الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكنّنا لم نقفْ في الأسفار الموجودة من "الذّيل والتكملة" على عمل ابن عبد الملك بهذه الإجازة.
ووَصَل إلى المؤلف وإلى ولده محمد كتابٌ من دمشقَ من صاحبه وزميله القديم أَحْمد بن فَرْح صاحب القصيدة الغَزَليّة المورِّية بألقاب الحديث والمعروفة بعنوانها: "غرامي صحيح"، قال في ترجمته:"كتَبَ إليّ وإلى ولدي محمد من ظاهر دمشق"(1). وقد يكون في هذا الكتاب إجازةٌ أو استجازةٌ من بعض من أخَذ عنهم في المشرق، وسماهم المؤلّف في ترجمته.
وهكذا نرى أنّ ابن عبد الملك، الذي لم تُكتَبْ له الرحلةُ إلى الديار المشرقية (2)، قد بلغ إليه علم المشرق سواءٌ من الوافدينَ منه على المغرب والأندلس مثلُ ابن رَشِيد البغداديِّ وابن الحَنْبلي الدِّمشقي وغيرهما، أو بواسطة
أصحابِه
الراحلينَ إلى المشرق كالعَبْدريّ وابن رُشَيْد السَّبْتي وغيرهما.
وبعدُ، فهؤلاء هم شيوخُ ابن عبد الملك -فيما وقَفْنا عليه- وقد بذَلْنا جهدنا في تتبُّعهم وتجريدهم من الأسفار الموجودة من "الذّيل والتكملة" الذي يعتبر مصدرَنا الأول في معرفة ابن عبد الملك.
أصحابُه:
أشار ابن عبد الملك، في معرِض الحديث عن بعض شيوخه وغيرهم، على عدد من أصحابه، ويقصِد بهم: أقرانه الذين اشتركوا معه في الأخْذِ والرواية عن أولئك الشيوخ.
(1) الذيل والتكملة 1/الترجمة 483.
(2)
يبدو أنه لم تتيسر له أسباب الاستطاعة لأداء فريضة الحج، ونجده يقول في وصف رحلة ابن جبير:"وهو كتاب ممتع مؤنس مثير سواكن النفوس إلى الوفادة على تلك المعالم المكرمة والمشاهد المعظمة" الذيل والتكملة 5/الترجمة 1172.
فمنهم: العَبْدَريُّ محمد بن محمد بن سُعود الحِيحي صاحبُ الرحلة المعروفة، ذكَرَه ابن عبد الملك في الآخِذين عن بعض الشيوخ الذين ترجم بهم، وعدّه من أصحابه، ويبدو أنه جَمَعت بينَهما بعضُ حلقات الدّرس في مَرّاكش، ولا سيّما حلقةُ شيخِهما قاضي الجماعة بمَرّاكُش أبي عبد الله محمد بن عليّ بن يحيى المدعو بالشريف، ونُقدِّر أن يكونَ ابن عبد الملك ذكَرَ صاحبه عَرَضًا في أحد الأسفار المفقودة بما يفيدُ في تصوير صلتِه به. وقد وجَدْناه يَذكُر عَرَضًا زيارته حاحةَ، ولكننا لا نعرف مناسبتَها وهل لها علاقةٌ بصاحبه.
ونتساءل: هل كتَبَ ترجمته في "الذّيل والتكملة" أم لا؟ فهو من حيث دخولُه الأندلس على شرط الكتاب، ولكننا لا نجدها في مظِنّتها مع المحمّدينَ في النسخة التي وصلت إلينا من سِفر الغُرباء، ويبدو من تتابُع الأسماء أنه لا سقط فيها، وكذلك الشأنُ في ترجمة ابن رُشَيْد السَّبْتي، وقد نفسِّر هذا بأنّ ابن عبد الملك لا يترجم لمن هم -من حيث السنُّ- في منزلة أقرانِه أو دونَهم.
رأينا فيما تقدَّم آنفًا حديثَ العَبْدَريّ عن ابن عبد الملك وتوشيحَه صاحبه بالنّعوت الآتية: "صاحبنا الفقيه الأديب الأوحد"، ووَصْفَه كتابَه بالإتقان والإفادة، ومن يعرِفْ طبيعة العَبْدَري الصارمةَ واقتصادَه في ألفاظ الثناء، وقَصْرَه إياها على مستحقيها وبُخلَه بها عن غيرهم، يلمَسْ منزلةَ صاحبه عنده، ومكانتَه من نفسه. ولا بدّ أنّ الرجلينِ كانا يتبادلانِ الودّ والتقدير، وهما يجتمعانِ في النسبة الإقليمية، ويتشابهان في حِدّة المِزاج وصراحة القول وإبداء الانتقاد والتشدد في النهج.
ومن أصحاب ابن عبد الملك: ابن رُشَيْدٍ السَّبْتي مؤلِّفُ الرحلة الجامعة المستوعِبة للفوائد، ذَكَرا معًا هذه الصحبةَ واشتركا في الأخذ عن بعض الشيوخ، وكان بينَهما ما يكونُ بين صاحبينِ متعاصرَيْن مشتركين في الصّناعة، متواردَيْن على الرواية" طموحَيْنِ إلى التفوُّق العلمي. أمّا ابن عبد الملك فقد سمّى صاحبَه خلال بعض التراجم، وقال فيه في إحدى المناسبات، وهو ينشد تذييلاتِ الأندَلسيِّين
وغيرهم على بيتى الحريري الواقعَيْن أثناء المَقامة السادسة والأربعينَ اللذين قال فيهما: "أسكَتا كُلُّ نافث، وأمِنَا أن يُعزَّزا بثالث": "ومثلها ما أنشَدني الصاحب الأكرم الحاجّ المبرور الراوية أبو عبد الله بن رُشَيْد، قال: أنشدني أبو محمد عبدُ الواحد بن محمد بن مبارَك التونُسيُّ لنفسه"(1). ثم أنشَدَ له بيتًا يعزِّز بيتي الحريريِّ المذكورين، وما كتبه ابن عبد الملك عن صاحبه هنا كان، كما هو واضح، بعد رجوعه من رحلته وحَجِّه، وهو يشهَدُ له كما ترى بالرواية التي عُرف بشَغَفها وسَعته فيها، ولا بدّ أنّ ابنَ عبد الملك وقَفَ على رحلة صاحبه كلِّها أو بعضِها، وإن لم نقفْ على ذكرِه لها في الأسفار الموجودة من"الذّيل والتكملة"، وما أنشَده هنا واردٌ فيها، ولكنّ عبارته تقضي سماعَه منه مباشرة إلا إذا كان ابنُ رُشَيْد ناوَلَه رحلتَه وتدبّجا، أى: روى كلُّ واحد منهما عن صاحبِه.
ويبدو أنّ أولَ لقاء بين الرجليْنِ تم في سَبْتة. وقد صرّح ابن رُشيد في رحلتهْ على أنه اجتمع بابن عبد الملك قبلَ رحلتِه التي بدأها سنة 683 هـ، فقد حَكى فيها أنه عرَفَ بظهر المركَب الذي سافَرَ فيه من الإسكندَريّة عند العودة أديبًا مَرّاكُشيًّا هو أبو عثمان سعيدُ بن جون، وجرى بينَهما حديث جَرّ إلى ذكر ابن عبد الملك، وهذا نصُّه:"وكانت له (أى: للمَرّاكشيِّ المذكور) مشاركةٌ في علمَي العَروض والقافية، فتذاكرنا على مَتْن البحر شيئًا من أمر العَروض، فقلت له: إنّ صاحبَنا الفقيهَ الجليل المتفنِّن الأديبَ المحدِّث المتقنَ الضابط الناقدَ أَبا عبد الله بن عبد الملك المَرّاكُشيّ ذكَرَ لي يومًا بسَبْتة أنّ بعضَ الأدباء صنَع نظمًا عجيبًا في العَروض يتضمَّنُ جميعَ أعاريضه وضروبه، وأنه ذكَرَ لي صَدْره من حفظه ولم يُمكِّنِّي منه، فقال: القصيدُ عندي حاضر كنتُ قيَّدتُه عنه، فسُررت بذلك واغتنمتُها إفادةً جَرَت إليها المذاكرةُ واستخرجَتْها المحاضرة وكتبتُها عنه"(2)، ثم ساق مقدّمة القصيدة المذكورة وأنشَدها في موضع آخَر، وهي قصيدةٌ لأبي الحَبْش البَسْطي،
(1) الذيل والتكملة 4/الترجمة 122.
(2)
ملء العيبة 6/ 2 مخطوط.
ونَستشعرُ من قول ابن رُشَيد: "ولم يمكِّنّي منه" كأنّ ابنَ عبد الملك تمنَّعَ من إفادته بذلك النظم، معَ أنه ربّما لم يكن تحتَ يده وقتئذٍ؛ لبُعده عن مكتبته في مَرّاكُش، وعلى كلٍّ فقد صار إليه النظم نقلًا عن ابن عبد الملك بواسطة ابن جونٍ المَرّاكُشيِّ صاحبِه وبلَديِّه، وقدِ استفاد ابنُ رشيد من ابن عبد الملك فوائدَ ذكَرَها حينًا وسكَت عنها أحيانًا أخرى، فمن ذلك: أنّ ابنَ رشيد قرأَ على ابن عبد الملك بأغمات برنامَج شيخِه الرُّعيني ووَهَبه ابنُ عبد الملك نُسخةً من هذا البرنامَج، وقد وَصَل إلينا نصّ سماع ابن رُشيد في النسخة التي اشتراها المرحومُ الزِّرِكْليُّ من مدينة مَرّاكُش، وهذا نصُّه:"الحمدُ لله، أكملتُه قراءةً على صاحبنا الأديب الحافل المتقِن الضابط، المتفضِّل بهبة هذه النُّسخة لي أبي عبد الله ابن عبد الملك حفظه الله وتولّاه، [وكان يُمسِكُ] أصلَ سماعِه [وأنا] أصحِّح هذه النُّسخة عليه، وكتَبَ محمد بن رُشَيْد الفِهرِيُّ أرشده الله، وكان [ذلك] بمدينة أغمات في عاشرِ شوّال عام .... وست مئة. والحمد لله"(1).
ويتبيّنُ من هذا النصِّ أنّ الصاحبَيْن التقيا في مناسباتٍ متعدِّدة في سَبْتة وأغمات ومَرّاكش وربما في فاسَ وغيرها، وقد جمعتهما خدمةُ الدولة المَرِينية الجديدة حيث أُسندت إليهما خُططٌ تناسبُهما، وفي النصِّ المذكور نرى ابن رُشَيْد يُحلِّي صاحبَه بحُلى رفيعة ويدعو له بما اقتضاه مقامُ الرّواية وأوجَبَه حقُّها عليه، ورأينا فيما سبَق كيف حَلّاه ابن عبد الملك. ومن التّحليتَيْن يؤخَذ رأي كلٍّ منهما في الآخَر.
ومعَ أنّ ابنَ رُشَيْد يعترفُ بطول باع صاحبِه في الأدب وتمكُّنِه من الضبط والنّقد، فقد وجدناه يبدو وكأنه يخالفُ رأيه هنا؛ إذ ينعَتُ صاحبَه ابنَ عبد الملك في موضع آخَرَ بالتجَنِّي في النّقد والتعسُّف فيه، ويرميه بانتقاص الأفاضل وتمكُّن هذه العادة منه حتى صارت له طبعًا، فقد وقَفَ ابن رشيد على ما كتبَه ابنُ عبد الملك في
(1) برنامج الرعيني - من المقدمة.
ترجمة الشَّاعر ابن المُرحَّل وما أورده من شعره، وما تعقَّبه عليه فيه، فدفعته حَمِيّةُ البلديّة إلى الردِّ العنيف عليه والانتصار لابن المُرحَّل الذي كان شيخًا لكليهما معَ أنّ ابنَ عبد الملك ناقَشَ شعرَ شيخه بأدب وذكَرَ له محاسنَه وسمَحَ لنفسه بمراجعته حسَب اجتهاده، ولا عيبَ في هذا ولا عَتْبَ على ابن عبد الملك فيما نرى، ولا داعيَ لأنْ تَثُورَ ثائرةُ ابن رشيد على صاحبِه ويفورَ غضَبُه فيَخرُجَ عن حدِّ التعقيب الرَّزين الرَّصين إلى حدّ التعريض المَعِيب والتصريح المَشِين، ولكنّها المعاصرةُ ومنافساتُها الخفِيّة وخَلفيّاتُها المحجوبة وحساسيّاتُها المستورة. وقد يَحسُنُ بنا أن نوردَ نصُوصَ الموضوع؛ لنُشرك القارئَ فيه ولتتضّحَ له معالمُه:
أنشَد ابن عبد الملك قصيدةً لابن المُرحَّل مطلَعُها [من الطويل]:
بوَصْفِ حبيبي طرَّزَ الشّعرَ ناظمُهْ
…
ونَمْنَم خدَّ الطِّرس بالنَّقْش راقمُهْ
واستجادها في الجُملة ثم تعقَّبها، قال: "وفي هذه القصيدة -على ما بها من إجادة- تعقُّبٌ من وجوه، منها: التضمينُ وهو من عيوبِ النظم، وذلك في قوله: وممّا دعاني
…
، والبيتِ الذي بعده، ومنها: الإيطاء في "صوارمُهْ" في بيتين بينهما بيتان، ومنها: إعادةُ ضمير "نواسمُهْ" وهو مذكَّر على الأرض وهي مؤنثة على إرادة التذكير بتأويل المكان أو المحلّ أو شبههما أو إعادته على النبيِّ صلى الله عليه وسلم بأدنى نسبة، كلُّ ذلك تكلّف بعيدُ المتناول
…
". وقد نقَلَ ابن رُشَيْد في رحلته هذا التعقيبَ ورَدّ عليه بما يلي: "هذا ما قاله صاحبنا جَرْيًا على عادته -عفا الله عنه- من انتقاصِ الأفاضل، واعتساف المجاهل، وتَرْك الصافي الزُّلال وورود الكدَر والعَكَر من المناهل، وكل ما قاله فاسد، والنقد عليه عائد. أما هذا التضمين الذي ادّعى أنه عيب فليس بهذا، وإنّما العيبُ الذي ترجَمَ له أهلُ القوافي هو ما كان بين القافية وصَدْر البيت الذي يليها، كقوله:
...........................
…
وهم أصحابُ يوم عكاظَ إنّي
شهدت لهم مواطنَ صادقاتٍ
…
.......................
وأما هذا التضمينُ الذي فعله الشِيخ فسبيلٌ جيّدة وطريقٌ مستحسَنة عند العرب والمولَّدين المتقدِّمين منهم والمتأخِّرين، وإنّما أوقعه في ذلك عَدَمُ معرفته باللفظ المشترَك، وأمّا ما ادّعاه من الإيطاء فغلطٌ وَقَرَ في سمعِه أو في خطِّه عند كَتْبه ووَضْعِه، وإنّما قال الناظمُ في البيت السادس:
* فما أسلمته بِيضُه ولهازمُهْ *
وإنما وقع: صَوارمُهْ، في البيت التاسع، وهو الذي ألزم به النقد هذا الناقد المتعسّف، وأمّا ما قاله في عَوْد الضّمير فممّا تُصانُ عنه المسامع، ويالله ويالله ويا للمسلمين! ما الذي يمنَعُ من إعادة الضمير على النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟! وأيُّ تكلّف فيه أو أيّ نسبة أو بُعد تناول معَ أنّ إعادته على الضمير المخفوض في قوله: أرضه، وهو ضميرُ المثال أو ضميره صلى الله عليه وسلم وشرّف وكرم - صحيح حسن؟ ولكنّها عادةٌ تعوَّدَها، ووسادةٌ اعتمدها وتوسَّدها، وما نعلم في هذه القصيدة شيئًا يُنقَد إلا ثِقَل لفظ: أصكّ به خَدّي. واللهُ المرشد، والإنصاف أحقُّ ما اعتُمد، وأوْلى ما اعتُضِد" (1).
كما أورد ابن عبد الملك قصيدةَ ابن المُرَحَّل الطائيّةَ التي مطلعُها:
أدمعُك أم سِمطٌ وقلبُك أم قُرطُ
…
وشوقُك أم سَقْطٌ وجسمُك أم خَطُّ؟
وعقَّب عليها قائلًا: "وفي هذه القصيدة أَيضًا تعقُّبٌ من وجوه، منها: استعمالُ "أم" مكان "أو" في قوله: أم خَطّ، وفي حَمْلها على الانقطاع بعدٌ لا يَحسُن فيه المعنى إلا على التكلّف، ومنها: تكريرُ المعنى في قوله: "بقلبي لها سَقْطُ" و"في مدمَعي سِمْطُ"، فيه افتَتَح القصيدة، وذلك ضِيقُ عَطَن. ومنها: استعمالُ البَسْط في قافية البيت الذي قبلَ الأخير منها مكان التبسُّط، ومنها، وهو أقبحُها: التضمينُ المَنْعيُّ عليه في القصيدة التي قبلَ هذه، وذلك بين البيتين: رأيت مثالًا، والذي بعده يليه"(2).
(1) فتح المتعال للمقري: 285 - 286.
(2)
الذيل والتكملة 1/الترجمة 419.
ولمّا قرأ ابنُ رُشيد هذا الكلامَ عقب عليه بقوله: "ولمّا أنشَد القاضي محمد بن عبد الملك المَرّاكُشيُّ هذه القصيدةَ الطائيّةَ بعدَ قوله: أنشَدنيها ناظمُها، أتبَعَ ذلك بالاعتراض جَرْيًا على عادته التي وافقَها، وأبي أن يُفارقَها، حتى عادت له طبعًا، وقَرَع بجِوار غَرْبِه من صليبِ عودِها نبعًا، فقال عفا اللهُ عنه"، ثم نقَل ما انتقدَ به ابنُ عبد الملك قصيدةَ ابن المُرحَّل هنا، وقال:"وهذه الاعتراضاتُ كلُّها ساقطة، ولكنْ ليس لها لاقطة، فأمّا الأول، وهو قوله: منها: استعمالُ "أم" مكان "أو" في قوله: "أم خَطُّ"؛ فتلك شَكاةٌ ظاهرٌ عوارُها، وعليه عارُها، فإنّ ناظمَه إنّما قاله بأو وكذلك أنشَده لنا، وإنما ابن عبد الملك كتبَه بأمْ بخطِّه. وأمّا الثاني، وهو قوله: إنه كرَّر سِمطُ وسَقطُ وذلك ضِيقُ عَطَن؛ فهذا لا دَرْك فيه، بل هي طريقة مسلوكةٌ مألوفة، وسبيل في الفصاحة معروفة، وإنّما يُكره ذلك إذا تكرَّر في القافية ولا سيّما وأنّ تكريرَه لسِمْطُ إنّما هو بعد تسعة أبيات، وإذا وقَع مثلُ هذا وبينَهما هذا العددُ لم يكنْ إيطاءً، معَ أنه في الصّدر اشتمل فيه مع سَقْطُ الترصيع دون أن يكون واحدٌ منهما في مِصراع، فيقال: المِصراعُ قد يُشبِهُ العَجُز، وهذا شيءٌ ما تحاماه متّسعُ عَطَن، ولا قدحَ فيه ولا طَعَن، ممّن ظَعَن أو قَطَن، ومع هذا فاستعمالُها في البيت الأول المصرَّع، وفي الثاني المعترَض عنده ليس على حدّ واحد، بل هما مُصَرَّعان في مَهْيَعينِ من الكلام مختلفين، ومما يُعَدُّ من الفاضل لا من المفضول، فإنه استُعمل في البيت الأول من باب تجاهل العارف، وفي البيت المعترَض عند هذا المعترِض من تحقق الواصف، فاستيقِظْ أيها النائمُ إن وافقتَ المعترِض، فقد أدلَجَ الناس. وأمّا الثالثُ، وهو استعمالُ البَسْط في القافية مكان التبسُّط الذي في صَدْر البيت؛ فهذا أَيضًا واهٍ، في حضيض الخمول واهٍ؛ وهل يُنكِرُ عربيٌّ وضعَ المصادر بعضِها في مواضع بعض؟ وأين أَنْتَ عن قولِه تعالى:{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17]؟ ثم مع ذلك إذا اعتُبر معنى البيت اتّجَه فيه مقصِدٌ آخَر؛ وهو أنه لمّا انبسَط في لَذّاته
وذنوبه صَحّ له بحبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ لقِيَ البَسْط ولم يلقَ القَبْضَ إنعامًا عليه من الله تعالى، وهذا كما قال بعضُ الراجينَ المعترِفينَ من المذنبين:
تبَسَّطنا على اللّذاتِ حتى
…
رأينا العفوَ من ثمرِ الذنوبِ
وهذا معنًى حسَن يُسقطُ اعتراضَ هذا المعترِض، وأمّا الرابع، وهو الذي قال فيه: إنه أقبحُها، وهو التضمين، فقد وقع الجوابُ عنه:
وكم من عائبٍ قولًا صحيحًا
…
وآفتُه من الفهم السقيمِ" (1)
وفي هذا الردِّ كما نرى تحامَلَ على ابن عبد الملك الذي له فضلٌ سابق على ابن رُشَيْد اعتَرفَ ببعضه في بعض المناسبات وسَكَت عن بعضِه الآخر، ووراءَ هذا الردِّ إمّا عصبيّةٌ بلَديّة وانتصارُ ناقدٍ سَبْتيّ لشيخِه وشاعرِ بلدتِه، أو خصومةٌ نشِبَت بين الرجلَيْن لسبب من الأسباب.
ومن أصحابه: أبو بكر محمدُ بن محمد القللوسي (2)، ذكَرَه في ترجمة شيخِهما ابن خَميس، ورتّبه في طبقة ابن رُشَيْد، فقال معدِّدًا الرواةَ عن الشّيخ المذكور:"رَوى عنه ابنُه أبو جعفر، وأصحابُنا: قريبُه أبو بكر بن محمد القللوسي، وأبو إسحاقَ بن أَحْمد بن عليّ التُّجِيبي، وأبو عبد الله بن عُمرَ بن رُشَيْد"(3)، وقد اشتُهر القللوسيُّ الملقَّبُ بالفار بمؤلّفاتِه في العَروض والفرائض، وكان إمامًا في النّحو واللغة، شديدَ التعصُّب لسيبويه، ووضع مؤلّفًا في تاريخ بلده سماه:"الدُّرةَ المكنونة في محاسنِ إسطبونة"(4).
ولا نعرفُ أين صَحِبه، وقد يكون لقِيَه أولَ مرة في الجزيرة الخضراء ثم صَحِبَه أثناءَ مقامِه بمَرّاكُش حيث لقِيَه ابنُ رُشَيْد السَّبتي ودرَس عليه ابن البناء العدَدي.
(1) فتح المتعال: 220.
(2)
ترجمته في الإعلام للمراكشي 4/ 337 (رقم 585).
(3)
الذيل والتكملة 6/الترجمة 806.
(4)
توجد من هذا الكتاب نقول في مخطوط بمكتبة خاصة بالرباط.
أمّا ثاني المذكورَيْن في النص فلم نقفْ على ترجمته ولا على ما يدُلّنا على تفصيل صحبتِه لابن عبد الملك.
وثمّةَ سَبْتيٌّ آخَر ذكَرَه ابن عبد الملك في كتابِه مرّات، وعَدَّه من أصحابه، وهو أبو عليّ الحُسَين بن عَتِيق المشهورُ بابق رَشِيق التغلبيِّ المتوفَّى بتازَى سنة 696 هـ، وهو مُرْسيّ أوى إلى سَبْتة ووَلي قضاءها في عهد أبي القاسم العَزَفي، كما وَلي الكتابةَ في دواوين ملوك بني مَرِين وبني الأحمر، وقد أشار إليه المؤلّفُ في ترجمة والده عتيق بن الحُسَين وقال:"وحدّثنا عنه ابنُه صاحبُنا أبو علي"(1). كما ذكَرَه فيمن حدّثه عن أبي الخَطّاب محمد بن خليل فقال: "وحدّثنا عنه أبو جعفر بن الزُّبير وأبو عليّ بن رَشِيق صاحبُنا"(2)، وفي الرواية عن أبي عبد الله القارجيّ، قال: "
…
وأبو عليّ بن رَشِيق صاحبُنا" (3)، ولا نتحقّق هل ترجم له أم لا؟ وأغلب الظنّ أنه عامَلَه معاملةَ أصحابه الآخرين، كالعَبْدَري وابن رُشَيْد وغيرهما؛ إذ لو كان مترجمَا في "الذّيل والتكملة" لوجَدْنا النقلَ عنه في "الإحاطة" لابن الخَطيب (4)، ولا نعرف ماهيّة الصحبة بين الرجلَيْن، ولا بدّ أنهما التقيا في سَبْتة، وقد جمع بينَهما الاهتمامُ المشترك بالتاريخ العام وتاريخ الرجال؛ إذ إن ابن رَشِيق اختصر"مداركَ "القاضي عِيَاض وألّف" ميزانَ العمل في أيام الدول"، وهو تلخيصٌ لكتاب كبير له في التاريخ.
وهناك عَلَمٌ تردَّد ذكْرُه مرّات متعدِّدة في "الذّيل" وهو: أبو عبد الله محمد بن عَيّاش الخَزْرجي، انتقل والده من قُرطُبة إلى مالَقة، وانتقل هو من مالَقةَ إلى مَرّاكُش حيث كان له كُتّابٌ للإقراءِ والتعليم، وكان ابن عبد الملك يُجالسُه في كُتّابه أحيانًا، قال في ترجمة والد المذكور عَيّاش: "رَوى عنه ابنه أبو عبد الله، وحدّثنا عنه في كُتّابِه
(1) الذيل والتكملة 5/الترجمة 232.
(2)
المصدر نفسه 5/الترجمة 1200.
(3)
المصدر نفسه 6/الترجمة 242.
(4)
الإحاطة 1/ 472 - 476.
غيرَ مرة" (1)، وأشار إليه أثناء تراجم: أبي بكر حُمَيد المالَقيّ، وأَحمد بن مكنونٍ المَرَوي، وأبي بكر عتيق بن أَحْمد المالَقيّ، ونقل عنه الحكاية الآتية: "أخبرني صاحبُنا الفاضلُ أبو عبد الله بن عَيّاش عن أبي بكرِ بن حبيب المالَقيّ، قال: كان أبو بكرٍ هذا قاعدًا في ظِلّ شجرة بصَحْن جامع مالَقة وقارئ يقرأ كتابَ "الحِلية" لأبي نُعيم على الناس يُسمِعُهمٍ إيّاه، فجرى ذكرُ أحد الفُضلاء المذكورين فيه وذى مناقبه وكراماتِه، فصاح صَيْحةً ثم سكَتَ وسكن فحُرِّك فأُلفي ميّتًا، رحمه الله" (2)، كما ذكره في الآخِذين عن أبي عبد الله محمد بن عِيَاض الحفيد، وفي جميع هذه المرّات قال فيه: "صاحبُنا". ووجدناه في ترجمة أبي الحَسَن العَشّاب الرُّندي نزيل مالَقة يقول: "حدّثنا عنه شيخانا: أبو الحَسَن الرّعيني وأبو عبد الله بن عَيّاش الخَزْرجي"، وكذلك يقول في ترجمة أبي القاسم القاسم ابن الطَّيْلَسان القُرطُبي نزيل مالَقة: "رَوى عنه غيرُ واحد، وحدّثنا عنه من شيوخنا: صِهرُه أبو عبد الله بن عَيّاش" (3).
ويدفعُنا صنيعُ ابن عبد الملك هنا إلى التساؤل عن سببِه، والسرِّ فيه، فهل هو يتحدّث عن شيخ واحد ترَقّى من رتبة الأصحاب إلى رتبة الأشياخ؟ أم أنّ الثانيَ غيرُ الأول؟ وقد ترجم الوادي آشي في "برنامجَه" لاثنينِ، أحدهما:"محمد بن عَيّاش بن محمد بن عَيّاش القرطبي نزيلُ مالَقة، أخَذ عن أَبيه وصِهرَيْه أبي جعفرٍ وأبي القاسم ابنَي الطَّيْلَسان وأبي عبد الله اللّوشيِّ، وأجازه سهل بن مالك وابنُ بَقِيّ وغيرهما"، وثانيهُما:"محمد بن محمد بن عَيّاش المالَقيُّ المَرّاكُشي، يَروي عن إبراهيم بن محمد بن عُبَيد الله، وعن أبي القاسم ابن الطَّيْلسان"(4)؛ ومن الواضح أنّ الثانيَ ولدُ الأول، والذي يبدو أنّ الأولَ منهما هو الذي يصحُّ أن يُعَدَّ في شيوخ ابن عبد الملك، وهو الذي ذكَرَه في ترجمة والده عَيّاش وسمّاه من
(1) الذيل والتكملة 5/الترجمة 884.
(2)
المصدر نفسه 5/الترجمة 229.
(3)
المصدر نفسه 5/الترجمة 1090.
(4)
برنامج الوادي آشي: 128، 137.
شيوخه في المرتين الآنفتَي الذكر، أمّا الذي صَرَّح أنه من أصحابِه فقد يكون ولدَه المذكورَ المسمّى باسمه الناشئَ في مَرّاكُش.
ومن أصحاب ابن عبد الملك الذين انتفَع بصحبتهم العلميّة وأثنى عليهم وتبادل وإياهم الفوائد: أبو جعفرٍ أحمدُ بن محمد بن سُليمان بن شُنيف العُقَيْليّ البَلَنْسيّ الأصل، وذكَرَه فيمن حدّثه عن ابن عَمِيرة المخزوميِّ فقال: "
…
وصاحبنا أبو العبّاس بن محمد بن شُنَيْف"، وقد ترجَم له، وبعد أن عَدّ شيوخَه قال: "وقَدِم مَرّاكُش دَفَعات، أُخراها سنةَ ثمان وخمسينَ وست مئة، وخَلّف فوائدَ جمة وتعاليقَ أدبيّةً كثيرة، وجُملةً وافرة من كلام أبي المُطرِّف بن عَمِيرة نثرًا ونظمًا، وكان نبيلَ الخطّ متقِن التقييد، كتَبَ الكثير وعُني بالآداب كثيرًا"، ثم قال: "جالستُه طويلًا وانتفعت من قِبَلِه ببعض ما أوصَلَه مما ذكر، وصارت إليه من قبلي فوائدُ أدبية قد كان شديدَ الطلب لها، كثيرَ الحرص عليها، باحثًا عنها بالأندَلُس وإفريقيّة فلم يُلفِها". وتحدّث عن تحفُّظه الشديد فقال:"وكان قبل خبرته باديَ الجفاء ظاهرَ النُّفور، حتى إذا أَلِف وتُؤلِّف انبسَط واسترسَل وأمتَعَ مجُالسَه من الأنس بما شاء"، ثم ذكر أنه توفِّي ببلد حاحةَ سنة 644 هـ حيث كان مكلَّفًا ببعض مَجابيها السّلطانية، ولم يفُتِ ابنَ عبد الملك أن يُشيرَ إلى ما قيل عند وفاتِه من أنه اغتيل بأمرِ عامل حاحةَ حسبما نفَذَت به الإشارةُ إليه من قِبَل المرتضى؛ لأن ابن شُنَيْف كان من مُداخلي إدريسَ المتلقّب فيما بعدُ بالواثق، ويشير إلى صدى هذا الحادث فيقول:"وشاع الشَّنيع بذلك على المرتضَى وقَبَّح النَّاسُ ما أتى من ذلك، واللهُ بالمرصاد وإليه المصير".
ذكر ابنُ عبد الملك أنّ صاحبَه هذا "خَلّف فوائدَ جمة وتعاليقَ أدبيّة كثيرة وجُملةً وافرة من كلام شيخِه أبي المُطرِّف بن عَمِيرة نثرًا ونظمًا"، ثم قال بعدَ هذا:"وصار إليّ معظمُ ما قَدِم به بعدَ وفاته، رحمه الله"(1)، ولم يبيِّنْ كيف دخَلت
(1) الذيل والتكملة 1/الترجمة 641.
في مُلكه مكتبةُ صاحبه أو معظمُها، وقد يكون ذلك تَمّ بالشراء الصحيح، وقد عرَفْنا أنّ ابنَ عبد الملك زارَ حاحةَ، وقد تكون لزيارته علاقةٌ بهذا الموضوع، وعلى كلِّ حال فقد انتفَعَ ابنُ عبد الملك بمخلَّفات صاحبه الأدبية، ولا سيّما في الترجمة الحافلة لابن عَمِيرة المخزوميِّ التي تُعَدُّ من أوسع تراجم "الذّيل والتكملة"، وكذلك، على ما نظُنّ، الفوائد الأدبية الواردة في ترجمة ابن الأَبّار بما فيها القصيدة السِّينية ومعارضاتها.
ومن أصحاب ابن عبد الملك في مَرّاكُش: أبو محمد عبدُ الله بن أبي الحَسَنُ محمد ابن الحاجّ القُرطُبيّ، "استُقضيَ (أى: والدُ صاحبه) بغَرناطةَ والجزيرة الخضراء فشُكرت سِيرتُه وشُهر بالنّزاهة والعدالة، واستدعاهُ الرّشيد من بني عبد المؤمن إلى تعليم ولده وتأديبه لمتَاتٍ كان إليه، فقَدِم مَرّاكُش وتلبَّس بما دُعي إليه مدّة يسيرة، وتوفِّي بمَرّاكُش عام أحد وأربعينَ وست مئة" (1). أما عبدُ الله ولدُ مؤدِّب أولادِ الخليفة هذا فيبدو أنه صَحِب ابن عبد الملك في حلقات الدّروس بمَرّاكُش، وقد ذكره في أثناء ترجمة والده وترحَّم عليه فقال: "وهو والدُ صاحبنا الفقيه الفاضل الورع أبي محمد عبد الله، رحمه الله" (2)، ولم نقفْ على ترجمة هذا الصاحِبِ الورع فيما بين أيدينا من مصادر.
ومن معارفه من أولاد الشُّيوخ الأندَلسيِّينَ الوافدينَ على مَرّاكُش: أبو الحَكَم أَحْمد بن محمد بن أَحْمد بن خليل السَّكُونيّ، قال في ترجمة والده: "وورَدَ مَرّاكُش ورأيتُه بها وأقام فيها مدّة ليست بالطويلة متلبِّسًا بعَقْد الشروط، ثم عاد إلى الأندَلُس فاستوطنَ لَبْلةَ بلدَ سَلَفِه إلى أن عَرَضَ له توجُّه إلى إشبيلِيَةَ زائرًا بعضَ ذوي قرابةٍ بها ففُقد في وجهته تلك فلم يُعثَرْ له على خبر. كذلك أخبرني ابنه أبو الحكم أحمد، وقال ابن الزُّبير: إنه فُقد في طريق لَبْلة عند خروج
(1) الذيل والتكملة 6/الترجمة 785.
(2)
المصدر نفسه.
أهل إشبيلِيَةَ منها سنة ستّ وأربعين وست مئة. وخبر ابنه أَوْلى بالاعتماد عليه. والله أعلم" (1).
ومن هؤلاء أَيضًا: أبو العبّاس أَحْمد بن أبي جعفر أَحْمد بن مُنعم العَبْدَريّ الدّانيّ نزيلُ مَرّاكش، ترجَم ابن عبد الملك لوالده المسَمَّى وذكَرَ أنه كان بارعًا في العدد والهندسة والطِّبّ، ونقَل بعضَ ما في هذه الترجمة عن صاحبه المذكور فقال:
"فمن مشهور تصانيفه: "فقهُ الحساب" كتابٌ جليل الفائدة، و"مقالةٌ في استنباط أعداد الوفق"، و"تجريدُ أخيار كتب الهندسة على اختلاف مقاصدها"، ويُذكر من شَغَفه بهذا الفنّ أنه كان لا ينامُ من الليالي حتى يَعرِض على خاطره "كتابَ الأركان" لأوقليدس بادئًا من آخِر شكل فيه متقهقرًا إلى ما قبلَه وصاعدًا إلى أول شكل منه؛ إذ كان فهْمُ كلِّ شكل ينبني على فهم ما قبلَه من الأشكال، شُهِر ذلك عنه وعُرف منه، وأخبرني به صاحبُنا أبو العبّاس ابنه رحمه الله، وعَرَضَ عليّ تصانيفَه هذه التي سمِّيت وغيرها، وكانت جملة وافرة"(2).
ومنهم كذلك: أبو القاسم هبةُ الله ولدُ أبي عبد الله الحَرّار القُرطُبي نزيل مَرّاكُش. ذكَرَه في ترجمة والده هذا الذي كان حَرّارًا في قُرطبة ثم أصبح عَدْلًا عاقدًا للشّروط في مَرّاكُش، وقد جالسَ ابنُ عبد الملك الوالدَ كثيرًا وكان صاحبًا لابنه، قال في ترجمة أبي عبد الله الحَرّار:"وهو أبو صاحبنا أبي القاسم هبة الله"(3). ومما يجمَعُ بين الصاحبَيْن أنهما يشتركان في النّسَب الأَنْصاريّ الأوْسيّ، وكانا يلتقيانِ في حلقات الدّرس ومجالس الوعظ، وقد ذكَرَه فيمن رَوى عن الواعظ البغداديِّ محمد بن عبد الوهّاب ابن الحَنْبلي فقال: "رَوى عنه أبو جعفر بن الزُّبير، وأبو
(1) الذيل والتكملة 6/الترجمة 785.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
المصدر نفسه 6/الترجمة 349.
عبد الله بن أبي بكر بن رشيد البغداديُّ الواعظ، وصاحبُنا أبو القاسم هبةُ الله بن محمد بن أبي بكر بن سعيد بن عبد الغفور الأوْسيّ" (1).
ونذكر من هذه الطَّبقة أَيضًا، أَبا محمد عبدَ الله ابن قُطرال، وهو ولدُ قاضي مَرّاكُش أبي الحَسَن ابن قُطرالَ الذي ذكَرْنا فيما سبَق أنه كان يسكُن دارًا في مُلك ابن عبد الملك بجوار داره، ولئن فاتته الروايةُ عن ابن قُطرالَ الوالدِ حسبما رأينا من تحسُّره على ذلك، فقد كان له صلة بولده هذا الذي وَلي القضاء هو وأخوه أبو عبد الله محمدٌ، وممّا نقَلَه ابنُ عبد الملك عن أبي محمد ابن قُطرال المذكور هذا النصُّ المتعلِّق بلهجة أهل شرق الأندلس، قال:"وقد أذكرَتْني حكايةُ شيخنا أبي الحَكَم هذا ما ذكَرَ ليَ الفقيهُ القاضي أبو محمد بن أبي الحَسَن ابن قُطْرال رحمه الله أنه رأى مكتوبًا بنقْش في جِصّ على باب حمّام أو فندق -الشكُّ منّي-: رحم الله عبدًا صنَع شيئًا فأطقنه، بالطاء، يريدُ: فأتقنَه"(2). وفي "الذّيل والتكملة" نُقولٌ أخرى تتّصل بأبي الحَسَن ابن قُطرال لعلّ ابن عبد الملك يستندُ فيها إلى ولدِه أبي عبد الله هذا. ومن هؤلاءِ أَيضًا: أبو الحُسَين محمد بن عبد الواحد ابن تقيّ المالَقيُّ الأصل المَرّاكُشيُّ الدار، ترجَمَ ابن عبد الملك لأبيه وأمِّه وجَدِّه لأمِّه، وقال في ترجمة أُمِّه فاطمة بنتِ عتيق ابن قَنْتَرال:"وكانت زَوْجَ الفاضل أبي عُمر عبد الواحد ابن تقيّ وأُمَّ صاحبِنا أبي الحَسَن محمد ابنه".
ومن أصحاب ابن عبد الملك المَرّاكُشيِّين: أبو عثمان سعيد بن جون المَرّاكُشيّ، وهذا هو الذي مكّن ابنَ رُشَيْد السَّبتي من نظم أبي الحَسَنُ البَسْطيّ في العَروض نقلًا عن ابن عبد الملك، وقد أثنَى عليه ابنُ رُشَيْد في رحلته، وذكَرَ أنه اغتَبطَ بمعرفتِه وتأنَّس بصُحبتِه وقال فيه:"الأديب المقرئ الأستاذ"، وزاد في وصفه قائلًا: "أحدُ الأدباء الفُضَلاء، محبٌّ في السَّماع والغناء، وشأنُه عجيب، وتكوينُه غريب، وله مشاركة في القراءات والعربيّة والأدب والعدد والفرائض
(1) الذيل والتكملة 8/الترجمة 121.
(2)
المصدر نفسه 1/الترجمة 221.
[والعَروض] ، وينظمُ وينشئُ، معَ ذاتٍ فاضلة وعَقْل جيّد وعِفّة ظاهرة" (1). لم يذكُر ابن عبد الملك صاحبَه هذا؛ إذْ لم تكن مناسبةٌ لذكرِه في الأسفار الموجودة من "الذّيل والتكملة"، وإنّما أشار إلى علاقته به ابنُ رشيد، ويستفادُ من كلام هذا أنّ ابن عبد الملك وابنَ جون اشتَركا في الأخْذ عن عالِم مَرّاكُش وقاضي جماعتها وإمامِها أبي عبد الله المدعوّ بالشريف. وفي ترجمة ولدِ ابن عبد الملك أنه درَسَ العربيّة على أبي عثمان سعيد بن عبد الله (2)، ويبدو أنه هو صاحبُ ابن عبد الملك هذا.
ومن أصحابه: أبو محمد عبد الله بن عليّ بن أبي خُرْص الضّرير، أشار إليه في السِّفر السادس عندَ ترجمة شيخِهما أبي عبد الله ابن عَسْكر فقال وهو يَسرُد مؤلفاتِه:"ومنها: "الجزءُ المختصَر في السُّلوِّ عن ذهابِ البصَر" ألّفه لصاحبِنا أبي محمد بن أبي خُرص الضّرير الواعظ، رحمه الله"(3). وقد استفاد ابنُ عبد الملك من صاحبه الضّرير هذا بعضَ الفوائد ومنها المجالسُ الوَعْظيّة التي ألّفها أبو المطرف أحمدُ بن عَمِيرة المخزوميّ، قال في ترجمته:"وله مجالسُ وَعْظيّة كان يصنَعُها للواعظِ الفاضل الصّالح أبي محمد بن عليّ بن أبي خُرص رحمه الله، ومن قِبَلِه استفدناها"(4). ويبدو أنّ ابنَ عبد الملك عَرَف صاحبَه هذا في مدينة مَرّاكُش، ولكنّنا لا نعرفُ هل هو من أهلِها أم من الطارئينَ عليها، كما أنّنا لا نعرفُ أين التقَى بابن عَسْكر المالَقيّ الذي ألّف له الكتابَ المذكورَ تأنيسًا للوَحْشة التي كان يُحِسُّ بها من عَمَاه وتَسْليةً له عن فُقدان بصَرِه، ويمكنُ أن يكَونَ لقاؤه إيّاه إمّا بمالَقة بلدِ ابن عسكر أو بمَرّاكُش التي ربّما زارها هذا الأخيرُ بمناسبة بَيْعة المأمون الموحِّدي (5).
(1) رحلة ابن رشيد 6/ 3 (مخطوط).
(2)
الدرر الكامنة 4/ 194.
(3)
الذيل والتكملة 6/الترجمة 1218.
(4)
المصدر نفسه 1/الترجمة 231.
(5)
المصدر نفسه 6/الترجمة 1218.
وممن سمّاهم في عِداد أصحابِه بمدينة فاسَ: أبو الحُسَين يحيى بن أبي القاسم عبد الرّحمن بن أبي عبد الله المَزْدغيّ، وقد وَصَفَه بالخطيب الفاضل ونقَل عنه ما ذكَرْناه قبلُ، وَلِي الخَطابة بالقَرَويّين سنة 694 هـ، وجمع بينَها وبين الإمامة بعد هذا التاريخ بقليل، وظلّ على ذلك إلى وفاته سنة 726 هـ (1).
ومن أصحابه الفاسيِّين: أبو سعيد محمدٌ المومنانيُّ الحفيد، ذكره في ترجمة محمد المومنانيِّ الجَدّ، وكتَبَ من إملائه نَسَبَ المومنانيِّين مرفوعًا إلى الحَسَنُ بن عليّ بن أبي طالب، وكأنه لم يكنْ مطمئنًّا إلى ما أملاه على صاحبه المؤرِّخ المعنيِّ برفع الإنساب وتحقيقها، قال ابن عبد الملك:"ووَعَدني بتحقيقه ولم يُقضَ بذلك حتى فَصَلتُ عن فاس". ولعلّ هذا الأمرَ كان خلال مرورِه بفاسَ سنة 699 هـ في وِجهته إلى تِلِمْسانَ قاصدًا محلّةَ السلطان (2).
وفي الأخير نجدُه ينقُل عن شخص لعلّه من أهل تِلِمْسانَ، هذه المدينة التي زارها ابن عبد الملك أكثَر من مرّة على ما يبدو وكانت منيّتُه في أرضها، فقد ذكَرَ في ترجمة أبي بكر بن عُفَير الإشبيليِّ النَّبِيل الذي احتَرف الوعظَ وسلَكَ فيه طريقة شيخه ابن الجوزيّ ما نصّه: "أخبرني التأريخيُّ أبو سعيد عثمانُ بن
…
المعروف بابن خرزوزة، قال: حضَرتُ بعضَ مجالسِه الوعظية بتِلِمْسينَ وقد ذكر للحاضرينَ أنه يريدُ التزوّج أو التّسرّي، والتمَسَ منهم كفايتَهم إياه النظرَ في ذلك، ثم أنشد:
وقلتَ يا ربّ: حمَلْناكمُ
…
لمّا طغى الماءُ على الجاريهْ
عبدُك هذا قد طَغَى ماؤهُ
…
فاحمِلْه يا ربِّ على الجاريهْ! " (3)
(1) الذيل والتكملة 8/الترجمة 148.
(2)
المصدر نفسه 8/الترجمة 136.
(3)
المصدر نفسه 6/الترجمة 929.
ويبدو أنه لقي هذا التأريخي الأخباري في تِلِمْسان وإن لم يصرح بذلك، ولم نقفْ نحن على ترجمة المذكور حتى نتأكّد من هذا (1).
ومن أصحابِه: أبو مَرْوانَ بن موسى ابن الكَمّاد السَّبتي، ويبدو أنه عرَفَه في سَبْتة، وقد ذكَرَه في ترجمة سِبْط أبي عَمْر وابن الجُمَيِّل، قال:"حدّث عنه بالإجازة صاحبُنا أبو مَرْوان بن موسى ابن الكَمّاد"(2). ونصَّ في ترجمة أحمد ابن السَّراج على أنّ صاحبَه هذا كان مُكتِبًا (3).
وقال في ترجمة محمد بن صَالح الشاطبيّ نزيل بِجَايةَ: "رَوى عنه أصحابنا أبو عبد الله بن مَسْعود، وأبو محمد عبدُ الوهاب بن عليّ بن الحَسَن المليانيّ، وأبو جعفرٍ أحمدُ بن محمد بن محمد بن محمد الأنصاريُّ الوادي آشيُّ ابن الخَشّاب"(4).
فالأولُ هو العَبْدريُّ الحِيحيُّ الذي سبَق ذكْرُه، أمّا الآخَرانِ فلم نقف لهما على ترجمة.
ومن أصحابِه: الفقيهُ الصاحبُ الأوَدّ في الله الأفضَل أبو عبد الله بن عيسى الماقَريّ مُستوطِن ثَغْر آسفي حماه الله وكافأ فضلَه وشكرَ إفادتَه، عرَفَه المؤلّف في البلد المذكور حينما كان يتردَّد على شيخِه أبي عليّ الماقَري، ولم نقفْ له على ترجمة.
ثمةَ معاصِرونَ آخَرون لابن عبد الملك من مَرّاكُش وغيرِها لا نعرفُ شيئًا عن صِلتِه بهم، ونقدّر أنه اتّصل بهم وتحدّث عنهم في الأسفار المفقودة من "الذّيل
(1) ثمة أبو عبد الله ابن خرزوزة الشهيد الصالح الشهير دفين سبتة، وأبو عبد الله محمد بن محمد ابن خرزوزة الفقيه الأصولي الصالح الخطيب. انظر اختصار الأخبار: 22، وألف سنة من الوفيات: 151، 267.
(2)
الذيل والتكملة، السفر الثامن (ترجمة رقم 142).
(3)
المصدر نفسه 1/الترجمة 514.
(4)
المصدر نفسه 6/الترجمة 672.