الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مدة متلبِّسًا بعقد الشروط ثم عاد إلى الأندلس" (1). وينبغي أن تكون رؤيته للمذكور في عهد طفولته، ومنها أَيضًا ما وَرَدَ في ترجمة المؤرِّخ أبي العباس بن هارون السُّماتي المتوفَّى سنة 649 هـ، وسنرى فيما بعدُ إلى أيِّ حدّ أفاد ابنُ عبد الملك من مخلَّفاته، قال: "أدركتُه وعاينتُه بدكّان انتصابه لعقد الشروط وبغيرها شيخًا نقيَّ الشيبة حسن القَدّ، نظيف الملبس وقورًا" (2).
شيوخه:
درَسَ ابن عبد الملك على طائفة من الشيوخ، وأخَذ عن جماعة من الأساتيذ، بطرق الأخذ المعروفة، وكيفيّات التحمّل المعهودة، ما بين قراءة وسماع وإجازة، وإذا كان لم يخصِّص لشيوخه برنامجًا حسَب العادة المتّبعة في الغالب فإنّ كتابه "الذّيل والتكملة" ينطوي على ما يُستخرج منه برنامجٌ خاصّ بهم، وقد تتبّعنا هؤلاءِ الشيوخَ وجرّدناهم من الأسفار الموجودة بين أيدينا من"الذّيل والتكملة"، فوجدناهم أكثر من خمسين شيخًا، وابن عبد الملك مع هذا يُعَدُّ مِقلًّا بالقياس إلى بعض من يترجم بهم في معجَمه، ولهذا وصفه ابن الزُّبير -الذي يزيد شيوخُه على المئة- بقلة السماع.
ويلاحَظُ أنّ ابن الزُّبير، في ترجمة صاحبنا، لم يُسَمِّ من شيوخه إلَّا الرُّعينيَّ وابنَ هشام وابن عُفَير بينما ذكَرَ منهم ابنُ فَرْحون في "الدّيباج" أَبا زكريا بن عتيق وأبا القاسم البَلَويّ وأبا محمد حَسَن ابن القَطّان والرُّعيني، وهؤلاء في مجموعهم لا يؤلِّفون إلَّا ستةً من شيوخه الذين يزيدون على خمسينَ شيخًا كما ذكرنا.
وسنَذكُرُ فيما يلي هؤلاء الشيوخَ بشيء من التفصيل؛ لأنّ من شأن هذا أن يُبرزَ بيئةَ ابن عبد الملك الثقافيةَ، ويكشِفَ عن مراحل دراستِه وأطوار تعلّمه، ويُظهرَ جهودَه في سبيل الدَّرْس والتحصيل، ويصوِّرَ ما كان عليه الرجل من عزم صادق وسعي دائب إلى العلم والمعرفة.
(1) الذيل والتكملة 5/الترجمة 1201.
(2)
المصدر نفسه 1/الترجمة 417.
وقد بدأنا بالشيوخ الذين درَس عليهم بمستقرّه وأخَذ عنهم مباشرةً في بلده مَرّاكش، وحاوَلْنا ترتيبَ هؤلاء بحسَب تواريخ تعلُّمه عليهم التي نَصّ عليها أحيانًا، ثم أتبعناهم بالشيوخ الذين لقيهم وقرأ عليهم في مدن أخرى بالمغرب والأندَلُس، وذكَرْنا في الأخير الشيوخ الذين لم يلقَهم وإنّما أخذ عنهم بالإجازة والمكاتبة، وقد أشرنا إلى الشيوخ الذين كان لهم أثر بارز في تكوين ابن عبد الملك العلمي بكيفيّةٍ خاصّة أو عامة.
1 -
من شيوخ ابن عبد الملك في المرحلة الأولى من مراحل تعليمه: أبو زكريّا يحيى بن أحمد بن عتيق (1)، وقد قرأ عليه مدّة من الزمن بمدينة مَرّاكش حوالَيْ سنة 655 هـ وبعدها، أى: منذ كان في السادسةَ عشْرةَ من عمره، تلا عليه القرآن الكريم بالقراءات السبع، وقرأ عليه "حماسةَ" أبي تَمَّام، وكان يشارك في حلقة هذا الدّرس من هم أسنُّ منه بأزيدَ من عشْر سنين (2)، كما درَس عليه النَّحويّ كتاب "الجُمَل" للزّجّاجي ثم في "الكتاب" لسيبويه على ما نظُنّ. فقد ذكر ابن عبد الملك في ترجمة ابن خَرُوف النَّحويّ شارح "الجُمَل" و"الكتاب" أنّ أَبا زكريا بن عتيق ممّن حدّثه عن المذكور، ونقل ما يلي:"وقال لي شيخُنا أبو زكريا بن عتيق: كان (أى: ابنُ خَروف) شديد الضّجر عند تتبّع البحث معه، والمساءلة له، فعهدي به مراتٍ إذا ضويق في المجلس يأخُذ قُرْقَيه ويقوم من مجلسه دون سلام ولا كلام، ويتَخطّى ما يقابله من الحلقة، ثم يرُدُّ وجهَه إلى الطلبة ويقول لهم: ما أراكم عزمتم على إكمال قراءة "الكتاب" ما أخذتم أنفسَكم بهذه المآخذ، أو نحو هذا من القول، ثم ينصرف"(3).
ونعُدُّ هذا الشيخ من شيوخ ابن عبد الملك الأوّلين اعتمادًا على سنِّه يومئذ من جهة وعلى مقروئه عليه من جهة ثانية، فزيادةً على تلاوة القرآن الكريم كان
(1) الذيل والتكملة 1/الترجمة 28.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
المصدر نفسه 5/الترجمة 635، والقرق: خف يشبه الصندل.
كتاب "الجُمَل" وكتاب "الحماسة" معدودَيْنِ من كتب المبتدئينَ في برنامَج التعليم على عهد ابن عبد الملك حسبما ذكر هو نفسُه في كتابه (1).
2 -
ومن الشيوخ الذي درَس عليهم في مَرّاكش وهو يافعٌ بعدُ: أبو القاسم أَحْمد بن محمد البَلَويّ، قال ابن عبد الملك في ترجمة أَحْمد بن فَرَج:"وقَدِم على مَرّاكُش بعد الخمسين وست مئة، وصَحِبَنا مدّة عند شيخَيْنا أبي زكريا ابن عتيق وأبي القاسم البَلَوي"(2). وهو يشرح لنا ما قرأ على هذا الشيخ في قوله: "وقرأت عليه كثيرًا من الحديثِ والآداب، وتلوتُ عليه بعضَ القرآن برواية وَرْش، وتدرَّبتُ بين يديه في علم العَروض، وصنعة الحساب، وعمل الفرائض، وأجاز لي إجازةً عامة، وكان عدَديًّا مهندسًا فَرَضيًّا عَدْلًا مَرْضيًّا شديدَ الشّغَف بالعلم حريصًا عليه لا يأنَفُ من استفادته من الصغير والكبير، ولقد ذاكرني بمسائلَ وأنا ابن ستَّ عشْرةَ سنة أو نحوها، فذكرتُ له ما عندي فيها ثم بعد حين وقفت عليها مقيَّدةً بخطه وقد ختمها بقوله: "أفادنيها الطالبُ الأنجبُ الأنبل أبو عبد الله ابنُ عبد الملك حفِظَه الله" (3). وروى عنه مؤلفاتِه في العروض والقوافي، وهي: "المقطوفُ من تدقيق وَضْع الميزان لعلم العروض والأوزان" و"المعطوف من تحقيق العِيان للفَرْش والمثال في غاية البيان" و"عُمدة الاقتصار وزُبدة الاختصار" كما سمع مجموعَه في الأدب الذي سماه: "روضَ الأديب والمَنْزهَ العجيب" وهو كتاب في منتقى الأشعار مرتّب على فنون الشعر وأغراضه ضاهَى به "حماسة" الجُراوي. ولا تمثِّل هذه إلا مقدارَ الربع بالقياس إليه، مع أن البَلَويَّ لم يُنجز من الكتاب المذكور إلا نحوَ ثلثه حسب مخططه، ثم "عجَزَ للكبرة عن إتمامه" كما يقول ابن عبد الملك (4). ويُفهم من حديث ابن عبد الملك أنه كانت
(1) الذيل والتكملة 5/الترجمة 457.
(2)
المصدر نفسه 1/الترجمة 484.
(3)
المصدر نفسه 1/الترجمة 674.
(4)
المصدر نفسه.
له خصوصية بهذا الشيخ وملازمةٌ له، ولم تكنْ صلته به مقتصرة على حلقة درسِه، وإنّما كان يسايره ويذاكره خارج الحلقة ويجالسه في دُكّانه الذي كان يتَصدّى فيه لعقد الشروط (1).
ولعل ابن عبد الملك كان الراويةَ الأول لشعر هذا الشيخ الشَّاعر المكثر، قال:"أنشدني من شعره ما لا أحصيه كثرة، وشاهدت من ارتجاله إياه وسرعة بديهته ما أقضي منه العجب، وسمعته يقول غيرَ مرة: لو شئت أن لا أتكلّم في حاجة تعرِض لي مع أحد وأحاوره إلا بكلام منظوم لفعلت غيرَ متكلِّف ذلك"(2)، وهذا شبيه بما يُروى عن أبي العتاهية، وبما سيرد في الكلام على شيخ المؤلف ابن المرحّل، ولم يبقَ من هذا الشعر الغزير الذي كان يحفَظُ بعضه ويلهَجُ بذكره أدباءُ إشبيلية (3) وشعراؤها إلا أقلُّ القليل. هذا، ولا بد أنّ ابن عبد الملك تأثر بشيخه المذكور في صناعة الترسيل التي كان من المبرِّزين فيها، والمؤدبين بها، وله فيها كتاب أسماه "تشبيبَ الإبريز" وصل إلينا بعضه (4).
بدأت صحبةُ ابن عبد الملك لشيخه البَلَوي حوالَيْ سنة 650 هـ، واستمرّت حتَّى وفاة الشيخ سنة 657 هـ، ويقُصُّ علينا ابنُ عبد الملك من ذكريات هذا الشيخ في آخر أيامه ما يلي: "وكان رحمه الله كثيرًا ما يقول وسمعته غير مرة منه: إنّ من أكبر أمنياتي على الله أن أعمَّر عُمرَ أبي، ويقول: إن أباه تُوفِّي ابنَ اثنين وثمانين عامًا، فلما كان منتصَفُ جُمادى الأخرى من عام وفاته أقبل إلى دُكّانه الذي كان يتصدى فيه لعقد الشروط، فصَعِد إليه وقعد منه بموضعه المعلوم له، واستعبر طويلًا وأنا حاضر ثم قال: اليومَ بلغتُ من السنّ ما كنت أتمنى على
(1) الذيل والتكملة 1/الترجمة 674.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
اختصار القدح: 120.
(4)
الذيل والتكملة 1/الترجمة 674 ويوجد قسم من تشبيب الإبريز بالخزانة الحسنية بالرباط.
الله أن يُعمِّرَنيه، فأنا اليوم ابنُ ثنتين وثمانين سنة. ثم عاش بعد ذلك شهرين وعشرين يومًا" (1).
كما وَصف الحِرمانَ الذي ابتُلي به، والفاقةَ التي ألحَّت عليه في آخر حياته فقال:"وأدركتْهُ في آخِر حياته فاقة شديدة اضطر من أجلها إلى الانتقال إلى حاحة -من أعمال مَرّاكُش وبواديها القريبة منها على نحو أربع مراحل منها- لتعليم العربية بعضَ بني أحد رؤساء البربر بها فأقام عنده نحوَ سبعة أشهر، وعاد إلى مَرّاكُش ببعض ما أسدَى إليه ذلك الرئيسُ أيام مقامه عنده وكان نَزْرًا أجرى منه ما أقام أوَدَه على تقتير مدة قصيرة فنفِدَ، وأرى ذلك كان في سنة ثلاث وخمسين أو نحوها، وبقي في حال ضعيفة يرتزق من عائد إليه في عقد الشروط لم يكن يفي بأقلِّ مُؤنة، حتَّى قيَّض الله له وصولَ الواعظ أبي عبد الله بن أبي بكر ابن رشيد البغداديِّ، المذكور في موضعه من الغرباء في هذا المجموع، فتعرَّف به وتحقق فضله فصيَّره في كفالته وقام به أحسنَ قيام، جزاه الله أفضل جزائه. وكان ذلك من أقبح ما جرت به الأقدار من موجِبات النقد على صنفه وجيرانه من المنتمينَ إلى العلم والمرتسِمينَ به وغيرهم من رؤساء حضرة مَرّاكُش، فقد كان الجارَ الجُنُبَ لشيخنا أبي الحسن الرُّعيني رحمه الله، لا يفصل بين داريهما دار أحد من خلق الله، وشيخُنا أبو الحسن هذا أوفرُ أهل الحضرة مالًا وأعظمُهم جاهًا، وهو بلديُّه، وقد انتفع به كثيرًا في طريقته التي بها رَأَسَ وبالاستعمال فيها شُهر، وهي الكتابة عن السلاطين، فلم تجرِ له على يده قطُّ منفعة ولا نال من قِبَلِه ولا بسببه فائدة. فإنّا لله وإنا إليه راجعون"(2).
وقد ولي هذا الشيخُ المحروم خُطّة الكتابة عن عدد من "السادة" الموحِّدين الولاة بالأندلس، وخُطة العدالة، والتدريس، وخدم بتآليفه بعض ذوي النفوذ
(1) الذيل والتكملة 1/الترجمة 674.
(2)
المصدر نفسه.
في عصره، مثل نقيب الطلبة العراقي والمشرف ابن سُهَيل، كما أخذ بضَبُعه الكاتبُ ابن عَيّاش، والواعظ ابن رشيد، ولا بدّ أنّ تلميذه ابن عبد الملك كان يرعى حقوقه، ولكنّ حِرفةَ الأدب أدركت هذا الشيخَ الأديب، فحالفه الحِرمانُ، سواء في حياته بإشبيلية كما ذكر ابن سعيد وقَسَا عليه، أو في أيامه بمَرّاكش كما وصف ابنُ عبد الملك ورَثَى لحالِه، وانتقد أهل عصره ومنهم شيخه الرُّعيني.
3 -
يُعتبر الرُّعينيُّ المذكور أبرزَ شيوخ ابن عبد الملك وأكثرَهم ورودًا في كتابه، فقد ذكره أكثر من ستينَ مرة في الأسفار الباقية، ونقل عنه فوائدَ كثيرة، وروى من طريقه أحاديثَ عديدة، وأنشد بواسطته إنشاداتٍ مختلفة، مما تضمَّنه برنامَجُ الشيخ ومن غيره، ويكاد محتوى برنامج الرُّعينيِّ كله أن يكون مبثوثًا في "الذّيل والتكملة".
وقد استقرَّ الرّعينيّ بمَرّاكُش ابتداءً من سنة 640 هـ، حيث ولي الكتابة على التوالي عن الخلفاء الموحّدين: الرّشيد والسَّعيد والمُرتضَى والواثق آخِرِهم. ولا شكّ أنه كان على جانب كبير من المداراة حتَّى استطاع أن يحتفظ بمنصبه في دار الخلافة طوالَ هذه الحِقبة المضطربة، وغدا "أوفرَ أهل الحضرة مالًا وأعظمَهم جاهًا" كما يقول تلميذه، وكان قد كتب في الأندلس لمختلف الأمراء والمُتأمِّرين في قُرطُبة وإشبيلِيَةَ حتَّى ضَياعِهما ثم بغَرناطة، وأوى بعد ذلك إلى حضرة مَرّاكش مُدْليًا بصناعته في الكتابة الدّيوانية حينما لم يبقَ في الأندلس ذِماء، ونُشدانًا للأمان، من ريب الزمان.
ولم نقفْ في الأسفار الموجودة من "الذّيل" على تاريخ اتّصال ابن عبد الملك بالرُّعيني، ولا بدّ أنه اتّصل به قبل 650 هـ، أى: حينما أصبح في مستوى الدراسة وسن الرواية، وقد "صَحِبه كثيرًا" أى: منذ التاريخ المفترض حتى وفاته سنة 666 هـ وأصبح تلميذه الأثير لديه، وكان الرُّعّيْنيُّ يدعوه "صاحبي ومحلَّ ابني"، وقد دَرَس عليه مختلَف العلوم التي يشير إليها برنامَجُه، ومنها: القراءات، وعلوم القرآن والحديث الذي أصبح فيه هذا الشيخ أعلى شيوخ ابن عبد الملك في
الرواية كما يقول الحافظ ابن الزُّبير (1)، كما قرأ عليه علومَ الحديث والفقهَ وأصُوله، وعلمَ الكلام، وعلوم العربية، والآدابَ وغيرَها.
استفاد ابنُ عبد الملك كثيرًا من شيخه الرُّعينيّ، واستفاد الشيخ من تلميذه النجيب أحيانًا بعضَ الفوائد العلمية والأدبية، وكانت الصّلةُ بين الرجلين أقوى من التلمذة والمشيخة وأقربَ ما تكون إلى الصّحبة والزَّمالة، وفي هذا يقول ابنُ الزُّبير:"وكان الكاتبُ أبو الحَسَن الرُّعَيني يَستحسن أغراضَه ويستنبل منازَعه، وكتب له على بعض كتبه بخطه بصاحبي ومحلِّ ابني، لفَتاءِ سنِّه وفائقي نباهةِ خاطره وذكاءِ ذهنه، وكان (ابنُ عبد الملك) يفخرُ بذلك"(2).
وصلَتْ إلينا إجازةُ الرُّعيني لابن عبد الملك مؤرَّخة في 664 هـ أي: قبل وفاة الرُّعيني بسنتين، وفي هذه الإجازة حَلّى الشّيخ تلميذه بحُلى منها:"الفقيهُ العارف الأديبُ المحصِّل"، كما حَلّى والده بالفقيه الصالح الفاضل المرحوم، وامتَدح نبوغَه ونباهته، وذكر أنه قرأ عليه بلفظه برنامجَه المعروف ثم ناوَلَه إياه، وأباح له أن يرويَ كل ما شَذّ عن البرنامَج إذا صَحّ عنده، كما أجاز له كل مجموعاته ومؤلفاته ومرويّاته "وما استَحسَنَ أن يرويَه من نظمي ونثري وما يُلفيه من منشَدات شيوخي، وما أحمله أو أنتحلُه .. فهو أهل لذلك"(3).
كان ابن عبد الملك صاحبًا لأبي الحُسَين محمد وَلَد شيخِه الرُّعَيْنيِّ الذي توفِّي في حياة والده، وقد حضَر جنازتَه وروى بعضَ ما أنشِد على قبرِه بعد الفراغ من مواراته ونعَتَه بالأنجب (4).
4 -
كما نصَّ من جهةٍ ثانية على أنه روى عن أبي محمد عبد الله الرُّعَيْنيّ شَقِيق شيخه أبي الحَسَنُ وسمّاه من شيوخه.
(1) صلة الصلة 3/الترجمة 36.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
انظر صورتها في برنامج الرعيني.
(4)
الذيل والتكملة 6/ الترجمة 310.
5 -
ومن الشيوخ الذين دَرَس عليهم ابنُ عبد الملك بمَرّاكُش: المؤرِّخُ القاضي أبو محمد حَسَنٌ ابن القَطّان، ذكره من شيوخه في الموجود من"الذّيل"، وروى عنه أزَيدَ من عَشْر مرات.
وقد يكون تحدَّث عن مبلغ صلته به، وما دَرَس عليه، في ترجمته له من قسم الغُرباء المفقود إن كان على شرط كتابه، ويخبرنا الؤلّف أن شيخَه هذا هو الذي وضع العناوين المسجوعة لبعض مؤلَّفات والده الحافظ، ويبدو أنّ ابنَ عبد الملك يرويها، أو بعضَها، من طريقه، وسنذكر فيما بعدُ عمله في كتاب "بيان الوهم والإيهام" أشهر مؤلفات ابن القَطّان الأب، ولا بدّ أنّ المؤلِّف أخذ عن شيخه ابن القطَّان الابن كُتبَه التي ألّفها للخليفة المرتضَى، ومنها:"نظمُ الجُمان" وقد نُشِرت قطعة منه، و"شفاء العِلَل في أخبار الأنبياء والرسل" و"المناجاة" و"المسموعات" و"الرَّوضاتُ البهيّةُ الوَسِيمة في الغزَوات النبَويّة الكريمة" وهي في خزانة القَرَويِّين في نُسخة كُتبت للمرتضَى بتاريخ 662 هـ، و"الأحكام في معجِزات النبيِّ عليه الصلاة والسلام" وقد رَجَّزه أبو الحسن الجَيّانيّ وأبو الحسن الرّهوني، ويوجد الأصل وترجيزُه الثاني مخطوطَيْنِ في خزانة القَرَويين (1). ولا بدّ أنّ اهتمامَ ابن عبد الملك بالتاريخ يرجِعُ شيءٌ منه إلى شيخه هذا، وقد ذكر في ترجمته لخاله ابن الفاسيِّ أنّ ابن القَطّان صَحِبَ خالَه المذكور طويلًا واشترك معه في الأخذ عن الشيوخ وأنه كان يشهَدُ "بتبريزه في النُّبل والاشتمال على خلال الفضل"، ولا بدّ أنّ ابن القَطّان رَعى ابنَ عبد الملك وعُني به من أَجل هذا ونحوه، ولكنّ ابن عبد الملك، بصراحتِه المعهودة وصرامته في النقد العلميِّ وغيره، لم يَغُضَّ الطّرف عن تَعداد ما كان يُنْعى على والد شيخِه المذكور، وهذه شَنْشنتُه في عدم التوقف عن سرد المآخذ العلميّة وغيرها حتى ولو كانت تتعلق بشيوخه، وقد رأينا آنفًا نقدَه لشيخه أبي الحَسَن الرُّعَينيّ.
(1) البيان المغرب: 453 (القسم الموحدي) وفهرس مخطوطات خزانة القرويين.
6 -
ومن شيوخ المؤلِّف في مَرّاكُش، الذين سماهم في كتابه عدّة مرات: الفقيهُ القاضي أبو إسحاق إبراهيمُ بن أَحْمد ابن القَشّاش، وهو مَرّاكُشيٌّ ينتمي إلى الأَوْس مثل ابن عبد الملك، ووَلِي قضاء الجماعة في عهد الواثق أبي دَبّوس آخِرِ الموحّدين، وذلك في وقت اختلّت فيه "الأمورُ والأحوال، وكثُر فيه وفي غيره من بعض النَّاس الأقوال" وكان قد بلغ يومَئذٍ نيِّفًا وثمانينَ سنة، فكتب إلى الواثق رسالة طويلة يرغَبُ إليه أن يأمُر"بأحد شيئين: إمّا بصرفه وإراحته بالإعفاء، وإما بنصره وشدِّ أزره"، وقد تمسَّك به الخليفة وأمر بالبحث عن المتكلِّمين في الخُطة وصاحبها "والنظر في قضيتهم بما يظهر له" (1).
أمّا ما قرأه ابن عبد الملك على هذا الشيخ فربّما عَرَضَ له في ترجمته في قسم الغُرباء المفقودِ الآن، ولعله على شرطه، ونستنتجُ من المرّات التي ذُكِر فيها في "الذيل" أنه أخذ عنه ما يرجع إلى رواية الحديث والفقه، وهذا نموذجٌ مما رواه عنه، قال: "قرأتُ على شيخنا أبي إسحاق ابن القَشّاش بمَرّاكُش، قال: قرأتُ على الشيخ الحاجِّ الراوية أبي عبد الله الأنْدَرْشيّ، قال: أنشَدَني الحافظ الإِمام أبو القاسم عليُّ بن الحسن، قدّسه الله، ابن عساكر لنفسِه:
واظِبْ على جَمْع الحديث وكَتْبِهِ
…
واجهَدْ على تصحيحِه في كُتْبِه" (2)
7 -
ومن شيوخه المَرّاكُشيّينَ أَيضًا: أبو عبدُ الله محمد بن عليّ بن يحيى المدعوُّ بالشريف -شُهرةً لا نسبًا- المتوفّى بمَرّاكش عام 682 هـ. ولي قضاء الجماعة بمَرّاكش في عهد أمير المسلمين يعقوبَ بن عبد الحق المَرِيني (3). كان "يدرِّس "كتابَ سيبويه" والفقهَ والحديث، ويميل إلى الاجتهاد، وله مشاركة
(1) الورقات الأخيرة من البيان المغرب: 4 - 5.
(2)
الذيل والتكملة 6/ الترجمة 90.
(3)
الذخيرة السنية: 86.
في الأصول والكلام والمنطق والحساب، ويغلِبُ عليه البحث لا الحفظ" (1). ويبدو أنه لم يكنْ من شرط المؤلف، ولذلك لم نجدْ ترجمتَه في موضعها من السِّفر الثامن. ولا بدّ أنّ ابن عبد الملك حضَرَ دروسَه في الموادّ المذكورة، وقد وقَفْنا على روايته عن شيخه هذا فِهرِسةَ أبي الحَسَنُ عليّ ابن القَطّان (2).
ومما يوضِّح مستوى الصِّلة التي كانت بين ابن عبد الملك وشيخه هذا ما وَرَدَ في ترجمة علي ابن القَطّان في معرِض ما كان ينعَى على هذا من إفراط الكِبْر وشدة العُجب حتى لم يكن يبدأُ أحدًا بالسلام ولا يرُدُّه على من يبدأ به، قال:"وذاكرت بذلك شيخَنا أَبا عبد الله المدعوَّ بالشريف، وكان من المتشيِّعين فيه والمتشبعين بذكْرِه المتعصِّبين له، فقال لي: إنه كان يسألُ عن ذلك ويذكر له ما فيه عليه، فيجيب معتذرًا باستغراق فكره واشتغال باله بالنظر في أجوبة ما وقع من المسائل العلمية بمجلس سلطان الوقت أو في إعداد مسائلَ يلقيها بينَهم به، فهو لا يزال خاطره معمورًا بذلك وذهنه مغمورًا به، زاعمًا أنه لا يرى أحدًا ممن يمرُّ هو به، فقلت له: يدفع ذلك حكايتُه عن نفسه مشاهدةَ ابن العثماني في مروره به على ما سآتي به بذكره إن شاء الله، فانقطع". وبعد أن ذكر ما كان ينعى على المذكور أَيضًا من غلُوٍّ في آل عبد المؤمن مشيرًا إلى قصة وردت في برنامَج ابن القَطّان فيها غلُوٌّ في المنصور واستخفافٌ بالعلم وأهله، قال: "ولقد ذاكرت بهذا الفصل أَيضًا شيخَنا أَبا عبد الله المذكورَ وأبديت له ما فيه من الدلالة على قبيح الغلوّ، فاعتذر عنه بأنّ حاملَه عليه تخوُّفُه من أبي عبد الله العادل ابن المنصور، فإنه كان قد أخمله كثيرًا، وكان يتوقع منه شرًّا، فقلت له: إنما وضع برنامَجه بعد موت العادل وموت أبي القاسم بن بَقِي، وأيضًا فهلّا ذكَرَ ذلك في رسم المنصور فيكونَ ذلك أتقنَ في التأليف وأجرى على سَنَن المصنّف في الإعلام بالشيوخ!
(1) بغية الوعاة (328) والإعلام بمن حلّ 4/ 281.
(2)
مذكرات ابن الحاج: 103 (نسخة مرقونة).
فأمّا أن يذكر الشيخ في موضع ومولده بعد رَسْمه بأربعةَ عشَرَ شيخًا فعملٌ لم تجرِ العادة به ولا خفاء بما فيه، ثم إن شاء الله ذَكَرَ أَبا القاسم بن بَقِي بما يليق به إن رأى ذكره في شيوخه أو الإضراب عنه رأسًا! فلم يُحرِ جوابًا (يعني شيخَه أَبا عبد الله الشريف) " (1).
ولعل هذه المناقشةَ بين ابن عبد الملك وشيخه أبي عبد الله الشريف جرت في أثناء قراءته عليه الفِهرِسة التي وضعها الحافظ أبو الحَسَن ابن القَطّان.
وثمّةَ أعلامٌ أندَلُسيّونَ آخرَون وُلدوا بمَرّاكُش أو نَزلوا بها، اتّصل بهم ابن عبد الملك وجالسَهم وذاكرهم، ولكنّه لم يصرحْ بمشيختهم له.
8 -
ومنهم: أبو عبد الله ابن الطَّراوة، وهو من بيت بني الطّراوة المالَقيِّين المعروفين، وُلد بمَرّاكُش ونشَأ بها في رعاية خالِه أبي الحَسَنُ عليّ بن عيّاش شيخ الكُتّاب بدار الخلافة، وشغَلَ -فيما يبدو- خُطةَ الإشراف في عهد الرشيد الموحِّدي، وتوفِّي بسِجِلماسَة سنة 659 هـ. قال ابن عبد الملك:"واستفدت بمُذاكرته ومجاورته كثيرًا، وكانت بينه وبين أبي رحمه الله مودّةٌ قديمة متأكِّدة كان يَذكُرها [دائمًا، ولم] أستجِزْه ولا قرأت عليه، ونَدِمت على ما فاتني منه. فقد كان [أهلًا للرواية عنه] رحمه الله"(2)، وندَمُه هنا على ما فاته من حصول المشيخة "الرّسمية" لجارِه هذا شبيهٌ بندَمِه على عدم تمكُنه من الأخذ عن جارِه الآخَر أبي الحَسَن ابن قُطرال الكبير كما مرّ.
كان ابن الطّراوة -كما وصفه المؤلف- "حافظًا للتواريخ على تباين أنواعها ذاكرًا لها محاضرًا بها، أديبًا بارعًا ناقدًا، كاتبًا محُسنًا، يقرض شعرًا يُحسن في أقله، ممتعَ المجالسة بارعَ الخَطّ رائق الطريقة أنيقَ الوِراقة، متقن التقييد مليح التندير، نَسّابة لخطوط المشايخ، كثير الإحكام لأموره وأدواته كلها، ظريف الملابس،
(1) راجع ترجمة ابن القطان في السفر الثامن، الترجمة 10.
(2)
انظر الترجمة رقم (63) من السفر الثامن.
شديد المحافظة على كُتُبه، مثابرًا على الاعتناء بتصحيحها، متهمِّمًا باقتناء الأصول التي بخطوط أكابر الشيوخ أو عُنوا بضبطها، وجمَعَ منها جملة وافرة" (1)، وهذه أوصاف تدُلّ على شدة مخالطته له ودقّة ملاحظته لأحواله، ولا بدّ أنّ اهتمامات ابن عبد الملك -وهي من هذا الطراز- سَرَت فيه من التأثر بهذا الشيخ وأضرابه.
9 -
وممّن ذكَرَهم في شيوخه بمَرّاكُش: أبو عبد الله محمد بن علي بن هشام القُرطُبيُّ الأصل الذي وُلد بمَرّاكُش ونشأ بسَلا، حيث كان والده يتولى بعض الأعمال السلطانية للموحِّدين، واستَوطنَ مَرّاكُش وقتًا، وسكن إشبيلِيَةَ مدة، وشَريشَ أخرى، ورحل إلى المشرق مرّتين، ورجع في الأخير إلى مَرّاكُش حيث توفِّي سنة 671 هـ. كان عارفًا بالحديث والعربية والطريقة الأدبية، سريع البديهة في النظم مكثرًا منه مُحسِنًا في بعضه كما يذكُر المؤلّفُ، قال:"صحِبته كثيرًا وأخذت عنه معظم ما كان عنده". وقد ترجَم له في الغرباء وحدّث عنه بسببِ رحلتِه الثَّانية، كما ذكره عدة مرّات في "الذّيل والتكملة".
10 -
ومن الأندَلُسيّينَ الذين نزلوا مَرّاكُش وأخذ عنهم ابنُ عبد الملك: أبو الوليد محمد بن إسماعيل بن عُفَيْر اللَّبْلي، قال المؤلف:"قرأت عليه وسمعت، وأنشدني كثيرًا من شعره، وطالعني بجملة من رسائله". وقد أثبتَ في ترجمته وفي غيرها بعض ما أنشده شيخه هذا من شعر، وأشار إلى موازنة بين أدبه وأدب أخيه أبي العباس فقال:"كان (أبو العباس) شاعرًا مجُيدًا مُفلقًا يَفضُلُ على أخيه أبي الوليد في النظم كما يَفضُلُ أبو الوليد عليه في النثر"(2).
11 -
ومنهم: أبو الحَسَن الجَيّانيّ الإشبيليّ، وهو نَحْويّ لغوي أديب مفسِّر، استكتبه الرّشيدُ الموحِّد، واستُعمل في الأعمال السلطانية، وولي خطة الإشراف على بلاد حاحة، وفيها توفِّي سنة 663 هـ، قال ابن عبد الملك: "وأخذت
(1) الترجمة (63) من السفر الثامن.
(2)
الذيل والتكملة 6/ الترجمة 310.
عنه وجالسته كثيرًا وانتفعت بمذاكرته في الطريقة الأدبية"، وقد أثنى على خُلُقه وأدبه، وساق في ترجمته بعضَ شعره ونثره، وذكَرَ أنه زار قبره في تامطريت بحاحة (1)، وفي هذا ما يدُلّ على وفائه لشيوخه، وإن كان يجادلهُم في الحقّ والعلم بما لا يتنافى مع توقيرهم واحترامهم.
12 -
ومنهم: أبو الحَجّاج يوسُف بن أَحْمد بن حَكَم البَلَنسِيُّ الذي نزَل بمِكْناس وغدا من المختصّين بمجالسة الأمير عبد الواحد وَلَد يعقوبَ بن عبد الحق، ووَلِيَ قضاء الجماعة بفاسَ له ولوالده يعقوبَ بن عبد الحق، وكان -فيما يقول مؤلف "الذّخيرة السَّنيّة"- "من أهل الأدب البارع، مشاركًا في علوم كثيرة، أخذ عنه جماعة من فقهاء الأندلس وإفريقيّة وأدبائهما"(2).
وقد سماه ابن عبد الملك في شيوخه عدّة مرات في كتابه ونَصّ على روايته عنه بمَرّاكُش، قال بعد أن أورد قصيدة ابن الأَبَّار في رثاء أبي الرَّبيع بن سالم:"نجَزَت، وأنشَدتُها على شيخنا أبي الحَجّاج بن حَكَم رحمه الله بمَرّاكش، وأنشدها على قائلها رحمه الله بدِهليز داره ببلنسية"(3).
13 -
ومن هذا الصِّنف نذكر: أَبا عبد الله الرُّنْديّ، المدعوَّ بالمُسَلْهَم، وهو رُنْديٌّ سكن مَرّاكُش ودرَّس بها وأخذ عنه الناس فيها، وتوفِّي بها سنة 653 هـ وابن عبد الملك ما يزال في مَيْعة الفتوّة، قال:"كان محدِّثًا مكثرًا متّسع الرواية أديبًا من أبرع النَّاس خطًّا، عاقدًا للشروط، جَمّاعة للكتب وفوائد الشيوخ، نَسّابة لخطوط العلماء، ذاكرًا للتواريخ، حسَن المحاضرة، جميل اللقاء"، ثم قال:"جالستُه مرّات وكان صديقًا لأبي"، وأشار إلى كلام بعض الشيوخ في روايته لإكثاره وتصريح النَّاقد العَدْل حسَن ابن القَطّان بكذِبه وادّعائه، وعقَّب على ذلك بقوله:
(1) الذيل والتكملة 5/ الترجمة 579.
(2)
الذخيرة السنية 86، 123.
(3)
الذيل والتكملة 4/ الترجمة 203.
"وقد كان يَظهرُ ذلك منه، ولعلّه بالإجازة، والله أعلم". وفي ترجمته إيرادٌ لبعض شعره مما نقله ابن عبد الملك من خطّه (1).
14 -
ومن هؤلاء أَيضًا: نديمُ الأمراء أبو بكر الجلمانيُّ الإشبيليّ الذي توفِّي بمَرّاكُش في حدود الستينَ وست مئة. قال: "كان حاضرَ الذّكر للآداب والتواريخ والأشعار، ممتِعَ المجالسة، جالسته طويلًا
…
وكانت بينه وبين أخوالي صحبة متأكِّدة" (2). وأشار إليه في موضع آخَرَ -في معرض الحديث عن أبيات لأبي زَيْد الفازَازي- ووصَمَه بالانتحال والكذِب، فقال: "نقلتُها (أى: الأبيات) من خطّ شيخنا أبي الحَسَن الرُّعَيْني وأنشَدتها عليه قال: أنشَدنيها الفقيهُ أبو زيد الفازازي لنفسِه، وانتحَلَها أبو بكر الجلمانيُّ وكذَبَ، سمح اللهُ له" (3). هكذا هو ابن عبد الملك في وقوعه على الهَفَوات وتسجيله للعثَرات، ولا نعرف أين ادّعى الجلمانيُّ الأبياتَ المشارَ إليها، ولعل المؤلّفَ سَمِعه ينسُبُها إلى نفسه.
15، 16، 17 - ومن شيوخه الذين درَس عليهم في مَرّاكُش وسماهم عَرَضًا في كتابه ولا نعرف عنهم كبيرَ شيء: أبو محمد عبدُ الواحد بن مخلوف بن موسى المَشّاط، وأبو القاسم المطماطيّ، وأبو الحَسَن الكفيفُ، سمّاهم في شيوخه وذكَرَهم جميعًا في الآخِذين عن أبي الحَسَن ابن القَطّان، كما أشار إلى الأول منهم عند ذكْرِ وفاة قاضي الجماعة بمَرّاكُش أبي بكر ابن حَجّاج سنة 654 هـ فقال:"وصَلّى عليه بالمُصلَّى على الجنائز في جوفي خارج الجامع المذكور (الجامع الأعظم الأعلى) القاضي بعدَه أبو محمد عبدُ الواحد بن مخلوف بن موسى الهزميريُّ المَشّاط، وحضرت جنازته والصلاة عليه في خَلْق لا يُحصَوْن كثرة"(4).
(1) الذيل والتكملة 6/الترجمة 133.
(2)
المصدر نفسه 6/الترجمة 327.
(3)
المصدر نفسه 4/الترجمة 229.
(4)
المصدر نفسه 6/الترجمة 40.
18 -
ومن هؤلاءِ أَيضًا: أبو علي الحَسَنُ بن الحَسَنُ بن عَتيق بن منصور الجَنْب التّميميّ الإفريقيُّ (التونُسيّ)، ذكره ابن عبد الملك في شيوخه الذين حدّثوه عن أبي علي الشَّلَوْبِين (1)، ولا بدّ أنه ترجم له في القسم المفقود من الغرباء، وقد وصَفَه ابنُ الأبّار بقوله:"صاحبُنا الفقيه الحسيّب المليء المحدِّث المجتهد الصوفي"(2)، وهذا الشيخ ينتمي إلى بيت من البيوتات التونُسية التي خدمت دولة الموحِّدين (3).
بلغت الحركة العلميّة غايتَها في مَرّاكُش عندما بدأ ابن عبد الملك يطلب العلم ووَفَدَ عليها عددٌ كبير جدًّا من العلماء من مختلف البلدان. وبلغ من كثرة القادمينَ على الحضرة أنْ خَصَّهم أحد المؤرِّخين في ذلك العصر بتاريخ حفيل (4)، وهذا ما أتاح لابن عبد الملك أن يلقَى بعضهم ويأخُذ عنهم دون أن يحتاج إلى إبعاد الرحلة في طلب العلم. وممن قَدِم على حضرة الموحِّدينَ في عهدها الأخير أعلامٌ من المشرق ينزِعونَ إلى التصوف أو يحمِلون بضاعةً راجت في المشرق ثم في المغرب يومئذ ألا وهي بضاعةُ الوعظ التي روَّجَها ذلك الزمانُ المضطرب الداعي إلى الاعتبار والاتعاظ.
19 -
فمن هؤلاء: أبو البركات عُمرُ بن مَوْدود الفارسيُّ، الذي حَظِيَ عند الخليفة الرّشيد الموحِّدي، وقد رآه المؤلّف في مجلس والده وهو طفل صغير ولا يذكر من أمره معه إلا أنه توسَّم فيه النَّجابة (5). ولعله يروي عنه بالإجازة.
20 -
ومنهم: أبو عبد الله ابن الحَنْبليّ الدّمشقي، وهو فقيهٌ حنبليّ المذهب، خَلَفَ شيخَه الإِمام ابن الجَوْزي في طريقته الوعظية، وتجوّل في بلاد العالم
(1) الذيل والتكملة 5/ الترجمته 807.
(2)
المصدر نفسه 6/ الترجمة 709.
(3)
انظر الترجمة رقم (86) من السفر الثامن.
(4)
الذيل والتكملة، السفر الأول، الترجمة 700.
(5)
انظر الترجمة رقم (35) من السفر الثامن.
الإِسلاميّ يعقدُ فيها مجالسَ الوعظ، ووَرَدَ مَرّاكُش في وَسَط سنة 652 هـ، قال ابن عبد الملك:"لقيتُه وجالسته كثيرًا، وسمعت وعظه، وكان لا يكاد يُفْقَهُ (بالبناء للمجهول) ما يقول؛ لإفراط عُجْمةٍ كانت في لسانه فلا يفهَمُه إلا من ألِفَه، وكان أصمَّ لا يكاد يسمع شيئًا"، ثم يذكر أنه كان "آية من آيات الله في كثرة الحفظ وحضور الذِّكر وحَشْد الأقوال فيما يجري بمجلسه الوَعْظيِّ أو يحاضِر به في غيره، سريعَ الإنشاء ناظمًا وناثرًا مع الإحسان في الطريقتين، جيّد الخط والكَتْب على كَبْرته"، وقال في معرِض حفظه:"وأخبرني أنه عرض -وهو ابن عشرين عامًا- على أبي الفرج الجَوْزي كتابه "المنتخَب" عن ظهر قلبٍ ببغداد"(1).
21 -
وأشهرُ هؤلاء الشيوخ الوُعّاظ الذين لقيَهم صاحبُنا بمَرّاكُش وتأثر، بشكل ما، بمنزِعهم: ابن رشيد البغداديُّ، صاحبُ الوتَرِيّاتِ المشهورة، ويرجِع الفضل لابن عبد الملك في حفظ ترجمته الموسَّعة، وكان قدومه على مَرّاكُش سنة 655 هـ، واحتفل به الخاصّة والعامة فيها، وامتدحه بعض أدبائها، ومنهم أحد الأمراء الموحِّدين وتوفر له فيها من الخيرات ما أفاء به على من أوى إلى كنفه من بعض أهل العلم المحرومين.
وقد تحدَّث المؤلّف عن صلته به وصِفةِ مجالس وعظه فقال: "سمعت منه كثيرًا، وجالسته طويلًا، وحاضرته، وذاكرته، ورزقت منه قبولًا كثيرًا ولزمت شهود مجالس وعظه، وكانت القلوب تنفعل كثيرًا لكلامه وترِقّ لموعظته، وتتأثر لتذكيره، وكان أغزر النَّاس دمعًا إذا رَقِيَ مِنبر وعظه لا يتمالك أن يُرسل دموعه، فيؤثّر عند الحاضرين من الخشوع والخشية وسكب الدموع ما لا مزيد عليه"، ثم يوازن -فيما يظهر- بينه وبين بعض الوُعّاظ المغاربة -ومعظمهم من المكفوفين- الذين كانوا يعتمدون على غيرهم في تحبير خطبهم وقصائدهم الوعظية مثل الواعظ ابن الحَجّاج والواعظ ابن أبي خرص، فيقول: "وكان يتولى إنشاء خطبه
(1) الترجمة رقم (121) من السفر الثامن.
التي يَفتتح بها مجالسَ وعظه وقصائده المطولة التي يختتمها بها، وكان سريع الإنشاء لذلك كله، وكلامه نظمًا ونثرًا مؤثِّر في سامعيه على ما فيه من لين، وسمعته غير مرة يقول: إنّ ذوقَه لا يساعده على النظم في وزن عروض من أعاريض الشعر ما خلا الطَّويل، هذا على اتّساع حفظه وحضور ذكره فنونَ الشعر على اختلاف أوزانه". ويتمم الحديث عن مجالس وعظه بقوله:"وكثيرًا ما كان يُتَعرَّضُ له في مجالسِ وعظِه بالرقاع مضمَّنةً أسولة (1) عويصة فيصدر عنه من سرعة الجواب عنها وحسنه وإيضاح خفيِّها وحلِّ مُشكلها ما يقضي منه العجب، شاهدت منه في ذلك كثيرًا، وقصدت الإغماض غير مرة أنا وجماعة من أصحابنا في كثير من الأسولة التي كنا نُودِعُها الرقاعَ المرفوعة إليه، فيأتي بالجواب عنها بما يبهت الحاضرين سرعةَ بديهة وحُسنَ ترتيب، وحينئذ [يعود] إلى ما كان فيه من وعظه"، وقد نوه بإنصافه في المناظرة وصبره على المباحثة:"لا يكاد يَخْلَى محاضرُه من مفاوضة علمية ومذاكرة وبحث ومساءلة، على ذلك عرفناه"(2). وكأن ابن عبد الملك يوازن بين هذا الشيخ وبعض الشيوخ الذين كانوا يضيقون ذرعًا بالأسئلة في حلقات الدرس ولا يتسع صدرهم للمناقشة، ولا يطيقون المفاتشة، ومهما يكن فإن كلام ابن عبد الملك السابق يدلنا -زيادةً على إعجابه بطريقة هذا الشيخ الوافد من بغداد الحامل لتراث واعظِها الكبير ابن الجوزي- على أنه في هذه المدة التي قضاها ابن رشيد في مَرّاكُش (655 - 666 هـ) قد اشتد ساعده وقويت عارضته وبدت نزعته إلى المصاولة التي تمكنت منه فيما بعده
لم يكتف ابن عبد الملك، وهو النَّهِم في العلم، الطُّلَعة إلى المعرفة، بهؤلاء الشيوخ الذين أخذ عنهم في مَرّاكُش، وفيهم، كما رأينا، مَرّاكُشيّونَ بَلَديُّونَ وأندَلُسيّون ومَشارقة وافدون، ولكنه رحل إلى بعض مدن المغرب، كما كان في
(1) أصلها "أسئلة" سَهّل الكاتب الهمزة الثانية ثم أبدل الياء واوًا تخفيفًا، وهو جائز في العربية (بشار).
(2)
راجع ترجمة ابن رشيد في السفر الثامن رقم (75).
أواخر عهد الموحِّدين وأوائل عهد المَرِينيِّين، فزار آسفي وسَلا وفاس وسَبْتَة وتلِمْسان وحاحةَ ودرعة وأَزْمُور، كما جاز إلى الأندلس ولكنه اكتفى بزيارة الجزيرة الخضراء؛ طلبًا للقاء الشيوخ الكبار، وسعيًا وراء الأسانيد العالية، والفوائد النادرة، وبحثًا عن أصول المخطوطات النفيسة، ونُسَخها النادرة، ورغبةً في معرفة الأقران، ومذاكرة الأصحاب.
22 -
ويخبرنا، في الأسفار التي بين أيدينا من كتابه، أنه رحل إلى آسفي مرات للقاء شيخه الكبير الحافظ الضّرير أبي علي الماقَرِيِّ، وغيره من أهل العلم في هذا البلد، وكانت أولاها في سنة 663 هـ. قال في ترجمة أبي عبد الله الغساني التِّلِمْسيني:"وردت آسفي في أول قَدْمة قَدِمت عليها يوم الاثنين لأربع بقين من جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وست مئة فعرَفتُ مرضَه، وقصدني ابنه جعفر مسلِّمًا عليّ وذاكرًا تشوقَه إلى، فتواعدت معه لعيادته من الغد، فجاء إلى منزلي من الغد وافيًا بوعده ومعتذرًا عن لقائه بعذر قبلته، وأدرج فيه رجاء تماثل حالة وإرجاء لقائه إلى [يوم آخر، وتوفي] يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى المذكورة، ودفن من الغد إثر صلاة الظهر بالمقبرة التي بقبلي جامع آسفي الأعظم، وحضرت جنازته وكانت مشهودة، وكنت قائدَ شيخنا أبي علي الماقريِّ الضّرير فيها، ولم يتخلف عنها أحد، وأتبعه الناس ثناءً جميلًا، وكان أبو علي يطيل الثناء عليه ويشيد بذكره"(1).
ولم يسَمِّ ابنُ عبد الملك أَبا عبد الله الغسانيَّ المذكور في شيوخه، ولكننا نستشفُّ من النص السابق الذي يُشعر بسابق معرفة به أنه ربما أخذ عنه، وقد يدل على ذلك تحدثه عنه حديث خبير به مطلع على أحواله: قال: "كان ذا حظ صالح من رواية الحديث، عَدْلًا فيما يرويه، متقدِّمًا في ضبط اللغات [والحفظ] للآداب والتواريخ والأنساب، مشاركًا في الفقه والنحو، ضاربًا في قرض الشعر
(1) راجع ترجمة الغساني في السفر الثامن رقم (71).
بسهم مصيب، متحرفًا بالتجارة في القيسارية بآسفي يقعُد في حانوته لاسترزاقه كل يوم ببضاعة يديرها فيها بعدَ الفراغ من مجلس تدريسه "الموطأ" والسير والنحو والآداب واللغة، وكان على طريقة مَرْضيّة، من أهل الدين المتين والانقباض عن مخالطة الرؤساء وملابستهم" (1).
23 -
أما شيخُه الحافظ الماقريُّ، الذي أشار إليه في النص السابق، فيُعَدُّ من أقرب شيوخه إلى نفسه وأكثرهم تأثيرًا فيه، وقد روى عنه في "الذيل" من الإفادات والإنشادات والأحاديث ما لم يعرفه إلا من طريقه، وكان هذا الحافظ الراوية الماقريُّ قد أخذ عن طائفة من كبار الشيوخ من طبقة الحافظ أبي الحَسَن ابن القَطّان الفاسيّ، وأبي الخَطّاب بن واجِب البلنسي، وأبي الحَسَنُ بن أبي قوة الدّاني، وأبي علي الرُّنْديّ، وأبي بكر السّلاقي وغيرِهم، وكان مقيمًا برباط آسفي حيث يوجد شريح الولي المشهور أبي محمد صالح الماجِريّ، وقد تردَّد عليه ابن عبد الملك من مَرّاكُش مرّات، أشار إلى أولاها في النصِّ السابق، ويبدو أنه كان يقيم في كلِّ مرة ما يزيد على الشهر، فقد رأيناه في النصِّ السابق يذكر وصُولَه إلى آسفي في أواخر جمادى الأولى من سنة 663 هـ، وها هو يتحدّث بما يفيد مكوثه ووجوده فيها في أواخر جمادى الأخرى من السنة نفسِها، قال:"أنشدت على شيخنا أبي عليّ الماقري رحمه الله بثغر آسفي حماه الله في أواخر جمادى الأخرى من سنة ثلاث وستين وست مئة، قال: عرضتُ عليه -يعني أَبا الحَسَن ابنَ الحصّار هذا- قصيدته الرائيّةَ التي قالها في المدنيِّ والمكّيّ من سور القرآن، وهي اثنان وعشرون بيتًا، وذلك في شهر ذي الحجة من سنة ست وتسعين وخمس مئة"(2)، ثم ساق القصيدةَ المذكورةَ كما أنشدها على شيخه.
ومما حدّث به عنه أَيضًا قراءةً عليه بثغر آسفي: القصيدةُ الفائيّة في التوسُّل لأبي الوليد ابن الفَرَضيّ ومعارضتها للأُقليشيِّ والفازَازيّ، والماقَريّ، وحديثٌ
(1) راجع ترجمة الغساني في السفر الثامن رقم (71).
(2)
راجع ترجمة ابن الحصار في السفر الثامن رقم (14).
مسَلسَل بالمصافحة، وحديث طعام البخيل، وبعضَ نظم المحدَث ابن أبي قوة، وردُّه على ابن غَرْسيّةَ الشُّعوبيِّ، وأشعار في ترجمة الطبيب أبي جعفر الهَمْدانيّ، وغير ذلك مما هو مبثوث في "الذّيل والتكملة"، كما حمل عنه فِهرِسةَ أبي الحَسَن ابن القَطّان (1).
وقد حصَلَ ابن عبد الملك، الذي كان من المُغالِينَ في جمع الأصول المخطوطة، من أحد أقارب شيخه المذكور على أصل نادر من كتاب "تقييد ما يقع فيه التحريف ولا يؤمَنُ فيه التصحيف لرواة العلم من أهل الأندلس" ووصَفَه بأنه "أصل صحيح أراه كُتب في حياة المصنِّف، وأقدم الآثار في كونه لأبي عُمَر بن عيّاد ثم لأبي الخَطّاب بن واجب ثم لابن عمِّه أبي الحَسَنُ ثم وَهَبَه لأبي عبد الله المومناني، ثم أتحفَني به الصاحب الأودُّ في الله الأفضل أبو عبد الله بن عيسى الماقريُّ مُستوطِنُ ثغر آسفي، حماه الله، وكافأ فضلَه وشكر إفادتَه، وقد نقَلَ من هذا الأصل أبو عبد الله ابنُ الأبّار وغيره، وقرأوه على أبي الخَطّاب بن واجب"(2).
وزار ابن عبد الملك سَلا التي كانت يومئذ تؤلِّف معَ رباط الفتح مدينةً واحدة يوَلّى عليهما والٍ واحد وقاضٍ واحد ومُشرفٌ واحد وفي بقية الخُطط الكبرى كذلك، ولم نقفْ في الأسفار الموجودة من"الذّيل" على زيارته -أو زياراته- لها وتاريخها، ولكننا وقَفْنا على ما يشيرُ إليها، ويدُلّ على معرفته بها وبأهلها، قال في ترجمة أبي العباس البكريِّ الشَّريشيّ الذي استَوطنَ سَلا واستُقضي بها:"ولأحمد المترجم به عَقِب بسلا إلى الآن"(3)، وقد أورد النُّباهيُّ
(1) انظر الذيل والتكملة 1/الترجمة 841، 4/ الترجمة 87، 5/الترجمة 313، 685، ومذكرات ابن الحاج النميري:103.
(2)
الذيل والتكملة 5/الترجمة 685.
(3)
المصدر نفسه 1/الترجمة 231.
قصيدة لزومية لابن عبد الملك في التشوق إلى سلا وأحبّتِه فيها، وهي جواب عن رسالة وردت عليه من أحدهم، وأولها [من الكامل]:
يا عاذليَّ دَعا الملامة أو سَلا
…
عن صادقٍ في الحبِّ مثلي هل سلا
كيف السُّلوُّ ولي بحُكم البَيْنِ في
…
مَرّاكُشٍ جسمٌ وقلبٌ في سلا
ومنها مشيرًا إلى كتاب صديقه [من الكامل]:
وافَى إليّ على البعادِ كتابُهُ
…
فبمهجتي أفدي كتابًا أُرْسِلا
ومنها [من الكامل]:
من لي بتيسير المسير إليكمُ
…
فأصمِّمَ العزمَ الذي لن يَكسَلا
وأُصارمَ القُربى وأهجرَ موطنًا
…
وأجوبَ حَوْماتٍ لأُنسي في سلا
فلو القضاءُ أتاح ما عُلِّقتُهُ
…
ما كنت ممن في البِدارِ ترسَّلا
حتى أحلَّ مثابةَ الفضل الذي
…
لِسواه قلبي بعدَه ما استرسَلا (1)
وابن عبد الملك يُعارض قطعةَ لابن عَمِيرةَ أولهُا [من الكامل]:
يا صاحبيَّ وللفراقِ صبابةٌ
…
عما بقلبي من لواعجِها سلا
ولا نعرفُ الآنَ صاحبَ الرسالة التي أجابه عنها بالقصيدة المذكورة، ولعلّه عَرَضَ لها ولمناسبتِها في أحد الأسفار المفقودة من "الذّيل والتكملة".
24 -
ومن شيوخ ابن عبد الملك السَّلَويِّينَ: أبو عبد الله محمدُ بن إبراهيم بن عُمر السَّلَويّ الخَطيب ابن البَراذعي، ذكره في الآخِذين عن ابن عَمِيرة المخزوميِّ الذي وَليَ قضاء العُدوتَيْن، وأغلبُ الظنِّ أن ابن عبد الملك لقيه في سلا.
25 -
أما فاسُ، التي كانت المدينةَ العلمية الثانية بعدَ مَرّاكُش في عهد الموحِّدين ثم عادت إليها أوليتها في عهد بني مَرِين، فقد زارها ابن عبد الملك
(1) المرقبة العليا: 131.
أكثرَ من مرة، ويبدو أنه كان فيها في سنة 655 هـ، وهي سنةُ وفاة شيخه أبي عبد الله محمد بن يوسُف المَزْدَغي، فقد وصف جنازتَه وتكلّم في ترجمته على تاريخ توليه الإمامةَ بجامع القَرَوِّيين الأعظم سنة 653 هـ، وأولَ صلاةٍ وآخرَ صلاة أمَّ فيها، ممّا قد يُشعر بحضوره في كل ذلك. وقد عَدَّ من أصحابه حفيدَ شيخِه المذكور، قال في ترجمة محمد المومنانيِّ الابن:"وذكَرَ لي الخطيبُ الفاضل صاحبُنا أبو الحُسَين بن أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي عبد الله المَزْدغيّ أنه عَزَمَ وقتًا على التزوُّج، فارتاد في بيوت أهل فاس، فأشار عليه أبو الحَسَن بن زرنبق بابنة أبي بكر هذا (المومنانيّ) وقال: لا تَعدِلْ عنها فإنها من أهل البيت النَّبويّ الكريم، فعمل على إشارته وتزوّجها فهي أُمُّ بنيه: أبي الفضل وغيره"(1).
26 -
وممّن لقيَهم في فاسَ: أبو عبد الله المومنانيُّ الابن، قال:"لقيته كثيرًا بفاس وجالسته طويلًا، وخبِرت منه جَوْدةً وسلامةَ باطن، وكان له تعلّق بطرف من الرواية"(2)، ولم يذكر وفاته، مما قد يدُلّ على أنه كان حيًّا وقت إنجاز كتابه الذي استمرّ في تحريره حتى سنة 702 هـ، أي: قبيل وفاته بقليل، وهذا الفاضل في طبقة أصحابه وإن كان أسنَّ منه.
27 -
ومن شيوخ ابن عبد الملك الفاسيِّين: أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن إبراهيم البَكْريُّ الفاسيّ، سماه في الآخِذينَ عن أبي الحَسَن الشارِّي (3)، ولم نقفْ على ترجمته أو ذكْرِه في مكانٍ آخر، ولعلّ المؤلّفَ لقيه في فاس.
28 -
ومن شيوخه الفاسيّين الذين أخذ عنهم في صِغره: أبو محمد العراقيُّ، المتوفَّى سنة 646 هـ (4).
(1) انظر ترجمة المومناني في السفر الثامن رقم (141).
(2)
المصدر نفسه.
(3)
المصدر نفسه رقم (12).
(4)
السفر الثامن (235)، وترجمته في صلة الصلة 3/الترجمة 264.
وقد توقَّف ابن عبد الملك بفاسَ في جُمادى الأخرى سنة 699 هـ وهو في طريقِه إلى تِلِمسان للالتحاق بمحلّة السلطان يوسُف بن يعقوبَ بن عبد الحق.
واقتنى في خلال هذه الزيارة بعضَ المؤلَّفات النفيسة، ومنها: كتابُ "عِبرة العِبَر وعجائبُ القَدَر في ذكْر الفتن الأندَلُسيّة والعُدْويّة بعدَ فساد الدولة المُرابطيّة" بخطِّ مؤلِّفه الأديب التاريخيِّ أبي عامر السالمي (1).
ونحسَبُ أنّ صلةَ ابن عبد الملك بفاسَ أو سمعُ من هذا الذي وجدناه، ومعَ أنه فتح عينيه على مَرّاكُش وهي حاضرةُ الغرب الإِسلامي وعاصمة الإمبراطوريّة الموحِّدية، وشاهَدَ بقايا أمجادِها، فقد كان يعرف لفاسَ حقَّها ويَقدُرُها قَدْرَها، قال أحد المؤرِّخين، ولعله صالحُ بن عبد الحليم:"وقد سمعتُ الشّيخَ الفقيه قاضيَ الجماعة العالِم الراويةَ المحدِّث الباحث المحقِّق أَبا عبد الله بن عبد الملك رحمه الله يقول: كان بفاسَ من الفقهاء الأعلام، الأجِلة أعيان الأنام، ما ليس في غيرها من بلدان الإِسلام؛ إذ هي قاعدة المغرب، ودار العلم والأدب، لكنّ أهلها أهملوا ذكْرَ محاسنِ علمائهم، وأغفَلوا تخليدَ مفاخر فقهائهم"(2).
ورحل ابن عبد الملك إلى سَبْتةَ التي كانت في عصره تعُجُّ بالعلماء وتغُصُّ بحلقات الدّروس المختلفة، وقد أوى إليها عددٌ من أعلام الأندلس الذين ضاعت بلدانهم في شرق الأندلس وغربها، كما وَفَد عليها عددٌ آخرُ من أهل العُدوة، ويخيَّلُ لمن يتصفّح أسماءهم أنَّهم بَلَغوا من كثرة العدد مبلغًا لم تكن تتّسع له، ولذلك كانوا يرحَلون بعد قضاءِ مدة فيها إلى جهات أخرى في داخل المغرب أو إلى بِجَاية وتونُس أو إلى المشرق.
ولم يقيِّد ابن عبد الملك تاريخَ رحلته إلى سَبْتة في المرّات التي أشار إليها في كتابه بتاريخ مضبوط، وإنّما ذكر مرّةً أنها كانت بمناسبة رحلته إلى الأندلس،
(1) الذيل والتكملة 6/ الترجمته 40.
(2)
مفاخر البربر: 76.
وهذه وقعت في شبيبته كما نصّ على ذلك ولدُه أبو عبد الله، وفي هذه المرحلة على العموم كان تنقُّله لطلب العلم.
29 -
وقد أخَذ عن جماعة من شيوخ العلم في سَبْتة أوّلهم: أبو القاسم العَزَفيُّ رئيسُها (من 647 هـ إلى 677 هـ)، وكان هذا الرئيسُ الفقيه عالمًا بالفقه والأصول والنّحو واللّغة والحديث، كما كان شاعرًا مُجِيدًا، سمّاه المؤلِّف في شيوخه الآخِذينَ عن أبي الحَسَن ابن القَطّان، وتحدَّث عنه في ترجمة شيخ الصُّوفية في عصره أبي العباس القنجايريِّ دَفِين سَبْتة، فقال:"وتخلّف بنتًا تزوَّجَها شيخُنا الفقيه الأجَلّ الرئيسُ الأوحد المرحوم أبو القاسم ابنُ الفقيه الأجلّ المحدِّث الراوية السَّنِيّ الأفضل أبي العبّاس أحمدَ ابن القاضي أبي عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد اللَّخمي، عُرِف بابن أبي عَزَفةَ ويُنسَب لذلك: العَزَفيَّ، أنكَحَه إياها أبوه المذكورُ؛ إذ كان أبوها قد عَهِد إليه بالإيصاء عليها والنظر لها، فأداه اجتهاده إلى إنكاحها من ابنه المذكور، فكان في ذلك اليُمنُ والخيرُ والبركة، فهي أُمُّ أولاد السّراةِ الأماجد الخمسة الأكابر، أبقى اللهُ عليهم وعلى أعقابهم بركة أسلافهم"(1).
وفي النصِّ دلالاتٌ واضحة على روابطِ الوفاء والولاء نحوَ شيخِه المذكور وأُسرته، ولا بدّ أنّ ابنَ عبد الملك لقِيَ عندهم أثناء مقامه بسَبْتةَ عنايةً ورعاية وبرورًا وتكريمًا، وقد عُرفوا بذلك مع أهل العلم في سَبْتة كافّة، وثمّةَ إشارةٌ لابن عبد الملك في كتابه تدُلّ على مكاتبته شيخَه هذا (2).
30 -
ومنهم: الشاعرُ المُكثر مالكُ ابن المُرحَّل، وهو أشهر من أن يُعرَّف، روى عنه بعضَ الفوائد وقدرًا صالحًا من شعره، وأورد منه في السِّفر الأول من "الذّيل والتكملة" قصيدتَيْن طويلتَيْنِ في مثال النَّعل النبويِّ الكريم مَهّد للأولى
(1) الذيل والتكملة 1/الترجمة 34.
(2)
انظر ترجمة ابن منداس في السفر الثامن رقم (138).
بقوله: "أنشَدني شيخُنا أبو الحَكَم مالك بن عبد الرّحمن المالَقيُّ، عَفَا اللهُ عنه، بسَبْتةَ، حرَسَها الله، لنفسه وكتب لي بخطه في هذا المعنى (ما قيل في مثال النَّعل) ووَطّأ له بمَدْحِه صلى الله عليه وسلم، ثم ساقها وهي من خمسة وثلاثين بيتًا، ومهّد للثانية بقوله: "وأنشدني أَيضًا بسَبْتةَ حرسها اللهُ تعالى لنفسه في المعنى، وكتبه لي بخطه"، ثم سرَدَها، وهي من خمسة عشر بيتًا (1)، وقد استجادهما جُملةً، وتعقّب بالانتقاد بعضَ ما فيهما من عيوب القافية واللغة حسَبَ رأيه، ورَدَّ عليه في هذا معاصرُه وصاحبه ابن رشيد السَّبْتيُّ كما سنعرضُ لذلك فيما بعد، وقد نقفُ عند قول ابن عبد الملك في نسبته شيخَه هذا مالَقيًّا لا سَبْتيًّا، وهذا من تحرّيه وإنصافه، وخضوعه التامِّ لشرْط كتابه، وتطبيقه المنهجيِّ للمصطلح الذي سار عليه مؤلفو "الصِّلات" من ابن الفَرَضيّ ومَن تبِعَه، حيث إنهم ينسُبُون الشخصَ إلى البلد الذي وُلد فيه لا إلى مُهاجَرِه ومستقَرِّه، كما تستوقفُنا عبارة "عَفَا اللهُ عنه"، فهي -زيادةً على دلالتها أنه كان حيًّا وقتَ تحرير ما كتبه المؤلّف- قد تشيرُ بطرف خفيٍّ إلى مُهاتراته معَ بعض معاصريه، ومهما يكنْ فإنّ شاختَه لابن عبد الملك لم تمنَعْه من مراجعته ومناقشته، وقد رَوى عنه توجيهًا دقيقًا وغريبًا في اسم "حَوْط الله" ثم عقَّب عليه بقوله: "هذا ما تلقّيتُه من شيخنا أبي الحَكم في أصل هذا الاسم، ويأباه كَتْبُ هؤلاءِ إياه: حَوْطَ الله، ونَقْلُهم ذلك خَلَفًا عن سَلَف" (2).
وقد وَصَف إكثارَه في النظم وانشغالَه به فقال: "كان مكثرًا من النظم مجيدًا سريعَ البديهة، مستغرقَ الفكرة في قَرْضِه، لا يفتُرُ عنه حينًا من ليل أو نهار. شاهدت ذلك وأخبرني أنه داءٌ به، وأنه لا يقدر على صَرْفه عن خاطره، وإخلاء بالِه من الخوض فيه، حتى كان من كلامه في ذلك أنه مرضٌ من الأمراض المزمنة"، ثم تحدّث عن ذُيوع شعره وسَيْرورةِ نظمِه قائلًا: "واشتُهر نظمُه وذاع شعره، فكَلِفَت
(1) الذيل والتكملة 1/الترجمة 419.
(2)
المصدر نفسه 1/الترجمة 221.
به ألسِنةُ الخاصّة والعامة وصار رأسَ مال المسمِّعينَ والمغنِّين، وهِجِّير الصادرينَ والواردين ووسيلةَ المُكدِّين، وطرازَ أورادِ المؤذِّنين، ومَطْلبةَ البَطّالين" (1).
وهذا كما ترى حديثُ عارف بالرجل خبير بأدبه دارس لشعره، وما نحسَبُ إلا أنه صَحِبه طويلًا في سَبْتة، وربّما في مَرّاكُشَ أَيضًا حينما كان ابن المُرحَّل في حاشية الأمير أبي مالك المَرِيني. هذا وقد ذكر ابن الخَطيب أنّ ابن عبد الملك ذكر شيخَه هذا -ولعله يقصدُ أنه ترجَم له في "الذّيل والتكملة"- ثم قال -وكأنه ينتقدُه-:"فأمّا ابنُ عبد الملك فلم يستوفِ له ما استوفى لغيره"(2).
ونقَل بعضَ كلامه من الترجمة المذكورة (3)، وكما أخَذ ابن عبد الملك عن ابن المُرحَّل أخَذ عنه ولدُه أبو عبد الله (4).
31 -
ومن شيوخ ابن عبد الملك السَّبْتيِّينَ: ابنُ أبي الرّبيع إمامُ النَّحْويين في وقته، ذكَرَه في ترجمة أبي عَمْرو محمد بن زغلل، فقال:"رَوى عنه شيخُنا أبو الحُسَين عُبَيد الله بن أبي الربيع"(5)، ولا بدّ أنه أخذ عنه النّحو الذي كان يدرِّسه -كما كان يدرّس غيرَه- في سَبْتة، ولعله تحدّث بشيء من التفصيل عن لقائه إيّاه في سَبْتةَ خلال ترجمته التي لم تصلْ إلينا في "الذّيل والتكملة".
32 -
ومنهم: أبو إسحاق التِّلِمسانيُّ المتوفَّى بسَبْتة عام 695 هـ، ترجم له ابن عبد الملك في السِّفر السابع المفقودِ الآنَ، ونقَل من هذه الترجمة ابنُ الخَطيب في "الإحاطة" بالحرف تارَةً وبالتصرّف تارَةً أخرى، قال المؤلّف متحدِّثًا عن علمه وخُلقه وحاله معتمدًا على ما لَمَسَه ورآه: "وخبِرت منه في تَكراري عليه تيقّظًا وحضورَ ذهن، وتواضعًا وحسن إقبال وبِرّ، وجميل لقاءٍ ومعاشرة، وتوسطًا صالحًا
(1) الإحاطة 3/ 307 نقلًا عن ابن عبد الملك.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
تقع ترجمة ابن المرحل على هذا في السفر السابع، وهو مفقود.
(4)
الإحاطة 3/ 324.
(5)
الذيل والتكملة 6/ الترجمة 266.
فيما يناظرُ فيه من التواليف، واشتغالًا بما يَعْنيه من أمر معاشِه، وتخاملًا في هيئته ولباسه، يكاد ينحَطّ عن الاقتصاد حسَب المألوف والمعروف في سَبْتة" (1). وأشار إليه في ترجمة أخيه محمد المعروف بأبي عبد الله البَرِّي، فقال: "وهو أخو شيخنا أبي إسحاق التِّلِمْسانيّ وكبيرُه" (2)، ولم يسَمِّ ابنُ الخَطيب من تلاميذه إلا ابنَ عبد الملك، قال: "رَوى عنه الكثيرَ ممن عاصره، كأبي عبد الله ابن عبد الملك وغيره". أمّا ما رواه عنه فهو أُرجوزتُه في الفرائض، وهي مشهورةٌ ومترجمة إلى اللغة الفرنسية، ومنظوماتُه في سِيَرِ المصطفى وأمداحُه، ومقالتُه في علم العَروض الدُّوبِيتي.
33 -
وقرأ ابنُ عبد الملك في سَبْتةَ أَيضًا على القاضي ابن القارئ الإشبيليّ، وهو أبو الحُسَين عُبَيد الله بن عبد العزيز المشهورُ بابن القارئ، وسمّاه في شيوخه الآخذين عن أبي العباس أَحْمد بن منذر الإشبيلي وأبي الحَسَن الدّبّاج (3)، وكانت له حلقات يدرّس فيها بعض كتب القراءات والحديث، ولم تصل إلينا ترجمته في "الذّيل" حتى نعرفَ بالضّبط ما رواه عنه ابنُ عبد الملك.
34 -
وذكَرَ ابنُ عبد الملك كثيرًا شيخَه نزيلَ سَبْتة ومِكْناس: أَبا محمد عبدَ الله، وهو مملوكٌ روميّ كان مَوْلًى لرئيس جزيرة مَنُرقة أبي عثمانَ سعيد بن حكم ثم لولده الرئيس من بعده أبي عُمرَ حَكَم، ومعه لجأ إلى سَبْتة بعد استيلاء الأرغُونيِّين على مَنُرقة سنةَ 686 هـ، ولم يصحَبْه عند توجهه في مركَب إلى تونُس مع أهله وحاشيته فغرقَ الجميعُ بأحواز مدينة الجزائر، وبذلك كُتِب له أن يعيشَ حتى آخر سنة 697 هـ أو أول السنة التي تليها، ووَلي خلال المدّة المذكورة الخَطابة في سَبْتة، كما كان مقصِدًا لأهل الطلب والرواية. وذكر ابنُ عبد الملك أنه حدَّثه عن أبي العبّاس بن عَجْلان، وابن عَمِيرة المخزوميِّ، وأبي القاسم بن يامِن، وأبي عثمانَ سعيد بن حَكَم سَيّدِه، وأبي عَمْرو عثمان ابن الحاجّ، وأبي
(1) الإحاطة 1/ 326 نقلًا عن ابن عبد الملك.
(2)
انظر ترجمة رقم (76) من السفر الثامن.
(3)
الذيل والتكملة 1/ الترجمة 842، 5/ الترجمة 394.
الحَسَن ابن الغَزَال، وأبي القاسم ابن الأصفر، وأبي عبد الله ابن الجَلّاب، وأبي عبد الله المَنُرْقيّ، وأبي عبد الله البرِّي، وأبي عبد الله الأَزْديِّ السَّبْتيّ وغيرِهم (1)، وربّما كنّا نعرف أكثر ممّا ذكَرَ لو وصَلت إلينا ترجمةُ المؤلّف له.
35 -
وممّن حضَر إقراءهم وجالَسَهم في سَبْتة: أبو القاسم ابنُ الطيِّب الخَضْراوي نزيلُ سَبْتة المتوفَّى بها سنةَ 701 هـ، وقد ترجَمَ له ترجمة جيّدة، قال فيها:"روى عنه غيرُ واحد من طلبة سَبْتة، ولقيتُه بها وجالسته مرّات، وحضرت إقراءة، وكان مجوِّدًا للقرآن العظيم من أحسَن الناس صوتًا به وأطيبِهم نَغَمة في إيراده ذا حظّ صالح من رواية الحديث وعلم الفقه والعربية، شديد القوّة الحافظة، استَظهرَ في صِغره أوانَ طلبِه جُملة وافرة من دواوين العلم"(2)، ثم سَرَدَ حوالي 35 مؤلَّفًا مما كان يَستظهرُه في القراءات والسِّير والحديث والنّحو والفقه والأدب واللغة، وهو شيءٌ يجعلُنا اليوم نقفُ متعجِّبينَ معجبين بالِهمم الكبار التي كانت لأسلافنا.
وقد ذكَرَه المؤلّفُ أَيضًا في ترجمة ابن خميس، وأشار إلى غلطِه في نسَبِه فقال:"ونسَبَه أبو القاسم محمدُ بن عبد الرحيم بن الطيّب فقال فيه: محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن يحيى بن يوسُف بن يحيى بن خميس، وهو غلَط"(3)، كما ذكره في ترجمة سَلَفِه أبي العبّاس المُرسيِّ المقرئ (4).
36 -
ولقيَ ابنُ عبد الملك في سَبْتةَ: أَبا عبد الله ابنَ الخَضّار، وهو شيخٌ أكمَهُ عُني برواية الحديث وعلومه ورجاله في المغرب والأندلس والمشرق، قال ابن عبد الملك في ترجمته: "رَوى عنه غيرُ واحد من أصحابنا، ولقيته بسَبْتة وحاضرته كثيرًا، وبايَتُّه، وشاهدتُ من ذكائه وحضور ذكره ما يُقضى منه العجَب، وكان
(1) الذيل والتكملة 1/الترجمة 364، 414، 608، 6/الترجمة 941، 1064، ومواضع أخرى.
(2)
المصدر نفسه 6/ الترجمة 994.
(3)
المصدر نفسه.
(4)
المصدر نفسه.
تأريخيًّا حافظًا" (1). وذكَرَ أنه -وهو الأكمَهُ- كان يخترقُ أزِقّةَ سَبْتة وشوارعَها ورَبَضها وحدَه ويستطيع بحَدْسِه فقط تمييزَ معالمها وخططها، قال: "وأُخبرت عنه بعجائبَ أغربَ من هذا النّمط". ولا بدّ أنّ المؤلّف استفاد منه على الخصوص ما يتعلّق بالتاريخ الذي كان ابنُ عبد الملك لا يفتُرُ عن التنقيب فيه، وهو يتّفق مع ابن الزُّبير والتُّجِيبيِّ (2) في وَصْف هذا الشيخ بالتأريخيّ، ولم يكن التاريخُ هو كلَّ بضاعته، فقد كان يدرِّس الحديثَ والفقه والأصول والنّحو والصّرف والعَروض، واشتُهر بتدريسه كتابَ "علوم الحديث" لابن الصّلاح الذي رواه عن مؤلّفه في دمشق سنة 634 هـ صُحبةَ أبي مَرْوان الباجِيّ، وقد صار الأصلُ الذي سَمِعا فيه على المحدِّث الدِّمشقيِّ الكبير إلى مُلكيّة ابن عبد الملك. قال: "هذا الأصلُ الذي سمع فيه قد صار إليّ والحمدُ لله وفيه خطُّ ابن الصّلاح بتصحيح التَّسْميع، وقد تضمَّن إذْنَه في روايته عنه لكلِّ من حصّل منه نُسخة، فانتَسَخ منه جماعةٌ من جِلة أهل العلم ونُبلائهم، منهم: أبو الحَسَن الشارِّيُّ، وأبو عَمْرو عثمانُ ابن الحاجّ وأبو القاسم أحمدُ بن نبيل وغيرُهم، ونسخت منه نسخة لبعض الأصحاب لأمرٍ اقتضى ذلك لم يسَعْ خلافه" (3).
37 -
وثمّة سَبْتيٌّ يبدو أنّ ابن عبد الملك أخَذ عنه في سَبْتة وهو: محمد بن إبراهيمَ بن يَرْبوع السَّبْتي المتوفَّى في سنة 694 هـ، وقد عَدّه من شيوخه في ترجمة عِمران بن موسى الهوّاريِّ السَّلويّ، كان طلبةُ العلم يرحَلون رغبةً في الاستزادة منه إلى الأندَلس والمشرق.
وجَرْيًا على التقليد المألوف رحَل ابن عبد الملك إلى الأندلس، ويُخبرنا النباهيُّ عن هذه الرحلة حكايةً عن محمد ولد ابن عبد الملك، قال: "وحَكَى ولدُه المذكورُ أنه قصدَ أيام شبيبتِه عبورَ البحر برَسْم الجواز إلى الأندلس، فبلغ منها
(1) انظر ترجمته في السفر الثامن رقم (139).
(2)
برنامج التجيبي: 274، وصلة الصلة 3/الترجمة 34.
(3)
الذيل والتكملة 5/الترجمة 1298.
الجزيرةَ الخضراء، وحضر بها صلاةَ جُمُعةٍ واحدة وأقام بها ثلاثةَ أيام جائلًا في نواحيها آخذًا عن أهلها، ثم قال: حصَلَ لنا الغرَضُ من مشاهدة بعض البلاد الأندلسيّة والكونِ بها، والحمدُ لله على ذلك، وعاد قافلًا إلى أرضه" (1). وكأنّي بابن عبد الملك وهو الناعي على المغاربة إهمالهَم وتقصيرَهم في تاريخ أعلامهم، والعارفُ باصطلاح مؤلفي "الصِّلات" الأندَلُسيِّين ومقلِّديهم من المغاربة، كابن فَرْتُون، أراد بهذه الرحلة الخاطفة المحدودة أن "يَحجُزَ" مكانه و"يضمِّن" ترجمته في "صِلة" من"الصِّلات" التي تؤلَّفُ في الأندلس، فلو لم يقمْ بهذه الرحلة القصيرة لما ظفِر وظفِرنا بهذه الترجمة الجيِّدة التي أثبتَها له شيخُه ابن الزُّبير معَ "الغُرباء" في "صلتِه" حسبما اقتضاه الاصطلاحُ المشار إليه.
واكتفى بزيارة الجزيرة الخَضْراء لقُربها، فيما نظُنُّ؛ لأنّ أُمّهات المدن الأندلسية التي يؤخَذ فيها العلمُ، مثلَ قُرطُبة وإشبيلِيَةَ وبَلَنْسِيَة ومُرْسِيَةَ وغيرِها، كانت قد خرجت من يد المسلمين، وارتحل جُلُّ علمائها إلى المغرب، ولم يزُرْ مالَقةَ وغَرناطة، لحصول غرَضه في الكون ببعض البلاد الأندَلُسية، أو لسببٍ أو أسباب أخرى. واقتَصَر على استجازةِ بعض شيوخ العلم فيهما كما سنبيِّن ذلك.
38 -
نجد بعضَ أصداء هذه الرّحلة في الأسفار التي بين أيدينا من "الذّيل والتكملة"، وتسميةً لبعض الشيوخ الذين لقِيَهم في الجزيرة الخضراء وزيارة لخزائن خاصّة فيها، وتبركًا بمن يوصَف بالخير والصّلاح من أهلها، قال في ترجمة ابن خَميس المتوفَّى سنة 688 هـ:"رَوى عنه ابنُه أبو جعفرٍ وأصحابُنا: قريبُه أبو بكر بن محمد القللوسيُّ وأبو إسحاق بن أحمدَ بن عليّ التُّجِيبيّ وأبو عبد الله بن عُمر بن رَشِيد ولقِيتُه بالجزيرة الخَضْراء وسمِعت منه بعضَ كلامِه، وأجاز لي ولمن أدرَك حياتَه من ولدي، وأدركها منهم: محمدٌ وأحمدُ، كان اللهُ لهما"(2). ويُفهَم
(1) المرقبة العليا: 131 - 132.
(2)
الذيل والتكملة 6/ الترجمة 806.
من هذا النصِّ أنّ ابنَ عبد الملك كان متزوِّجًا في ذلك التاريخ، كما أنه سمع خُطبة هذا الشّيخ وصَلّى وراءه يومَ الجُمُعة؛ إذ كان الإمامَ الخَطيب بالجامع الأعظم في الجزيرة الخضراء. ويَنقُل ابن عبد الملك عن كتاب "أعلام مالَقة" لابن عَسْكر، الذي أكمله ابن أخته ابن خميس بعد وفاته. وقد يكون تناوَلَه منه، وأتيح له أن يَطّلعَ على مكتبة آلِ عظيمةَ وهم "بيتُ علم بالقراءات واشتغال بها وانقطاع إليها، وإقراء وتجويد"، قال: "وقد وقفتُ بالجزيرة الخضراء عند صاحبنا الوَرِع الفاضل أبي عَمْرو عَيّاش بن الطُّفَيْل هذا المترجَم به على جُملةٍ وافرة من كتب سَلَفِه مما تملّكوه أو كتبوه أو ألّفه مؤلِّفوه
…
" (1).
كان ابنُ عبد الملك من كبار هُواة الكُتب والحصُول على نفائسها بالخصوص؛ ولهذا نجدُه يسعى عند دخول بلد من البلدان إلى البحث عما فيه من مكتبات، ومن هنا تيسَّر له الوقوفُ على كمّ هائل من الكتب ما نظُنُّ أحدًا من معاصريه يُضاهيه فيه، ولقد وجدناه يشُدُّ الرِّحال للتنقيب عنها في حواضر المغرب وبَواديه، فقد زار حاحةَ بلدَ صاحبه العَبْدَريّ مؤلّف الرحلة المعروفة، كما زار بلد درعةَ فيما يبدو، جاء في ترجمة أبي الحَسَن ابن النّعمة عند ذكر تفسيره الضخم "ريِّ الظّمآن في تفسير القرآن" ما يأتي:"وكان كاملًا عند بعض الطلبة بدرعةَ في سبعةٍ وخمسينَ مجلّدًا متوسطة، بعضها -وفيه: أولُها- بخطّ تلميذه الأخصّ به أبي جعفر بن عَوْن الله، وأكثرها -ومنه آخِرُها- بخطّ أبي عبد الله محمد بن أبي الحَسَنُ محمد بن عبد العزيز بن واجب، وتاريخُ فراغِه من نَسْخه مُنسَلَخ جُمادى الآخِرة سنة سبع وستينَ وخمس مئة"(2).
وممّا يتّصلُ بمقامه القصير في الجزيرة الخضراء الذي لم يتجاوزْ ثلاثةَ أيام حسَبَ الرواية السابقة ما ذكَرَه في ترجمة أبي الحَسَن السُّماتيّ الشَّرِيشيّ،
(1) الذيل والتكملة 4/الترجمة 295.
(2)
المصدر نفسه 5/الترجمة 455.
قال: "وقد لقيتُ بالجزيرة الخضراء بعضَ عَقِبِه شيخًا موصُوفًا بالخير والصّلاح يؤدِّب بمسجد الرّمّانة منها ويُعرَف بالشّريشي"(1).
هؤلاء -فيما وقَفْنا عليه- هم شيوخُ ابن عبد الملك الذين اتّصل بهم مباشرةً وروى عنهم مشافهةً، وثمّةَ شيوخٌ آخَرون أندَلُسيّونَ ومشارقة حدّث عنهم بالإجازة.
39 -
ومن هؤلاء: ابنُ الزُّبير الغَرْناطيُّ إمامُ المسنِدين والمقرئين في وقته، ومؤلِّف كتاب "صِلة الصِّلة" المعروف، وقد تحدّث عن ابن عبد الملك في ترجمته له من حيث استجازةُ هذا إيّاه وطلبُه الروايةَ عنه فقال:"واستجازني قبلَ سنة ثمانينَ وبعدَ ذلك، فكتبتُ له مرارًا، واستوفى جملة من تواليفي استنساخًا، وتكرَّر عليّ سؤالُه فيما يرجع إلى باب الرواية"(2). ونجد مِصداق هذا في ترجمة المؤلّف لابن الزُّبير، قال:"وكتَبَ إليّ وإلى بنيّ بإجازة ما رواه وما ألّفه مطلقًا"(3).
وسرَدَ أسماءَ مؤلّفاتِه، ثم قال:"وقد وقفت على فِهرِسة رواياته، وكتاب "رَدْع الجاهل"، وبعض تاريخه في علماء الأندَلس، وأُرجوزته المذكورة
…
" (4)، وأشار إلى جُزء مشيختِه، وقال: "ولم أقفْ عليه وإنّما استخرجت هؤلاء المذكورينَ هنا -يقصِدُ شيوخَه- من برنامَج رواياته التي بعَثَ إليّ محمِّلًا لي ولبنيَّ إياه" (5).
كُتِبتْ ترجمةُ ابن الزُّبير في "الذَّيل والتكملة" في حياته؛ ولذلك نقرأُ فيها قولَ ابن عبد الملك: "وهو الآنَ متصدِّرٌ لإقراء كتاب الله وإسماع الحديث وتعليم العربية وتدريس الفقه، عامرًا بذلك عامّةَ نهاره عاكفًا عليه مثابرًا على إفادة العلم
(1) الذيل والتكملة 5/الترجمة 312.
(2)
صلة الصلة 3/الترجمة 36.
(3)
الذيل والتكملة 1/الترجمة 31.
(4)
المصدر نفسه.
(5)
المصدر نفسه.
ونشرِه، انفرَدَ بذلك في بلده قاعدةِ جزيرة الأندلس وصارت الرحلة إليه" (1). ويتابع ابن عبد الملك حديثَه عنه مسجّلًا رأيه فيه فيقول:"وهو من أهل التجويد والإتقان، عارفٌ بالقراءات حافظٌ للحديث مميّز لصحيحِه من سقيمِه، ذاكرٌ لرجاله وتواريخهم متّسع الرواية عُنِيَ بها كثيرًا، ورَحلَ بسببِها إلى سَبْتةَ وإلى كثير من بلاد الأندَلس وصنَّف في كثير من المعارف التي عُني بها"(2). وقد ذكَرَ انتقادَ بعض أهل مصره لمصنَّفاته ولا سيّما أُرجوزتُه في المذهب الشّوذي الصُّوفي الحَلّاجيِّ المنزع، ووافقهم على انتقاد الأُرجوزة لرداءة نظمها وخلوّها من المعنى، وقال:"ولقد كان الأولى به أن لا يتعرَّض لنظمها، فإنه منحَطّ الطبقة في النظم". وكرَّر هذا الكلامَ بعبارة أقوى لَذْعًا ممّا هنا، وذلك بمناسبة إشارته إلى رَجَزه المذكور فقال:"ولقد كان في غنًى عن التعرُّض لنظمه وأولى الناس بسَتْر عاره منه، والله يُبقي علينا عقولَنا، ويرشدُنا إلى ما يُرضيه عنّا بفضله وكرمه"(3). وانتقد كذلك كتابَه "رَدْعَ الجاهل" في الردّ على المذهب المذكور أَيضًا قائلَا: إنه "أقلُّ شيء فائدةً وأبعدُه عن النفْع بعلم"، وانصَبّ انتقاده لهذا الكتاب على الشكل والمضمون معًا، حيث واخَذَ ابنَ الزُّبير بالتساهل في الاستعمال وقال: إنه -حسَبَ قولِ أصحاب ذلك المذهب- لم يَفهَم منه شيئًا، ولا يتلاقى كلامُه فيه معَ كلامِهم في وِرْد ولا صَدَر. ولا نتّهمُ ابنَ عبد الملك هنا بالتحامل، إذ رأيُه في الشّيخ ما سُقناه، ورَعْيُه له -على البُعد- تشهدُ به هذه الكلمات: "وانجرَّت إليه مُطالَباتٌ أصلُها الحسَد الذي لا يكاد يسلَمُ منه إلا من عَصَمَه الله من غائلتِه وسُوء مغَبّته أدّته إلى التحوّل عن وطنِه تارات، أو إلى التخامل والانقباض به مرّات، والله ينفعُه ويدافعُ عنه ويُجملُ خلاصَه ويعجِّلُ إنصافَه ممن كاده، ويصرفُ عنه
(1) الذيل والتكملة 1/الترجمة 31.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
المصدر نفسه 6/الترجمة 1178.
مَن بسوءٍ أراده" (1). على أنّنا لا ننفي أن مِزاجَ ابن عبد الملك الحادَّ يدفعُه إلى شيء من الغلوّ في الانتقاد، فالأثران المذكوران لابن الزُّبير في الشوذية على الرغم مما قيل فيهما كانا يؤلِّفانِ -لو وَصَلا إلينا- وثيقتينِ تاريخيّتينِ مهما تكنْ طبيعتُهما - حول هذه النّزعة الصُّوفية القائمة على مبدإ وحدة الوجود، والتي وصلَ بعضُ أصحابها إلى الحُكم وأثّر أحدُ أقطابها على ذوي السّلطان وانتشر أتباعُها في المغربِ والمشرق، وخَلّفوا تراثًا كثُر حوله الجدال.
وقد خالَفَ ابنُ الخَطيب ابنَ عبد الملك في رأيه وتقويمه لكتاب "رَدْع الجاهل"؛ إذْ وَصَفَه بأنه: "كتابٌ جليل ينبئُ عن التفنُّن والاطّلاع"(2)، ولكنه ذكَرَ من كُتُبِه التي لم تصلْ إلى ابن عبد الملك "كتاب الزّمان والمكان" ثم قال:"وهو وَصْمة، تجاوَزَ اللهُ عنه"(3). وأوجَزَ ابن عبد الملك رأيَه في بقيّة ما سمّاه من مؤلَّفات ابن الزُّبير فقال: "فأما سائرُ ما اطّلعتُ عليه من تصانيفه ففيها ما في كلام الناس من مقبولٍ ومردود"، وله تعقيبات عليه في "الصِّلة" منثورةٌ في "الذّيل والتكملة" سنعرِض لها فيما بعد.
نقَلْنا في أول هذه الدراسة بعضَ كلام ابن الزُّبير في ابن عبد الملك ممّا يشهَدُ بنجابتِه وفائق نباهتِه وذكائه، ونسوقُ هنا رأيه في معارفه: قال: "كان، رحمه الله، نبيلَ الأغراض عارفًا بالتاريخ والأسانيد، نَقّادًا لها، حسَنَ التهَدِّي، جيّد التصرُّف وإن قَلَّ سماعُه، أديبًا بارعًا شاعرًا مجُيدًا؛ امتَدح بعض كُبراءِ وقته وكان معَ نقده الإسنادي ذا معرفة بالعربية واللغة والعروض ومشاركة في الفقه. وما تقدمت الإشارةُ إليه من معارفه أغلبُ عليه"(4).
(1) الذيل والتكملة 6/الترجمة 1178، ويشير ابن عبد الملك إلى محنة ابن الزُّبير وهي مشروحة في كتاب الإحاطة 1/ 191 - 192.
(2)
الإحاطة 1/ 190.
(3)
المصدر نفسه.
(4)
صلة الصلة 3/الترجمة 36.
وينطوي هذا الكلامُ على أمرين، أوّلهُما: الإشادة بتضلُّع ابن عبد الملك في التاريخ والأسانيد والنقد التاريخيِّ والإسنادي، ونكاد نلمَسُ شعورَ ابن الزُّبير بتفوّق ابن عبد الملك عليه في هذا كله. والأمر الثاني يُشبهُ أن يكونَ غمزًا خفيًّا بقلّة السماع وعَدَم الاتّساع في رواية الحديث، والحقُّ أنّ ابن عبد الملك يعترف بإمامة شيخه في باب الرواية، ومع ذلك فإنّ ابن الزُّبير وَصَف زياداتِ ابن عبد الملك في الكتاب الجليل الذي جمع فيه بين كتابَي ابن القَطّان وابن المَوّاق بأنها:"زياداتٌ نبيلة" كما اعترف بتفوّقه على من تقدَّمه ومن عاصره في كتابه "الذّيل والتكملة"، ولم ينسَ ابنُ الزُّبير في آخِر ترجمته لصاحبنا أن يشيرَ إلى "ما كان في خُلُقه من حدّة أثمرت مناقشة موتور وجَد سبيلًا إليه فنال منه".
وسنشرح هذا فيما بعد.
40 -
ومن شيوخ الأندلس الكبار الذين استجازهم ابنُ عبد الملك وذكَرَهم ذكرًا كثيرًا في كتابه: القاضي أبو عليّ الحُسَين بن عبد العزيز المعروفُ بابن الناظر الغَرْناطيّ، المتوفّى سنة 699 هـ. روى عنه جَمّ غفير، وله تصانيفُ في الحديث والقراءات، منها:"المسَلسَلات" و"الأربعون حديثًا" و"الترشيد في صناعة التجويد" و"برنامَج رواياته"، وقد عدّه المؤلف من شيوخه في تراجم أبي العبّاس القنجايريِّ، وأبي جعفر ابن الفَحّام، وأبي الحَسَنُ سَهْل بن مالك، وأبي الحَسَنُ بن خِيَرة، وأبي الحَسَنُ بن جَبَلة، وأبي عليّ الرُّنْدي، وأبي الوليد ابن الحاجّ، وأبي عبد الرّحمن بن غالب، وأبي عبد الله بن خَلفون، وأبي بكر القُرطُبيّ، ومحمَّد بن عبد الكريم الجُرَشي (1). وقد يكونُ ذكَرَه في تراجمِ غيرهم في الأسفار المفقودة في ترجمته له.
41 -
ومنهم: أبو جعفرٍ الطّباعُ الغَرْناطيّ، المتوفَّى سنة 680 هـ. ترجم له المؤلّفُ وقال فيه: "كان من أهل التفنُّن في المعارف، والحِذْق فيما ينتحلُه من
(1) انظر الذيل والتكملة 1/الترجمة 34، 414، 4/الترجمة 203، 229، 5/الترجمة 322، 669، 780، 6/الترجمة 89، 261، 324، 697، 1064.
العلوم، حسَنَ الخُلق قديمَ النَّجابة، برَّز في حداثة سنِّه على أقرانه، واشتُهر بالذكاء وتوقُّد الخاطر، وشُغِفَ بالعلم كثيرًا وانقطعَ إلى خدمته طويلًا". وهذه الصِّفات التي ذكَرَها رغّبتهُ في الأخْذ عنه بالإجازة فطلبها منه، وأجابه الشّيخُ إلى ذلك، قال ابنُ عبد الملك: "وكتَبَ إليّ بالإجازة مطلقًا في كلِّ ما يصحّ إسنادُه إليه" (1). وقد حدّث عنه بهذه الإجازة في تراجم ابن الفَحّام المالَقيّ، وسهل بن مالك، وأبي الحسن الدَّبّاج، وأبي عبد الله بن خَلفون، وأبي عبد الله الطّرّاز، وأبي بكرٍ القُرطُبي، وأبي عبد الله بن عِيَاض الحَفِيد (2). وقد يكون له ذكرٌ في الأسفار المفقودة من الكتاب.
42 -
ومنهم: أبو جعفرٍ أحمدُ بن يوسُف الطَّنْجاليُّ المالَقيّ. ذكَرَه في ترجمة أبي العبّاس بن ماتِع، وأبي الرّبيع الكَلاعي، وأبي الوليد ابن الحاجّ، ومحمد بن عبد النور الإشبيليّ (3).
43 -
وكذلك: أخوه أبو عبد الله محمدُ بن يوسُف. عَدَّه من شيوخه في ترجمة أبي العبّاس ابن ماتِع (4). ولم يصل إلينا معَ الأسف ما كتبَه عنهما ابنُ عبد الملك في "الذّيل والتكملة"، وهما من أُسرة علميّة مالَقيّة تنتمي إلى بني هاشم من قُريش.
44 -
ومنهم: أبو الحُسَين اليُسْرُ بن عبد الله بن اليُسْر الغَرْناطيّ، كان هو وأبوه من قبلِه من شيوخ الإقراء وغيره في غَرناطة. وقد ذكره المؤلّف من شيوخِه في تراجم أبي العبّاس القنجايريّ، وأبي العبّاس ابن الرُّوميّة، وأبي محمد
(1) الذيل والتكملة 1/الترجمة 409.
(2)
الذيل والتكملة 1/الترجمة 409، 414، 4/الترجمة 229، 5/الترجمة 394، 6/الترجمة 324، 613، 697، 8/الترجمة 133.
(3)
الذيل والتكملة 1/الترجمة 562، 4/الترجمة 203، 5/الترجمة 394، 6/الترجمة 1112.
(4)
المصدر نفسه.
عبد الله بن اليُسْر والده، وأبي بكر ابن اليابُريّ (1)، وقد يكون ذكَرَه في الأسفار المفقودة، وربّما كنا نعرفُ ما يرويه عنه بالإجازة لو وصلت إلينا ترجمته (2).
45 -
ومنهم: أبو عبد الله محمد بن يحيى بن أُبيّ، سمّاه من شيوخِه في تراجم ابن عَمِيرة المخزومي، وأبي جعفر ابن الفَحّام، وأبي الحَسَن الدّبّاج، وأبي الحَسَنُ بن عُصفور، وأبي الحَسَنُ بن قُطْرال، وأبي عبد الله بن عِيَاض الحَفِيد (3).
46 -
ومنهم: أبو الطيِّب صالحُ بن شَريف الرُّنْديّ، وقد ترجم له المؤلّف ترجمةً جيّدة ولكنّها لم تصلْ إلينا كاملة، وفيها يشيرُ إلى إجازته إياه فيقول:"رَوى عنه جماعة من أصحابنا، وكتب إليّ بإجازةِ ما رواه وألفه وأنشأه نظمًا ونثرًا"، ويُجمِل ما عرَفَه عنه في هذه الكلمات الجامعة:"وكان خاتمةَ أدباءِ الأندلس بارعَ التصرُّف في منظوم الكلام ومنثوره، فقيهًا حافظًا فَرَضيًّا متفنِّنًا في معارفَ جليلة نبيلَ المَنازع متواضعًا مقتصدًا في أحواله"، ويُلمُّ بمؤلّفاتِه التي وقَفَ عليها فيقول:"وله "مقامات" بديعة في أغراضٍ شتى، وكلامه نظمًا ونثرًا مدوّن، وله تأليفٌ في العَروض وتأليفٌ في صنعة الشّعر سمّاه "الكافي في علم القوافي"، وأودعه جملةً وافرة من نظمه"(4).
47 -
ومنهم: أبو الحَسَنُ عليُّ بن محمد الكُتَاميّ الإشبيليّ مُستوطن غَرناطة، المعروفُ بابن الضائع المتوفّى سنة 680 هـ. قال في ترجمته:"رَوى عنه طائفة من أهل غَرناطة، وكتَبَ إليّ بإجازةِ ما كان عنده مطلقًا"، وذكر معارفَه وبعضَ مؤلّفاته التي أباح له أن يحدّث عنه بها فقال: "وكان نَحْويًّا ماهرًا حسَنَ التصرّف في
(1) الذيل والتكملة 1/الترجمة 34، 758، 4/الترجمة 393، 5/الترجمة 234.
(2)
ولأبي اليسر ترجمة في درة الحجال رقم (1517).
(3)
الذيل والتكملة 1/الترجمة 231، 414، 5/الترجمة 394، 700، السفر الثامن (ترجمة لابن قطرال رقم 1 وترجمة ابن عياض الحفيد رقم 133).
(4)
الذيل والتكملة 4/الترجمة 263.
علم الكلام وأصُول الفقه وافرَ الحَظّ من الفقه، وله جمْعٌ حَسَن بين شرحَي السِّيرافي وابن خَروف "كتابَ سيبويه"، إلى غير ذلك من مصنَّفاته في العربية وما كان ينتحله من العلوم" (1).
48 -
ومنهم: أبو الحَسَنُ فضل بن فضيلةَ، المتوفَّى بغَرناطة سنة 696 هـ، وهو متصوِّف وله في التصَوُّف رسائلُ بارعة ومقالاتٌ نافعة. قال ابنُ عبد الملك في ترجمته:"رَوى عنه كثيرٌ من أصحابنا، وكتَبَ إليّ بإجازةِ ما كان عنده مطلقًا"(2). وذَكره في ترجمة الصّوفيّ أبي تَمّام غالب ابن سيّد بُونُه فقال: "روى عنه أبو الحَسَنُ فضل بن فضيلة، وحدّثنا عنه مكاتبةَ"(3).
49 -
ومنهم: قاسمُ بن أَحْمد أبو محمد السّكوت المالَقيُّ المتوفَّى بمالَقةَ عام 690 هـ قال ابن عبد الملك في ترجمته: "رَوى عنه غير واحد من أهل بلده وكتب إليّ بإجازةِ ما كان عنده، وكان نبيهًا حافظًا ذا حظّ صالح من علوم اللّسان، واستُقضيَ بمالَقةَ وحُمِدت سيرتُه"(4).
50 -
ومنهم: أبو محمد جابرُ بن جبيرةَ الإشبيليّ -فيما يبدو- سمّاه شيخًا له وقال: أنه حدّثه عن المقرئ المحدّث أبي القاسم القَرَمونيّ (5).
ونلاحظُ أنّ ابنَ عبد الملك ينُصُّ على أنّ معظم هؤلاء الشيوخ الأندلسيِّين كتَبوا إليه بالإجازةِ المطلقة، وهي لا تكون إلا لمن هو أهلٌ لها مثل صاحبنا.
51 -
وفي هذا السّياق تَلقَّى إجازاتِ أخرى من إفريقيّةَ والقاهرة ودمشق، فقد ذكَرَ في ترجمته الحافلة لأبي العبّاس ابن الغَمّاز البَلَنْسيِّ نزيل تونُس وقاضيها المتوفّى بها سنة 693 هـ ما يلي: "رَوى عنه أصحابنا آباءُ عبد الله: ابن رشيد،
(1) الذيل والتكملة 5/الترجمة 641.
(2)
المصدر نفسه 5/الترجمة 1061.
(3)
المصدر نفسه 5/الترجمة 978.
(4)
المصدر نفسه 5/الترجمة 1068.
(5)
المصدر نفسه 1/الترجمة 468.
وابن مَسْعود، والصّبيحيُّ، وكتَبَ إليّ وإلى بنيَّ الخمسة من تونُس" (1). وابن رُشَيْدٍ هو مؤلّف "مِلْءِ العَيْبة" المشهورة، وابن مَسْعود هو العَبْدَريُّ الحاحيُّ صاحبُ الرّحلة المعروفة، وأما الصّبيحي فلم نهتدِ إليه، ونحسَبُ أنّ كتاب ابن الغَمّاز، الذي وَصَل إلى صاحبنا مشتملًا على الإجازة له ولأبنائه، قد وَصَل إليه صُحبةَ أحد المذكورين وإن لم ينصَّ على ذلك.
52 -
ويعتزُّ ابن عبد الملك بمشيخة ابن دقيقِ العيد شيخ الجماعة بالدّيار المِصريّة في وقته، ويحدِّث عنه بكلِّ تجِلّة واحترام؛ قال في ترجمة الشاطبيِّ إمام القراءات بعد أن ساق حكايةً غريبة في حفظِه العجيب وقعَتْ في مصر:"حدّثنا بهذه الحكاية شيخُنا الإِمام تقيُّ الدين أبو الفتح محمد بن عليّ بن وَهْب بن مُطيع ابن أبي الطاعة القُشَيْريّ ابنُ دَقيق العيد رضي الله عنه إجازة، وحدّثنا أَيضًا إجازة، قال: وقال لي صِهرُه (أي: صهرُ الشاطبيّ) أبو الحَسَنُ عليُّ بن سالم بن شُجاع، وكان أَيضًا ضريرًا وأخَذ القراءاتِ عنه: أردتُ مرة أن أقرأ شيئًا من الأصُول على ابن الوَرّاق، فسمع بذلك فاستدعاني فحضرتُ بين يديه، فأخَذ بأُذُني، ثم قال لي: أتقرأُ الأصول؟ فقلت: نعم، فمَدَّ بأُذني، ثم قال لي: من الفضول، أعمى يقرأُ الأصول"(2). ونقَل عنه في موضع آخَرَ من كتابه قائلًا: "وأخبرني الإِمام الأوحَدُ تقيُّ الدين أبو الفتح محمدٌ ابن الإِمام مَجْد الدين أبي الحُسَين عليّ بن وَهْب بن مُطيع بن أبي الطاعة القُشَيري ابن دقيق العيد مكاتبةً (3) من مصر، قال: أنشَدَني الفقيه المفتي هارونُ بن عبد الله بن هارون بن الحُسَين بن أَحْمد المَهْرانيُّ قديمًا، قال: أنشَدني الفقيه الإِمام العالِم أبو الحَسَنُ عليّ بن المفضّل المقدِسيّ لنفسه"(4)، ثم ساق نظمًا له من اثني عشر بيتًا في حكم تارك
(1) الذيل والتكملة 1/الترجمة 602.
(2)
المصدر نفسه 5/الترجمة 1088.
(3)
المكاتبة عند أهل ذلك العصر تعني: الإجازة (بشار).
(4)
انظر الترجمة رقم (230) في السفر الثامن.
الصلاة حسَبَ الأئمة الأربعة وغيرهم، ويبدو أنّ المكاتبةَ بين ابن عبد الملك وشيخه ابن دقيق العيد كانت متواصلةً بواسطة أصحاب الرّحلات العلميّة كابن رُشَيْد السَّبْتي والعَبْدَريّ الحاحيّ وغيرِهما، ونذكُرُ هنا أنّ الأخيرَ هو الذي أجرى ذكْرَ صاحبِه ابن عبد الملك في مجلس ابن دقيق العيد عند أول لقائه إياه، قال في رحلته:"وفي أول ما رأيته قال لي: كان عندَكم بمَرّاكُش رجلٌ فاضل، فقلت له: من هو؟ فقال: أبو الحَسَن ابن القَطّان، وذكر كتابه "الوَهْم والإيهام" وأثنى عليه، وذكرت له تعقيبَ ابن المَوّاق عليه وأنه تَرَكَه في مسَوَّدتِه، فعانى إخراجَه صاحبُنا الفقيهُ الأديب الأوحَد أبو عبد الله ابن عبد الملك حفظه اللهُ تعالى، فقال لي: ومَن هذا الرَّجل؟ فعرَّفته به وبما حضَرني من تحليته، وما أذكُرُ من تقاييدِه ومن جملتها "تذييلُه على كتاب الصِّلة لابن بَشْكُوال" وأنه كتابٌ متقَن مفيد، فعجِبَ من ذلك، وكتب ما أمليتُه عليه منه"(1).
كان هذا الكلامُ عند زيارة العَبْدريِّ للقاهرة سنة 688 هـ، ويستفاد من هذا أنّ ابنَ عبد الملك كان قد أخرَجَ كتابَيْه الكبيرَيْن وهما:"الجَمْع بين كتابَي ابن القَطّان وابن المَوّاق" في الحديث و"الذّيل والتكملة"، وأنّ العَبْدريَّ كان قد اطّلع قبل التاريخ المذكور على ما أخرَجَه ابن عبد الملك من هذا الكتاب الأخير؛ لأنّنا نجد في بعض التراجم ما يشيرُ إلى تواريخَ متأخِّرة عن التاريخ المذكور، ونعرف من كلام ابن الزُّبير وإشاراتٍ للمؤلّف في كتابه قُبَيْل وفاته أنه بقِيَ عاكفًا على تنقيحه وتكميله حتى وفاته كما سنبيّنُه فيما بعدُ، ونستفيدُ من كلام العَبْدريّ أَيضًا أنّ "الذّيل والتكملة" لم يُعرَفْ في مصر قبلَ زيارة العَبْدريّ، وأنه أولُ من عرَّف بهذا الكتاب الجليل الذي كان له فيما بعدُ شأنٌ كبير عند المؤرِّخين المِصريِّين والمَشارقة عمومًا حيث اعتمدوا عليه في كتابة التراجم، ولعلّ أوّلَهم ابن فَرْحون، ثم السَّخاويُّ، والسُّيوطي وسواهم.
(1) رحلة العبدري: 140.
وكما كان العَبْدريُّ أولَ مَن عرَّف ابن دقيق العيد بابن عبد الملك -وهو التعريف الذي قيّده ابن دقيق العيد على عادتِه في تقييد ما يسمعُه أو يُمليه- كان أَيضًا -فيما نُرجِّح- أولَ من حَمَلَ إليه إجازته له ولبعض أماليه إليه، وقد يدُلّنا على ذلك اشتراكُ الرجلينِ: العَبْدريِّ وابن عبد الملك في التحديث ببعض هذه الأمالي عن ابن دقيق العيد. ولا نعرفُ الآنَ هل كانت الإجازةُ ابتداءً أم بسؤال من ابن عبد الملك مباشرةً أو بواسطة العَبْدريّ.
أمّا ابنُ رشيد فقد ذَكَرَ اسمَ ابن عبد الملك وابنِه أبي القاسم في الاستدعاء الكبير المؤرَّخ في رجب عام 684 هـ، وهو الذي استدعَى فيه الإجازةَ من علماء الشرق، لنفسِه ولأولاده وأقاربه وطائفةٍ كبيرة من أهل المغرب والأندلس وإفريقيّةَ ومن غيرهم، ويبلغ عدَدُهم ما يقرُبُ من 120 عَلَمًا، واستجاب لهذا الاستدعاء بكتابة الإجازة للمذكورينَ: عبدُ العزيز الحَرّاني، وأحمدُ بن عبد الله الجزائري، وخليلٌ المراغي، وأبو بكر بن عُمر القُسَنْطيني، وعبدُ المؤمن بن خَلف الدِّمياطي، وابنُ الخِيَمي، وعبدُ الوليّ بن بحتر البَعْلَبَكِّي، وعمادُ الدين الصّفّار، ومحمدُ بن يحيى القُرَشَي، وعبد الله الإسعردي، والفضلُ بن رَواحة، وعبدُ الرحيم بن يوسُف الدّمشقي، وابنُ الأنماطي، وأبو البدر بنُ أبي الزَّين المِصري، وعبد الرحيم بن عبد المُنعم الدَّمِيريّ، وشعبانُ الخِلاطي، وأُمُّ الفضل زينبُ بنت عبد اللطيف البغداديّ، ومحمدٌ ابن الخُراسانيِّ التِّلِمْسانيُّ، ومحمد بن يحيى الشَّيباني، وأحمدُ بن عيسى البُلْبيسيّ، وعليُّ بن عبد الكريم الدِّمشقي، وغازي الحلاويّ، وعليّ بن محمد المعروفُ بالبديع، والملك نجمُ الدِّين الأيوبيّ، وعبدُ المُنعم بن يحيى الخَطيب ابن بَدْران، وعليُّ بن عبد الرّحمن النابُلُسيّ، وأبو عبد الله جمالُ الدِّين قاضي نابُلُس، وإبراهيمُ بن عبد العزيز اللّوري، وعبد الرّحمن بن يوسُفَ البَعْلَبَكّي، وعُمرُ بن يحيى الكَرَجي، ومحمَّد بن خالد بن حَمْدون، وعليّ بن أحمدَ المقدِسيّ (1).
(1) راجع الاستدعاء الكبير في رحلة ابن رشيد 3/ 464.