجمة 231، والإحاطة 1/ 173.
(2)
المصدر نفسه 5/الترجمة 550.
(3)
المصدر نفسه 5/الترجمة 807.
(4)
المصدر نفسه 6/الترجمة 501.
(5)
المصدر نفسه 5/الترجمة 525.
وعدَّد في ترجمة ابن القَطّان بعضَ ما كان يُنعَى على هذا العالِم الكبير من أمور، ومنها: استعمالُه المُسكِر وتناولُه إيّاه وتأوُّلُه فيه، وقد ناقش شيخَهُ أبا عبد الله المدعوَّ بالشّريف الذي كان متعصِّبًا لابن القَطّان مبرِّرًا بعضَ تلك الأمور، ولكن ابن عبد الملك رَدّ تبريرَه وأصَرَّ على ما نقَلَه (1).
وهكذا منهجُه على الجُملةِ في تراجمه، يَنقُل فيها كلَّ ما وقَعَ إليه وانتهى إلى علمِه حتى ألقابَ المترجَمين المكروهةَ عند أصحابها مثلَ "الوَزَغيّ" و"ابن الرُّوميّة"، والخلافَ في أنسابِهم وما يتّصلُ بالجَرْح والتعديل في رواياتهم وغيرَ ذلك.
وليس في نيّتنا هنا تتبُّعُ جميعِ ما جاء في كتابه من صراحةٍ قاسية انتقَدَها عليه بعضُ مُعاصِريه وغيرُهم ومنهم: ابنُ الزُّبير وابنُ رُشَيْد والتُّجِيبيُّ وابنُ الخطيب، وقد رجَعَ ابنُ الزُّبير ذلك إلى حدّة خُلُقِه، وهي حِدّةٌ ذكَرَ أنها كانت سببَ محنتِه.
ومهما يكنْ من أمر فالمؤرِّخونَ ومؤلِّفو كُتُب التراجم في هذه النُّقطة فئتان: فئة تتحاشَى ذكْرَ الهفَوات وتتغاضَى على الهَنَات ولا تَعرِضُ لشيء ممّا يمسُّ الأعراض، ومنهم: السُّبكيُّ الذي وقَفَ عندَ هذه النقطة في كتابه "مُعيد النِّعم ومُبيدِ النِّقم".
وفئةٌ لم تكنْ ترى هذا الرأي وذهَبَت إلى مخالفتِه وذكَرت الناسَ بما لهم وما عليهم معَ تفاوُت في الحِياد والعدل والإنصاف والبُعد عن الهوى والتعصُّب، ومن هؤلاءِ ابنُ حَيّان وابنُ عبد الملك في المغرب، والذّهبيُّ في المشرِق على سبيل المثال (2).
وأمّا النزوعُ إلى النَّقْد فهو مظهرٌ آخَرُ من مظاهر الحِدّة والتنبُّه والتحفُّز والتيقُّظ عندَ ابن عبد الملك، كما أنه يعكسُ مَيْلَه الواضحَ إلى إظهار تضلُّعِه في المعارف وتمكُّنه من العلوم؛ ولذلك جاء نقدُه متنوِّعًا، فله نقداتٌ أدبيّة ولُغَويّة
(1) راجع ترجمة ابن القطان في السفر الثامن، الترجمة 15.
(2)
ينظر مثلًا كتاب الدكتور بشار عواد، الذهبي ومنهجه 427 فما بعدها (ط. دار الغرب 2008 م).
ونَحْويّة وعَروضيّة سنتحدّث عنها في فقرة لاحقة، وله نقدٌ تاريخيٌّ يتعلّقُ معظمُه بما يَرجِعُ إلى تراجم الأعلام، وتعقَّب في هذا النقد جماعةً ممّن سَبَقوه إلى الموضوع؛ كابن الفرَضي وابن بَشْكُوال وابن الأبّار وابن الزُّبَير وابن فَرْتون وغيرِهم.
أمّا ابنُ الفَرَضيّ مؤلِّفُ الحلقة الأولى في السِّلسلة ومؤسِّس المصطلح المتداوَل بعدَه، فكان ابنُ عبد الملك يُجلُّه ويحلِّيه حيثما ذكَرَه: الحافظَ، وقد استَدرك عليه بعضَ التراجم ووقَفَ على تتميم وتصويب هَفَواتٍ هيِّنة في "تاريخِه".
وابنُ بَشْكُوال دونَه في رأيه منزلةً؛ إذ يُطلقُ عليه: الراوية. وقد ناقَشَه في النّهج الذي سار عليه ولا سيّما ترتيبُ الرجال حسَبَ طبقاتِهم ووَفَياتهم قائلًا: إنّ هذا "لا يتأتّى اطّرادُه إلا بشرط العلم بوفاة الرّجال المذكورين وتحقُّق متأخِّرها من متقدِّمها، وهو مُتعذِّر"، وذَكَرَ أنّ ابنَ بَشْكُوال ومن سلَكَ مسلكَه "يذكرونَ الرّجلَ بين الرجلَيْن وهو أقدمُ موتًا من المذكورِ قبلَه، مجاورَا له أو متقدِّمًا عليه برجُل أو رجُلَيْن فصاعدًا أو تتأخَّرُ وفاته عنه على تلك النسبة، وذلك موجودٌ في كُتُبهم بأيسَرِ تأمّل"، ثم قال:"ومن مثالِه لمن يَستعجلُ الوقوفَ عليه: أنّ ابنَ بَشْكُوال ذكَرَ أبا عامرٍ محمدَ بن سَعْدون بن مُرَجَّى بن سعدون بن مُرَجَّى العَبْدريَّ -ولم يذكُرْ له وفاةَ لمّا لم يعرفْ وقتَها- بين أبي عبد الله محمد بن الفَرَج بن إبراهيم المقرئ البَطَلْيَوسيّ -وذكَرَ أن وفاتَه سنة أربع وتسعينَ وأربع مئة- وأبي عبد الله بن فَرَج مَوْلى محمد بن يحيى البكريّ ابن الطّلّاع، وذكَرَ أن وفاته بُكرةَ يوم الخميس لثلاثَ عشْرةَ ليلةً خلت من رجبٍ الفرد سنةَ سبعِ وتسعينَ وأربع مئة، واقتضى وضْعُ أبي عبد الله ابن سَعْدون بينَهما أن يكون زمانُ وفاتِه بين زمان وفاتَيْهما، وقد طلع نجيث البحث عن وفاته على أنها كانت في ربيعٍ الآخِر سنة أربع وعشرينَ وخمس مئة بعد وفاة أبي عبد الله بن فَرَج بسبع وعشرينَ سنة غيرَ شهرَيْن وأيام"(1).
(1) الذيل والتكملة 1/ 209. ونجيث البحث: ما يظهر من الأمر بالبحث بعدما كان مخفيًا.
ولابن عبد الملك تعقيبات على ابن بَشْكوال، ولسنا ندري لماذا كان يستكثرُ عليه بعضَ الأشياء، فقد وقَفَ له على إجازةٍ لصاحب له سأله مناوَلةَ "الصِّلة"، وفيها:"فأجبتُه إلى ما سأل على وجه الطاعة له بعدَ أن أشفقتُ ممّا رَسَم أن يتعاطى مثلي معَ مثلِه منزلةَ الأشياخ، لكنّ بعضَ الشّيوخ كان يقول: موافقةُ الإخوان خيرٌ من الإبقاء على النفْس"، وعلّق ابن عبد الملك على هذا بقوله:"كنتُ أستجيدُ التعبيرَ عن هذا المقصِد بمثل هذه العبارة وأُبعد كثيرًا أن يَصدُرَ مثلُه عن أبي القاسم ابن بَشْكُوال رحمه الله حتى وقَفْتُ على نُسخة من شيوخ الراوية أبي عَمْرٍ والسَّفَاقُسيّ وذكَرَ بعضَ ما أخَذ عنهم كتَبَ بها إلى القاضي أبي عُمَر أحمد بن محمد ابن الحَذّاء وذكَرَ في صدرِها سؤالَه إياه ذلك"، وقال:"فأجبتُه بعدَما أشفقتُ منه إلي ما رَسَم وإن كان على مثلي فيه وَهْنٌ أن يتعاطى رُتبةَ الأئمة ومنزلةَ الأشياخ معَ مثلِه، لكنّي سمعتُ بعضَ الشيوخ يقول: موافقةُ الإخوان خيرٌ من الإبقاء على النفْس"، ثم قال:"فسُرِرت بصدق حَدْسي في ذلك، والحمدُ لله على نِعَمِه التي لا تُحمى"(1). وهذا التعليقُ شاهدٌ على الارتياح الذي كان يَشعُرُ به ابنُ عبد الملك عندما يكتشفُ المآخذَ ويتوصَّلُ إلى المطاعن، ولهذا نظائرُ وأشباهٌ في كتابه، فقد أورَدَ في ترجمة سَعْدِ السُّعود بن عُفَير اللَّبْلي قصيدةً له يُخاطب بها ولدَه، ثم قال:"أنا أبعدُ أن يكونَ هذا النظمُ لأبي الوليد هذا؛ فقد وقَفْتُ في "برنامجَه" الذي كتبَه بخطّه إلى بعض سائلي الرواية عنه على ضروبٍ من الخَلَل والتصحيف الشّنيع وفساد الهجاء مما يكاد أيسَرُه يناقضُ التلبُّسَ بأدنى رُتبة من العلم والارتسام به جملة، ولعلّه كلَّف غيرَه فأنشَأَها له وبعَثَ بها إلى ابنه وهو الظاهر، والله أعلم"(2).
والشاهدُ في هذا النصّ والذي قبلَه أنّ طبيعةَ الانتقاد كانت غالبةً على ابن عبد الملك معَ ما يُصاحبُها من حَذَر في تقبُّل أعمال الناس بعين الإغضاء،
(1) الذيل والتكملة 4/الترجمة 337.
(2)
المصدر نفسه 4/الترجمة 46.
وكان بعضُ معاصِريه -ممن تشُقُّ عليهم الصّراحة ويتلقَّون الأشياءَ بالتسليم وعدم الاعتراض- لا يرضَوْنَ عن مسلكِه ولا يوافقونَه على منهجه، وذهَبَ ابنُ رُشيد معاصِرُ ابن عبد الملك إلى أنّ انتقاصَ الأفاضل كان فيه عادةً مرافقة والاعتراضَ عليهم صار له طبعًا ملازمًا، ولكنّ كلامَ ابن رشيد لا يخلو من تحامُل، ولا ندري أوقَفَ عليه ابنُ عبد الملك أم لا، وما نحسَبُ أنه كان يترُكُه بدون ردّ لو وقَفَ عليه، وقد عرَفْنا ممّا سبق فضلَ ابن عبد الملك على ابن رُشيد.
ومن مواقفِ ابن عبد الملك معَ ابن بَشْكُوال: مخالفتُه إيّاه في شأن نَقْل المصحف الإمام من قُرطُبة إلى مَرّاكُش بأمرِ عبد المؤمن، قال ابنُ بَشْكُوال:"أُخرِجَ هذا المصحف عن قُرطُبة وغُرِّب عنها ليلةَ السبت الحاديةَ عشْرةَ من شوّال سنةَ اثنتينِ وخمسينَ وخمس مئة، وحُمل صبيحةَ يوم السّبت وجُوِّز إلى العُدوة أخَذَ اللهُ من سعَى في تغريبِه وخروجِه عن الحضرة أخْذَ آسف، ولا أمهلَه بالذي لا إلهَ إلا هو، وعجَّل بصرْفه إلى مكانِه بقدريه، لا يُعجِزُه شيء جل جلاله وعَظُم سلطانُه". وقال ابن عبد الملك: "رحمَ اللهُ أبا القاسم ابنَ بَشْكُوال ونفَعَه بمقصدِه، فإنّما استأثرَ بعِلق نفيس، واستكثرَ من خير جليس، وأفضل أنيس، وتأثّر لانتقال موقفٍ على محلِّه الأحقِّ به حبيس، فلذلك أتبَعَ خبرَه عنه نفثةَ مصدور عن قلب جريح، ولَهْفَ موتور ذي فؤادٍ بمؤلم هذا المُلمِّ جريح، ولو كوشفَ رحمه الله بحال قُرطُبة من بلاد الأندلس وسواها، وانتهاك عَبَدة الصّليب مَحُوطَ حماها، واستيلائهم على ما اشتملت عليه من كثير من المصاحف غيرِ ذلك المصحف الكريم، وابتذالِهم ما عُني العلماءِ بصيانتِه من ذخائرِ دواوين العلم على العهد القديم، لسُرَّ بإخراجِه عن قُرطُبةَ واحتماله، وأعان بالتحضيض نصحًا له على انتقاله، إنقاذًا له من أيدي المشركين، واستدامةً لبقائه في كلاءة المسلمين"(1).
(1) الذيل والتكملة 1/الترجمة 231.
وكلامُ ابن بَشْكُوال قد تشمُّ منه رائحة العصَبيّة البلديّة والحساسيّة الأندلسية، ويبدو عنيفَا في الدعاءِ على سلطانِ وقته، أمّا ابنُ عبد الملك فقد جاء كلامُه هادئَا صادرَا عن عاطفةٍ دينيّة تعترفُ بحُرمة الحبس ولكنها تنتصرُ لمآلِ ذلك التصرُّف.
كان ابنُ عبد الملك معتزَّا بمَغْربيّيه، ومعَ أنّ شرطَ كتابه فَرَضَ عليه أن يوجّه جُلَّ اهتمامه إلى تراجم أعلام الأندلس ويصرفَ معظمَ نشاطِه في تخليدِهم قبل غيرهم، فقد كان يُحسُّ بالامتعاض من تعصُّب بعض الأندلسيِّين ويَشعُر باهتضامهم حقَّ أهل العُدوة وقلة إنصافِهم لهم، ونجدُ ردَّ الفعل عندَه يبدو في عنايته بتراجم الغُرباء، وهم الداخلونَ إلى الأندلس من أهل العُدوة، وفي إشارته إلى "ما لأهل المغرب في الفضل من الحُسنَى والزّيادة" وإلى "أنّ بهذه البلاد (المغربية) من أهل هذا الفنّ (الشّعر) عِمارة"(1)، وهو يبدو أكثرَ من ذلك في موقفِه من ابن الأبار وتصَدّيه لتعصُّبه. ومن مظاهر اعتزازه بمغربيّته: دفاعُه عن النَّحويِّ المغربيِّ الكبير أبي موسى الجَزُوليّ، وردُّه على بعض الأندلسيِّين، كابن الأبّار وابن الزُّبير، الذين شكَّكوا في نسبة الكُرّاسة المشهورة إلى أبي موسى، قال:"ومن الناس -وأكثرُهم بعضُ الأندلسيِّين- من ينسُبُها لشيخه أبي محمد بن بَرّي، ويَذكُرُ عن أبي موسى أنه كان يقولُ: إنها جمْعُ تلامذةِ أبي محمد بن بَرّيّ حسبما لَقَنُوه عنه، ومنهم من يأثرُ عن أبي موسى أنها من إملاءات ابن برِّي على أبواب "الجُمَل" وأنّ أبا موسى كمَّلها، وكلُّ ذلك مما لا ينبغي التعريجُ عليه، وإنّما هي تقوُّلاتُ حسَدتِه النافسينَ عليه، وإلّا فلمَ لم تُعرَفْ إلا من قِبَل أبي موسى، وقد أخَذَها الناسُ عنه ودرَّسهم إياها ولم تُشهَرْ إلا له؟ وقد وقفتُ على خطِّه في نُسَخ منها محمِّلًا إياها بعضَ آخِذيها عنه إلى عصرِنا هذا، ولم يزَلْ أبو موسى يتولّى تهذيبَها وتنقيحَها والزيادةَ فيها والنقْصَ منها وتغييرَ بعض عباراتها حسبَما
(1) انظر ترجمة يوسف ابن الجنان في السفر الثامن.
يؤدِّيه إليه اجتهادُه ويقتضيه اختيارُه، وشهيرُ وَرَعِه يزَعُه عن التعرُّض إلى مثل هذه التصرُّفات في غير مصنَّفِه، اللهمّ إلا أن يكونَ ابن بَرِّي قد أذِنَ له في ذلك وهو بعيدٌ إن لم يكن باطلًا لِما تقَدَّم من أنه لم يأتِ بها أحدٌ عنه ولا نسَبَها إليه منذ مئةٍ وثلاثينَ سنة أو نحوها وهلم جرًّا" (1). ثم روى بعدَ هذا حكايةً تُصوِّر انبهارَ النَّحوي الأندَلُسي الشَّلَوْبين بما سَمع في مجلس أبي موسى، وترمي إلى إثباتِ التفوّق العلميِّ لأهل المغرب يومئذ على أهل الأندلس، وكلُّ ذلك مما ظهرت فيه حَمِيّةُ ابن عبد الملك لبلدِه ردًّا على تعصُّب ابن الأبّار وغيره.
كان ابنُ عبد الملك يَعرِفُ قَدْرَ ابن الأبّار ويحترمُ علمَه ويُجِلُّ مكانتَه، فقد عَدَّه أنبلَ مَن ألّف في التراجم بعد ابن الفَرَضي وابن بَشكُوال، وقدَّمه لذلك على ابن فَرْتون الفاسيِّ وابن الزُّبَير الغَرْناطيّ، وأشار إلى "شَهِير نُبلِه ومعروف تيقُّظِه وتحفُّظِه من متعلّقات النقد وأسبابِه"(2)، وأشاد باقتداره في كتابه: "الأربعون حديثًا
…
" وقال: "أبدى به اقتدارَه معَ ضِيق مجاله عمّا عَجَزَ عنه المَلّاحيُّ من ذلك" (3)، كما نَوّه بشفوفه وتبريزه في الأدب ولا سيّما في النَّظم، وقد فَصَّل راسله فيه بقوله: "كان آخِرَ رجال الأندلس براعةً وإتقانًا، وتوسُّعًا في المعارف وافتنانًا، محدِّثًا مكثرًا، ضابطا عَدْلًا ثقةً ناقدًا يقظًا، ذاكرًا للتواريخ على تباين أغراضِها، مُستبحِرًا في علوم اللّسان نحوًا ولغةً وأدبًا، كاتبًا بليغًا، شاعرًا مُفلِقًا مجُيدًا، عُني بالتأليف وبَخَتَ فيه، وأُعينَ عليه بوفور مادتِه، وحُسن التهدّي إلى سلوكِ جادّتِه، وأعجَزَ عن الوفاءِ بشكر إفادتِها" (4).
بيدَ أنّ هذا الإكبار لابن الأبّار لم يمنَع ابنَ عبد الملك من أن ينتقدَ عليه جُملةَ أشياء، منها: تعصُّبُه الأندَلسي، كما تتبّع هفَواتٍ وقَعَت له في "التكملة"
(1) الذيل والتكملة 8/الترجمة 43.
(2)
المصدر نفسه 1/ 206.
(3)
المصدر نفسه 6/الترجمة 709.
(4)
المصدر نفسه.
وغيرها، فقد اتّهمه بالتعصُّب، لأنه عَدَّ من أهل الأندَلس "جماعةً من الناقلة إليها" أي: من الطارئينَ عليها وغير القاطنينَ في الأصل بها، وقال: إنه فعل ذلك "تشبُّعًا واستكثارًا وإفراطًا في التعصّب الذي كان الغالبَ عليه حتى غلا فيه"(1)، وكانت لدى ابن عبد الملك أمثلةٌ وأدلّة على هذا الاتّهام، واكتفَى في مقدّمة كتابِه بذكْر مثالٍ واحد منها فقال:"ويكفيك من مثل ذلك ما خَتَمَ به رَسْمَ أبي عبد الله بن عيسى ابن المُناصف رحمه الله بعدَ أن ذكَرَه في الأندَلُسيِّين، وذكَرَ من أحواله ما رأى أن يذكُرَه به، فقال: مولدُه بتونُس وقيل: بالمَهْديّة، وهو أصحّ. ثم قال: وذكْرُهُ في الغُرباء لا يَصلُح ضَنانةً بعلمه على العُدوة. وحسبُك ما اشتمل عليه هذا القولُ من الشهادة على قائله بما لا يَليقُ بأهل الإنصاف من العلماء، واستحكام الحسَد المذموم واحتقار طائفة كبيرة من الجِلّة العُدْويِّين، وفضلُ الله سبحانه رحمةٌ يختصُّ بها من يشاء، وموهبةٌ يُنيلُها من يختار. والله ذو الفضل العظيم"(2). وعندما ترجَم لابن المُناصِف المذكور في السِّفر الثامن معَ الغرباء، عاد إلى انتقاد ابن الأبّار فقال:"وقبَّح اللهُ الحسَدَ المذموم، فقد حمَل أبا عبد الله ابن الأبّار على ذكْرِه إيّاه في الأندلسيين تشبُّعًا لها ببعض ما ذكَرْناه به". وحِدّة ابن عبد الملك واضحةٌ هنا في انتقادِه ابنَ الأبّار ووَصْفِه بالتعصُّب المُفرِط والحسَد المستحكِم.
ومن الغريب سكوتُه عن ابن سَعِيد الذي عَدَّ ابنَ المُناصِف وأخوَيْه في القُرطُبيِّين الأندَلسيِّين، وعَدمُ تعرّضه للشقنديِّ الذي اعتبر أبا حَفْص الأغماتي الفاسيَّ من حسَنات الأندَلس وفاخَرَ به أهلَ العُدوة.
ويبدو أنّ عبارةَ ابن الأبّار التي يُفهَم منها احتقارُ العُدوة وأهلها هي التي أغضبت ابنَ عبد الملك وأنطقَتْه بما نطق به، وإلّا فقد وجدناه في مناسباتٍ
(1) الذيل والتكملة 1/ 206.
(2)
المصدر نفسه.
مماثلة يخالفُ ابنَ الأبّار ويمُرُّ مرَّ الكرام ولا يلتفتُ إلى الردِّ عليه، كما في ترجمة ابن خَيْر صاحب "الفِهرست" المشهورة، فابنُ الأبّار يسلُكُه في الأندَلسيِّين ويجعَلُه إشبيليًّا وخالَفَه ابن عبد الملك فذكَرَ الرجل في الغُرباء الطارئينَ على الأندلس وقال: إنه "فاسيُّ المولد والنشأة" ولم يُشرْ إلى صنيع ابن الأبار.
والواقعُ أنّ هذا الاختلافَ يدخُل في نطاق المنافرة بين العُدوتَيْن، ولقد أصبح بعضُ الأعلام منذُ امتزاج العُدوتَيْن في عهد المرابطين ومن بعدَهم محلَّ تنازع وموضعَ تجاذُب بين الأندَلسيِّينَ والمغاربة، والحقُّ أَنّ ابنَ عبد الملك تحَلّى بالإنصاف وتقيَّد بالشرط، وآيةُ ذلك أنه اعتبر ابنَ هشام النَّحويَّ اللُّغوي إشبيليًّا لا سَبْتيًّا وترجم له معَ الأندَلسيِّين لا مع الغُرباء، قال:"إشبيليٌّ سكنَ سبْتة، وجعَلَه ابنُ الأبّار منها فذكَرَه في الغُرباء غلطًا منه"(1)، كما أنه يعتبرُ ابن المُرحَّل مالَقيًّا لا سَبْتيًّا، مُراعيًا في كل ذلك مكانَ الولادة والنشأة.
وقد تتبَّع ابنُ عبد الملك هفَواتٍ لابن الأبّار فيما يخُصُّ وَفَيات بعض المترجَمين أو عَمُودَ نسبِهم أو نِسبتَهم، إلى غير ذلك، وسنكتفي بالإحالة على بعض مواضعها (2)، وربّما كان في بعض تعقيباتِه على ابن الأبّار شيءٌ من التجنِّي، ومثال ذلك: أنّ ابنَ الأبّار وَصَفَ كتابَ "تلخيص أسانيد الموطإ" لأبي محمد القُرطُبيّ بقوله: "وهو مما دَلّ على سَعة حفظِه وحُسن ضبطِه، وقد استدركتُ عليه مثلَه أو قريئا منه"، فعقّب ابن عبد الملك على هذا بقوله:"قال المصنِّف عفا اللهُ عنه: أسَرَّ ابنُ الأبّار في هذا الثناءِ حَسْوًا في ارتغاء، وأظهر زُهدًا في ضمنِه أشدُّ ابتغاء، ولم أقفْ على كتاب ابن الأبّار، غيرَ أنّي وجدتُه يَذكُرُ بعضَ ذلك في مواضعَ من "تكملته" وفي أمَلي التفرُّغُ لالتقاطِه إن شاء الله، وأرى أنه محلُّ استدراك ومجال اشتراك، فقد وقَفْت على ما لم يذكراه، وعثرت فيما طالعتُ على ما لم يَسطُراه، والإحاطةُ لله وحدَه"(3).
(1) الذيل والتكملة 6/ الترجمة 162.
(2)
المصدر نفسه 1/الترجمة 48، 94، 104، 387، 414 و 4/الترجمة 229.
(3)
المصدر نفسه 4/الترجمة 365.
ومن انتقاد ابن عبد الملك على ابن الأبّار، الذي نُحسُّ فيه شيئًا من التعسُّف والتهويل المبالَغ فيه والتحرُّج الذي لا معنى له: قولُه: "وكذلك ذِكْره طائفةً كبيرة ليست من شرطِ كتابِه ولا كتابَي الشّيخَيْنِ: أبي الوليد ابن الفَرَضي وأبي القاسم ابن بَشْكوال؛ لأنهم لم يُرسَموا بفنّ من فنون العلم وإن ذُكروا بصلاح وخيرٍ واجتهاد في العبادة وانقطاع إلى أعمال البِرّ، فلذكرِهم مجموعٌ آخَر يشملُهم مع من كان على مثل أحوالهم. وأقبحُ من هذا كلِّه وأشنع: ذكْرُه نساءً تُنزّهُ الصّحفُ عن تسويدها بذكْرِهنّ فيها معَ أهل العلم الذين هم خواصُّ عباد الله. اللهمّ إلا مَن قصَدَ في تأليفه إلى ذكْرِ أهل البِطالة والمُجّان والقِيَان اللّواتي يكادُ الخوضُ في ذكرِهنّ يكونُ وَصْمة وجَرْحة فيمَن تعرَّض له. نستعيذُ بالله من إعمال القلم في ذكرِ واحدةٍ منهنّ، ونرى الإعراضَ عنه دينًا، وليتَ شعري! إذ ذكَرَ هؤلاء النِّسوةَ اللائي هنّ بهذه الصِّفات، فما بالُه أغفَل أضعافَ أعدادِهنّ من الرّجال الذين هم على مثل حالهنّ؟ إنّها لَعثرةٌ لا تُقال، وزلّةٌ لا تُغتفَر، وسيّئةٌ لا تكفيرَ لها، وكبيرة يجبُ المَتابُ منها والإقلاعُ بتوفيق الله عنها، والله حسبُنا ونعمَ الوكيل"(1).
ولقد عارضنا تراجمَ النساءِ عند ابن عبد الملك بتراجمهنَّ عند ابن الأبّار، فتبيَّن لنا أنّ ابنَ عبد الملك اقتصَر على من ذُكِرْنَ بقراءة أو كتابة أو رواية أو ما يتّصلُ بذلك ممّن هنّ من شَرْط كتابه وكُتُب مَن قبلَه ولم يصنَعْ صنيعَ ابن الأبّار في التعميم، ولكنّ هذا الصَّنيع لا يستحقُّ كلَّ هذا الانتقاد الذي هو في نظرِنا من جموح حِدّته التي وصَفَه بها ابنُ الزُّبير.
وهو يسيءُ الظنَّ باطّلاعه أحيانًا ويشكِّك في وقوفِه على بعض ما يَذكُرُه أو يصفُه في "تكملته"، قال في ترجمة عليّ بن كوثر:"وقد ذَكَرَ أبو عبد الله ابنُ الأبّار مصنّفاتِه فقال: وله تأليفُ ومجموعات منها: "كتابُ الوسيلة لإصابة المعنى
(1) الذيل والتكملة 1/ 207.
في أسماءِ الله الحُسنَى" فأوهَمَ بذلك أنه تأليفٌ غيرُ منظوم على نحو "المقصِد الأسنَى" لأبي حامد الغَزّالي أو "الأمدِ الأقصى" لأبي بكر ابن العَرَبيّ أو غيرِهما مما جَرى مجراهما وألف في معناهما، وهذه الوسيلةُ كما وصفتُ لك، وما أرى ابنَ الأبّار وقَفَ عليها".
كما كثُرت تعقيباتُ ابن عبد الملك في كتابه على شيخِه ابن الزُّبير، ولا تخلو هذه التعقيباتُ من الحِدّة التي نَعَت الشيخُ المذكورُ بها تلميذَه، فهو يستعمل فيها ألفاظَ الوَهم والغلط والخطإ والخَلْط والتخليط وما أشبهَها، وليس في نيّتنا هنا تتبّعُ هذه التعقيبات التي أتيحَ لابن عبد الملك أن يقفَ على وجه الصّواب فيها، وإنّما نشير إليها في معرِض الحديث عن حِدّته مُحيلين على بعض مواضعها في كتابه (1).
ومن أكثر هذه التعقيبات حِدّةً وأشدِّها قسوةً: قولُه في ترجمة محمد بن أحلى: "قال المصنِّفُ عفا الله عنه: كان ابنُ الزُّبير قد بعَثَ إليّ برَدْع الجاهل وبالرَّجز المذكورين، فأمّا ردعُ الجاهل فأقلُّ شيء فائدةً وأبعدُه عن النفع بعلم، مع أنّ بعض أصحابِنا نقَل لي عن بعض أصحابِ ابن أحلى أنهم يقولون: إن ابنَ الزُّبير لم يفهَمْ عنهم شيئًا ولا يتلاقَى كلامُه معَهم في وِرد ولا صَدَر، وأمّا الرجَزُ المشارُ إليه فقد تقدّم التنبيهُ عليه في رَسْم ابن الزُّبير ورداءة نظمه وخلوِّه من المعنى، وأنه هزأة للمستهزئين، ولقد كان في غنًى عن التعرُّض لنظمه وأوْلى الناس بسَتْر عاره منه، والله يُبقي علينا عقولَنا وُيرشدُنا إلى ما يُرضيه عنا بفضلِه وكرمه"(2).
وقال في آخرِ تعقيباتٍ طويلة على ابن الزُّبير من ترجمة ابن البَرّاق بعد أن وَصَمَه بالتخليط الفاحش في إيراد شيوخ المذكور: "وقد أحوَجَنا فعلُ ابن الزُّبير في ذكْره أشياخَ ابن البَرّاق وقلّة تثبُّته في نقلِه إياهم واعتماده ذكْرَ المَلّاحي إياهم
(1) انظر الذيل والتكملة 1/الترجمة 94، 104، 148، 167، 177، 202، 237، 292، 363، 374، 387، 411، 851 و 5/الترجمة 1220، 1273 و 6/الترجمة 1219.
(2)
الذيل والتكملة 6/الترجمة 1178.
وما انجرَ بسبب ذلك كلِّه إلى إطالة ليست من شأننا، أردنا بذلك التنبيه على عمل ابن الزُّبير في كثير ممّن اشتملَ عليه كتابُه ولنُبيِّن أنّ الإتقانَ له رجال خصَّهم اللهُ بفضيلتِه، نفَعَ اللهُ بهم، وأوجَدَنا بركةَ الاقتداء بهم" (1). هذا رأيُه في عمل ابن الزُّبير وكتابِه "صلة الصِّلة"، وذلك اعتدادُه بنفسه وزهوُه بعمله الذي وجَدْناه يُفصح عنه في مناسباتٍ متعدِّدة.
وأمّا ابنُ فَرتون الفاسيُّ فقد انتقد ابنُ عبد الملك كتابَه "الذّيل" جملةً وتفصيلًا، وقال: إنه "لم يعتبرْ في كتابه تطبيقًا، ولا سلَكَ من ذلك الترتيب طريقًا"، وأنه "أتى بالأسماء كيف اتَّفق له"، وأنه لم يكن يعقِلُ منهجَ مؤلِّفي "الصِّلات" والترتيبَ الذي بنَوْا عليه كتبهم، واعتبر ابنَ الزُّبير "مُصلحَ كتابِه ومكمِّلَه"، ولم يلتمسْ لابن فَرْتون العُذرَ كما التمسَ له تلميذُه ابنُ الزُّبير، وفي "الذَّيل والتكملة" إشاراتٌ متعدِّدة إلى أوهام ابن فَرتون.
وبالجملة، فقد كان ابنُ عبد الملك معنيًّا بتتبُّع الهَنَات وتصيُّد الهَفَوات، ولم يُعفِ من ذلك من اشتُهروا بالضبطِ من الأعلام كالقاضي عِيَاض وابن خَيْر وابن الرُّومية وابن عساكر.
ولكنّ الرجلَ كان -فيما عدا هذا البَأْوَ بتمكُّنه والزهو بتضلُّعه- من أهل التواضُع وخَفْض الجناح، يتبرَّكُ بزيارة قُبور عِباد الله الصّالحين كأبي مَدْيَن الغَوْث وأبي محمد عبد السلام التونُسيِّ في تِلِمسان، وأبي شُعَيْب السارية في أَزْمُور وأبي يعزى وغيرهم، ويسألُ نفْعَ اللهُ بهم كلّما أجرى ذكْرَهم (2). وأمّا انتقاداتُه التي أشرنا إلى نماذج منها فلم تكنْ صادرةً عن طبيعة مولَعة بنشر المعايب والمآخِذ كما ذهب إلى ذلك بعضُ مُعاصريه، وإنّما هي انتقاداتٌ علميّة قَصدَ فيها إلى تصحيح الأخطاء وتصويبِ الأغلاط، وصدَرَت عن نزوعٍ قويّ إلى الضّبط والتدقيق وولوع شديد بالتنقيح والتحقيق.
(1) الذيل والتكملة 6/الترجمة 1241.
(2)
المصدر نفسه 4/الترجمة 245.