الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حياتُه الوظيفيّة:
عاش ابن عبد الملك في عصرٍ مُضْطرب على العموم تمخَّض عن زوال دولة الموحِّدين وقيام دولة بني مَرِين، فهو من المخضرَمِينَ الذين عاشوا في العهدَين.
وحين وُلد ابنُ عبد الملك في سنة 634 هـ كان الرشيدُ الموحِّد يحاول رَأْبَ الصَّدع وترقيعَ الخَرْق الذي حدَث ثم اتّسع منذ موتِ الناصر سنة 620 هـ وحدوثِ أزمة الخلافة الكبرى المشروحة في كُتب التاريخ، وكان من عواقب هذه الأزمة فقدانُ الاستقرار في مَرّاكُش وغيرها ونشوبُ الفتن في كلِّ جهة، وخروج الأندلس وإفريقيّة من يد الموحِّدين، وظهورُ بني مَرِين وبني عبد الواد، وانحسار نفوذ الموحِّدين واختلالُ أمرِهم الذي آلَ إلى الانقراض في آخر الأمر سنة 668 هـ.
وقد أدرك ابنُ عبد الملك أربعةً من الموحِّدين هم أصحابُ الألقاب الآتية: الرّشيد، والمُعتضِد أبو السّعيد، والمرتضَى، والواثق وهو الأخير.
ونعرف من تاريخ ميلاده (634 هـ) وتاريخ وفاته (703 هـ) أنّ عمُرَه نحو سبعينَ سنة، عاش منه في عهد الموحِّدين (44) سنة تُمثل الشّطر الأول من حياته، وعاش الشّطرَ الثاني، ومدّته نحو 36 سنة في عهد بني مَرِين.
وقد بدَأَ يعي الأحداثَ منذ عهد المعتضد المتلقِّب بالسعيد أَيضًا؛ إذْ نجدُه يصف ترتيبَ الجيش عند "الحركة" لغزوٍ أو سَفَر، معتمدًا على ذاكرة الصِّبا وما سجّلته في صِغره وهو لم يتجاوزْ خمسَ سنوات بكثير، قال:"فهذه هيئة الترتيب، وقد شاهدتُه مرّات في بروز المعتضِد والمرتضَى المذكورين وأبي العلاء إدريسَ بن أبي عبد الله محمد بن أبي حَفْص عُمر بن عبد المؤمن آخِر أمرائهم المعتبَرينَ عندهم، فسبحان من لا يَبيد مُلكه ولا يَفنَى سُلطانه، جل جلاله وتعاظَم شأنه"(1).
(1) الذيل والتكملة 1/الترجمة 231.
ومضَى القسمُ الأكبر من هذا الشّطر، وحتى من الشّطر الذي يليه، في الدّرس والتحصيل ولقاءِ الشيوخ في مَرّاكُش وغيرها من حواضر المغرب والأندلس وما يقتضيه ذلك من الرّحلات والأسفار ويُصاحبُه من الرواية والتدوين، وقد رأينا ممّا تقدّم وَلَعَه منذ صِغره بتقييد الفوائد واصطياد الشوارد التي كان ينقلُها عنه أصحابُه في الطّلب وبعضُ شيوخه في العلم، ويبدو أنّ اتجاهَه إلى التاريخ عمومًا وتاريخ الرجال خصوصًا ظهر في وقت مبكّر، ونمّاه لديه الأحداث التاريخيّة المتعاقبة التي شاهَدَها وكان قريبًا من أصحابها وصانعيها والمكلَّفين بتدوينها، وكان بعضُهم من شيوخه أو معارفه كالرُّعيني وابن القَطّان وابن هارونَ السُّماتي وغيرهم، ولكنّ التاريخَ كان له هوايةً لا وظيفة.
فما هي الوظيفةُ أو الوظائفُ التي اشتَغل بها، بعدَ أن تعلَّم وتزوَّج ووَلَد، أو في خلال كلِّ هذا؟
لقد عرفنا أنّ ابنَ عبد الملك كان ذا نَشَب، وأنه كان له شيءٌ من الرِّباع والدُّور في مَرّاكُش وأغمات، ويستفادُ من كتابه أنه أنفَقَ ثروةً طائلة في اقتناء نفائس الكُتُب وذخائر المؤلّفات، أمّا الرّباعُ والدّور فإنه يحدّثنا عن داره التي يَسكُنُها ودارٍ أخرى له كان يَسكُنُها قاضي مَرّاكُش ابنُ قُطْرال الأبُ كما يُخبرُنا أحدُ تلاميذه عن دارِه بأغمات.
ومن الطبيعيِّ أن يكونَ ابنُ عبد الملك ذا جِدَة ويَسَار بحُكم ما قد يكون آلَ إليه من ميراثِ والديه اللذَيْن عرَفْنا حيثيّتَهما في مَرّاكُش وقد استعان بذلك على ما يُسِّر له من العكوف على طلب العلم والتنقّل في سبيل لقاءِ أهله رغبةً في التفوّق والتبريز ونُشدانًا للشّفوف والتمييز، حتى بَلَغ من كلِّ ذلك ما أراد.
كانت الأدواتُ الفقهيّة والأدوات الأدبية من أهمِّ ما يُتوسَّل به إلى نيل الوظائف وإدراك الخُطط، فالأدواتُ الأولى تؤدِّي إلى التوثيق وما فوقه من نيابة وقضاءٍ ونحو ذلك، والثانيةُ تقودُ إلى الكتابة في الدّواوين وما يتّصل بها،
وقد توفّرت هذه الأدواتُ معًا عند ابن عبد الملك، ولذلك عمِل في الخُطط الشّرعية كالتوثيق والقضاء، واشتَغل بالكتابة الدّيوانية فترة فيما نحسَب.
ويبدو أنه اشتغل، أولَ ما اشتغل، بكتابة الشّروط وعَقْد الوثائق التي أَخَذَها ومَرِن فيها على يدِ شيوخِه من القضاة والموثِّقين، وأصبح فيها عُمدةً هو وولدُه محمدٌ كما تقدَّم، ولا نستندُ في هذا إلى نصّ صريح، وإنّما نستشفّه من خلال حديثه عن جلوسه الطويل في دكاكين عاقدي الشّروط، ولا يكونُ هذا الجلوسُ في الغالب إلّا لمن يَنتصبُ لهذا العمل الذي كان بدايةً طبيعيّةً لِما بعدَه، ونظُنُّ أنه صَرَفَ في هذا العمل وقتًا من شبابِه وأوّلِ كهولته، أى: في أواخر دولة الموحِّدين، وقد يقوّي هذا الظنَّ ما نعرِفُه عن صِلتِه الوثيقة بشيوخه الذين تعاقبوا على القضاء في هذه الحِقبة ومنهم: ابنُ القَطّان وابن القَشّاس وابن عليّ المدعوُّ بالشّريف وغيرُهم ممن سبَق ذكرهم.
ونظنُّ أنه ظَلَّ يشتغلُ بهذا إلى جانب ما كان يُفكِّر فيه أو يقومُ به من مشروعاتٍ علميّة إلى أنِ "انقَرضَت دولةُ بني عبد المؤمن من الأرض وذهبت محاسنُ مَرّاكُش بذهابِ دولتهم". ولا بدّ أنّ في الأسفارِ المفقودة من كتابه ما يُلقي شيئًا من الضّوء على هذه الفترة من حياته.
وأولُ ما نقفُ عليه في حياته الأدبية عند بداية الدّولة المَرِينيّة هو صُحبتُه ومخالطتُه لطائفةٍ من الأدباء كان لبعضهم صلة وثيقةٌ بالدولة الجديدة، ومنهم: أبو عِمرانَ التَّميميُّ الإفريقيُّ الذي ذَكَر مؤلّفُ "الذّخيرة السَّنية" أنه كان من جُلَساء الأمير أبي مالك عبد الواحد بن يعقوبَ بن عبد الحقّ، وكان لهذا الأمير مجلسٌ علميٌّ وأدبيٌّ في مَرّاكُش انتعشت به الحياةُ الثقافية في هذه المدينة بعد موتها معَ انقراض دولة الموحِّدين ونَقْل العاصمة إلى فاس، وكان يُشاركُ في هذا زيادةً على الأديب المذكور القاضي أبو الحَجّاج يوسُفُ بن أحمدَ بن حَكم، وهو من شيوخ ابن عبد الملك، والشاعر مالكُ ابن المُرحَّل وهو من شيوخ ابن عبد الملك أَيضًا، وعبد العزيز الملزوزيّ.
وفي "الذّخيرة السَّنية" نماذجُ من المُسامَرات الأدبية التي جَرَت بهذا المجلس في قَصْر الأمير المذكور، وذلك في المدّة التي أعقَبت دخول بني مَرِين إلى مَرّاكُش فيما بين سنة 668 هـ وسنة 670 هـ.
وبعد هذا التاريخ نجدُ ابنَ عبد الملك في مدينة أغمات قريبًا من واليها أبي عليّ عُمرَ ابن الفقيه أبي العبّاس بن عثمانَ بن عبد الجَبّار بن داودَ المتوسيِّ المِلْيانيّ، وأصلُ هذا الوالي من مِلْيانةَ (1): في المغرب الأوسط، وكان قد ثار على الحَفْصيِّين ودعا لنفسه ببلده المذكور سنة 657 هـ، ولمّا اقتحم جيشُ الحَفْصيِّين مليانةَ بعد حصارٍ دام مدّة فَرّ أبو علي المذكورُ إلى المغرب، ولجأ إلى السّلطان يعقوبَ بن عبد الحق، فأقطَعَه بلدَ أغمات -أو وَلّاه عليها- وقد اشترك في غزوة جبل تينملَ سنة 675 هـ، وكان منه الافتئاتُ المشهور في نَبْش قبور الخلفاء الموحِّدين تزلُّفًا وتشفّيًا، وفي عهد السّلطان يوسُف بن يعقوبَ استُعمل على جِباية المَصامِدة، وسعى به مشيختُهم ورَفَعوا إلى السلطان أنه احتَجن المالَ لنفسِه فحوسب وأقصِي واعتُقل، وهلك سنة 686 هـ (2).
ويُستفاد من كلام ابن عبد الملك أنه كان شديدَ الاتّصال به في أغمات على عهد يعقوبَ بن عبد الحقّ، ولكنّنا لا نعرف ما الذي وَصلَ أسبابَه بحَبْل هذا الرَّجل الغريب الذي يُعَدّ هو وابنُ أخيه الكاتبُ من أعجبِ شخصيّات الدولة المَرِينيّة في طَوْرها الأول.
وكان هذا الوالي، على بَطْشِه وقسوته، يحبُّ الأدب ويرتاح إلى سماع الشعر، ويدعو الشّعراءَ إلى التّباري في حَلَبته، معَ براعة في نقده وبصَر بتمييز جيِّده من رديئه، وكانت له حاشيةٌ من النّبلاء والأدباء والفقهاء، وقد حفظ لنا ابنُ عبد الملك أسماءَ بعضِهم، وهم: أبو يعقوبَ ابنُ الجَنّان كاتبه، وأبو محمدٍ عبد الله ابن المُعِزّ
(1) معجم البلدان 5/ 196، والروض المعطار 547.
(2)
انظر العبر لابن خلدون 6/ 656 - 667 و 7/ 401، 479.
القابسيُّ نسيبُه، وأبو محمد عبد الله بن يحيى بن سُليمان التراريُّ الحاجّ المعروفُ بالمَرّاكُشيّ شاعره، والحاجُّ النّبيل أبو إبراهيم بن عبد السّلام بن عُمر القَزُوليُّ صَفِيُّه، وأبو الحَسَنُ عليُّ بن إسماعيل بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل الأغماتيّ، وقد ترجَم ابنُ عبد الملك للأوّل من هؤلاءِ ترجمةً موسَّعةً حافلةً بالاستطرادات المفيدة (1)، وهو مَهْريُّ النّسَب، سَلَويُّ الأصل، تنقّل بين القَصْر الكبير ومالَقة وسِجِلْماسة، واشتَغل بالكتابة لدى بعض الأمراءِ والقضاة، واستَوطن في الأخير مدينةَ أغمات حيث عرَفَه ابنُ عبد الملك كاتبًا عند واليها أبي عليّ المِلْيانيّ المذكور.
وأمّا الثاني من هؤلاءِ فلم نقفْ له على ترجمة، ويبدو أنه من الحاشية التي قد تكونُ صَحِبت المِلْيانيَّ عند لجوئه إلى المغرِب، ويظهرُ أنّ الثانيَ والثالثَ من أعلام مَرّاكُش، ولكننا لم نجدْ لهما ذكرًا في المصادر التي بين أيدينا.
وأمّا الخامسُ فيستفادُ، مما ذَكَرَه ابنُ عبد الملك، أنه أديبٌ شاعرٌ هَوّاريُّ الأصل أغْماتيُّ البلد، ويبدومن سلسلة نسَبِه أنه حفيدُ الوليِّ الصالح أبي عبد الله محمد بن إسماعيل الهَوّاريّ الأغماتيّ المتوفّى عام 581 هـ، وفي "التشوُّف" ترجمته (رقم 118) وأخبارٌ أخرى تُطلعنا على مكانته العلميّة والروحيّة في أغمات، وحفيدُه المذكور الذي كان من حاشمية المِلْيانيّ وَصَفَه المؤلّف بأنه:"أبرعُ من اشتملت عليه أغماتُ حينَئذٍ وأسرعُهم بديهةً وأشهرُهم إجادةً وتفنُّنًا"(2)، وأورد له في مكانٍ آخرَ قصيدةً في الإشادة بالخِزانة التي أنشدها أبو الحَسن الشاريّ في سَبْتة، وقال ابنُ عبد الملك في التمهيد لها:"وسمِعتُها من لفظِه رحمه الله"(3)، ومعنى ذلك أنه كان متوفًّى عندما كان ابنُ عبد الملك يحرِّر كتابه في نهاية العِقد الأخير من القرن السابع الهجريّ.
(1) انظرها في السفر الثامن رقم (234).
(2)
المصدر نفسه.
(3)
المصدر نفسه ترجمة رقم (12).
ولا نعرفُ "الحَيْثيّةَ" التي كانت لابن عبد الملك ضمنَ هذه المجموعة، ولا الوظيفةَ التي كان يشغَلُها يومئذٍ في أغمات، فهل كان قاضيَ البلد في عهد الوالي المذكور أم أنه كان من كُتّابه؟ لا يذكُر ابن عبد الملك شيئًا من هذا ولم نقفْ على أيّ خبر في الموضوع، وكل ما لدينا الآنَ هو هذا النصّ الطَّويل الذي يتحدّث فيه ابنُ عبد الملك عن الحياة الأدبيّة في أغْمات على عهد واليها المِلْيانيّ، ووصف مجلس من المجالس الأدبيّة في قَصره، قال: "حضرتُ معَه (أى: مع ابن الجَنّان) يومًا قُرَيْبَ الزّوال بمجلس أبي عليّ عُمر ابن الفقيه أبي العبّاس بن عثمان بن عبد الجَبّار بن داودَ المتوسيِّ المِلْيانيّ وهو والٍ بأغماتِ وريكة
…
"، ثم ساق حكايةً حكاها ابنُ الجَنّان كاتبُ الوالي المذكور نجدُ نصَّها الكاملَ في آخر السِّفر الثامن من "الذّيل والتكملة"، ومضمَّنُ الحكاية أنّ ابنُ زَنّون أميرَ مالَقة كان له خاتَمٌ يطبع به كُتُبه لا يفارقُه ولا تُطبَع به الكُتُب إلا بحضوره، فأمَرَ ذات يوم كُتّابَه -وكانوا ثلاثة- بإنشاء رسائلَ واستعجَلَهم فيها، ودخَل إلى قصره، فلمّا فَرَغوا منها اتّفقوا على أن يُخبِروه بذلك شعرًا لاستحسانه له، فكتَب كلُّ واحد منهم بيتًا في البطاقة التي سُرَّ بها الأمير المذكور، ثم يقول ابنُ عبد الملك: "وحضَر لإيراد هذه الحكاية بعضُ من يغشَى مجلسَ أبي عليّ أو يتردَّد إليه، وله حَظّ من الأدبِ وقَرْض الشعر"، وسَرَد الأسماءَ التي سبَق ذكْرُها، ثم قال: "فاستَظْرفَها أبو عليّ والحاضرونَ وأُعجِبوا بها وتفاوَضوا في شأنها ساعةً، ثم قال أبو علي: ليت شعري! لو كان معَهم رابعٌ ماذا كان يقول؟ وهل تمُكنُ الزيادةُ على هذه الأبيات؟ فقال الجميع: إنّ المعنى قد كمُل ومَنَعَ الزيادةَ! فقال: من المحال عادةً أن يكونَ معَهم رابعٌ ولا يجري مجراهم في الإتيان بمثل ما آلوْا به، فخُذوا في الزّيادة عليها، وأشار بذلك إلى ابن المُعزِّ وأبي محمد المَرّاكُشيّ وأبي إبراهيمَ القَزُوليّ، وأضاف إليهم ابنَ الجَنّان مُوردَ الحكاية وقال له: هَبْك لستَ أحدَ الناظمينَ المذكورين". ثم يتحدّث ابن عبد الملك عن نفسِه فيقول: "ثم عَطَف (أي: الوالي) عليّ، وطالبني بالموافقة لهم في ذلك، ولم يكنْ رأى لي
قبلُ بيتًا واحدًا ولا أشعرتُه بأني خُضت في نَظْم قطّ، فاستعفيتُه من ذلك فلم يُعفني، وقال: وما الذي يمنَعُك وموادُّ النظم كلُّها عندك عتيدة؟ فلا وجهَ لاستعفائك ولا بدّ لك من مشاركة الأصحاب فيما خاضوا فيه".
ونُحسُّ من هذه الفقرة المكانةَ المتميّزة التي كانت لابن عبد الملك على الأصحاب المذكورينَ لدى الوالي، ونكاد نُحسّ من تحرُّجه من قول الشّعر أن وراءه صفةً دينيّةً تجعلُه يَستعفي من المشاركة في مثل هذه المطارحات الإخوانيّة، وما نحسَبُ هذه الصّفة إلا أنها خُطةُ القضاء التي تليقُ بابن عبد الملك أكثرَ من صفة الكتابة الدّيوانية ونحوها، ولهذا نظُنّ أنه كان يومئذ قاضيًا في أغمات، وهذا ما لم يذكره مترجِموه فيما لم يذكروه، وذلك قبلَ أن تُسند إليه خُطة قضاء الجماعة بحضرة مَرّاكُش كما سنَذكرُه فيما بعد، وقد يُقوّي هذا الظنَّ أنّ ابنَ عبد الملك كان يُجالسُ الواليَ المذكور وحدَه دون غيره أحيانًا، قال في خلال استطراده المشار إليه:"فلما كان قُرَيْب المغرب خرَج أبو عليّ (الوالي) إلى مجلسه المُطلّ على الساقية العظمى السّلطانية المشرِف على الممرِّ الأعظم شرقيَّ الجامع، فجالسته هنالك منفردَيْن وكنت مقابلَ الممرّ وأبو عليّ (الوالي) مُقبِل علَيّ وقد استدبره بعضَ الاستدبار". فهذه الحالُ الموصوفة ليست حالَ كاتب لدى الوالي المذكور أو نديم له، وإنّما هي حالُ قاضٍ مثلًا يتمتّع باحترام الوالي، ولا سيّما إذا كانا معًا مشتركَيْنِ في عراقة الأصل والنَّسب، وزَمالة العلم والأدب، ومن يدري؟ فقد تكون بين الرجلين أواصرُ أخرى كالمُصاهرة مثلًا، ثم لا ننسى أنّ ابن عبد الملك يمتُّ من جهة أُمِّه -كما سبَق- بسببٍ إلى المغرب الأوسط بلدِ الوالي المذكور.
ومهما يكن الأمرُ فقد شارك ابنُ عبد الملك في الأخير في هذه المطارحة الأدبيّة وصَنَع قصيدةً عصماءَ نظمها في ليلة واحدة، قال:"ولقيتُه بها بعدَ العصر من الغدِ لمّا لم يتأتَّ لقاؤه بها صَدْرَ النهار لخروجه إلى بعض المواضع"، ثم قال: "وتربَّصت بأبي علي خَلْوته بدخوله إلى مجلسه الخاصّ من مجلسِه العامّ، ودفعتُ إليه القصيدة، فلمّا رآها قال لي: لمن هذه؟ فقلت: قفْ عليها، فقال لي: هذا خَطُّك،
فمن ناظمها؟ قلت: كاتبها، فاشتد تعجُّبه من فعلي أولًا وإتياني بها ثانيًا، حتى كان من كلامه: إنّ هذه البلادَ وَلّادة مُنجبة" ثم أورد القصيدة، وهي تقعُ في أكثر من 70 بيتًا مدح فيها الواليَ وأطنب في مدحه وذكر والدَه الفقيهَ المعروف الذي وَصَفَه بأنه "بحرُ العلوم درايةً وروايةً" كما نعَتَه بالدِّين المتين والوَرَع والتّقوى، ثم عطف على غَرَض "التذييل" الذي أشار به الوالي على جماعةِ الشّعراء من حاشيتِه وسَرَدَ قصّته.
ويُفهَمُ من الكلام السابق أنّ الواليَ المذكور كان له مجلسان: مجلسٌ عامّ يحضُره عامة حَفَظة الأدب والعلم وحَمَلة السّيف والقلم، ومجلسٌ خاصّ مقصورٌ على الخواصِّ منهم، وكان على رأس هؤلاء ابنُ عبد الملك حسبما يدُلّ عليه كلامُه، فهو يحضُر مجلسَيْه، وينفردُ بمجالستِه أحيانًا، والوالي يعرف خَطَّه، وهذا قد يؤيِّد ما ذهبنا إليه من أنه ربّما كان يتولّى خُطّة القضاء في أغمات يومئذ.
وقد أُعجِب الوالي بقصيدة ابن عبد الملك إعجابًا كبيرًا وأمَرَ كاتبَه بمعارضتها، فعارضَها بقصيدة لم تقَعْ منه موقعَ الاستحسان، قال:"فلم يرفَعْ أبو عليّ بها رأسًا، واتّخذ قصيدتي سميرًا ونجِيًّا وأُنسًا، يُوالي مطالعتَها، ولا يسأمُ مراجعتَها، وكلّما رجَعَ بها بصَرَه، وأعاد فيها نظرَه، زاد بها شغَفا، وشاء لها شرَفًا، فنَفِقَ سُوقُها، وشُهر سموُّها على أترابها وبُسوقُها". وفي هذا الكلام ما يزيدُ دلالة على الحُظوة التي كانت لابن عبد الملك عند هذا الوالي، وفيه أَيضًا دلالة على طبيعة ابن عبد الملك المعجَب بآثارِه، المفتون بكلامه، وذلك ما سوف نتحدّث عنه في موضعه.
والحقُ أنّ القصيدةَ في جُملتها لاحقة بشعر الفقهاء، وفيها تكلُّفٌ ظاهر، وإشاراتٌ علميّة تُعرب عن ثقافة ناظمها وغلَبة معارفِه على لسانه وعدم قُدرته على التخلُّص منها عند النظم، ولعلّ ذلك كان أَيضًا مجاراة لروح العصر وطبيعة البيئة الأدبيّة السائدة يومئذ.
ويُفهم من كلام ابن عبد الملك أنّ له قصائدَ ومدائحَ في الوالي المِلْيانيِّ، وأنّ القصيدةَ المشار إليها هي أولى قصائده فيه؛ فقد أورد في السِّفر الأول قطعة لابن عَمِيرة المخزوميِّ آخرها:
أولئك جادوا والزّمانُ مساعدٌ
…
وجُدتَ لَعَمْري وهو غيرُ مُساعدِ
وعقَّب على ذلك بقوله: "وقد ألمَمْتُ بمعنى البيت الأخير من هذه الأبيات فقلت من قصيدة طويلة أمدَحُ بها الفقيهَ الرئيس الأطول أَبا عليّ عُمر ابنَ الفقيه الأجلّ العَلَم الشهير أبي العبّاس المِلْيانيَّ وَصَلَ اللهُ أسباب سعادته، وهي أول ما رفعت إليه:
يا مَن يقيسُ به سواه في النَّدى
…
ألغَيْتَ في النظر اعتبارَ الجامعِ
هذا يجودُ وفي الموانع كثرةٌ
…
وسواه ضَنّ معَ ارتفاع المانعِ"
وهذان البيتان يمثِّلانِ لِما ذكرتُه من استخدام ابن عبد الملك لمصطلحات العلوم في نظمه، وهذا زيادة على استمداده من محفوظه الشعري.
ولم نقفْ، فيما بين أيدينا، على غير هذه القصيدة في مدح الرئيس المذكور، ولقد أشار ابنُ الزُّبير في ترجمة ابن عبد الملك إلى أنه كان "شاعرًا مجيدًا امتدح بعضَ كُبراء وقتِه". ولا نعرف الآنَ من هؤلاءِ الكُبراء إلا الرئيسَ المِلْيانيَّ، كما أننا لا ندري أمَدَحَ بعضَ ملوك بني مَرِين الذين عاصرهم أم لا.
ومهما يكن الأمرُ فإنّ ابن عبد الملك -على ما يبدو- ظَلَّ على صلة بالوالي المِلْيانيّ إلى حين نكبتِه التي تحدّثَتْ عنها المصادرُ التاريخية (1)، وخلاصتُها ما ذكره الناصِريُّ في "الاستقصا"، قال: "ولمّا هلَكَ السلطان يعقوبُ ووَلِيَ بعدَه ابنُه يوسُف استَعمل أَبا عليّ المِلْيانيَّ على جباية المصامدة، فباشَرَها مدة، ثم سعى به شيوخُ المصامدة عند السلطان بأنه احتَجن المالَ لنفسه، فأمَرَ السلطان بمحاسبته
(1) العبر 6/ 656 - 657 و 7/ 401، 479، والاستقصا 3/ 42، 77.
فحوسب، وظهرت مخايلُ صِدقهم عليه فنَكَبَه السلطانُ يوسُفُ أولًا ثم قتَلَه ثانيًا" (1). وقد كان لنكبة هذا الوالي المِلْيانيِّ ذيولٌ تمثّلت في حادثَيْن بارزَيْن يُعَدّان من أغرب حوادث العصر المَرِينيِّ الأول، أوّلُهما: افتئاتُ أحمدَ المِلْيانيِّ -ابن أخي المِلْيانيِّ المنكوب- على السلطان مخدومه بتزويرِه كتابًا على لسانه يأمُر فيه ولدَه أميرَ مَرّاكُش بقتل شيوخ المصامدة المعتقَلين، وقد فعَلَ هذا انتقامًا لعمِّه وأخذًا بثأره.
والحادثةُ الثَّانية هي: فتكُ الخَصِيِّ سعادةَ بالسلطان يوسُف بن يعقوبَ سنة 756 هـ، وهذا الخصيُّ كان مملوكًا لأبي عليّ المِلْيانيِّ الذي أهداه إلى السلطان المذكور.
ولسنا نعرفُ مدى انعكاسات الأحداث المذكورة والآثار التي يمكنُ أن تكونَ لها على ابن عبد الملك نظرًا لصِلته بالمِلْيانيّ، ولكن تجدُرُ الإشارة إلى أنّ هذه الصّلةَ كما تحدَّث عنها كانت في عهد السلطان يعقوبَ بن عبد الحق.
أمّا في عهد ولده السلطان يوسُف (685 - 706 هـ) فقد شَغَل ابن عبد الملك خُطةَ قضاءِ الجماعة بمَرّاكُش، ولم يحدّد ابن أبي زَرْع تاريخَ ولايته هذه الخُطة، وإنّما عَدّه في جُملة من تولَّوا هذه الخُطةَ على عهد السلطان المذكور، فقال:"وقُضاته بحضرة مَرّاكش: الفقيه أبو فارس العمْرانيّ، والفقيهُ أبو عبد الله السَّقَطي، ثم الفقيهُ أبو عبد الله ابن عبد الملك"(2). ويستفاد من هذا الترتيب أنّ ولايةَ ابن عبد الملك كانت في العشر الأواخِر من القرن السابع الهجريّ، أى: قبل وفاته بسنوات معدودات، ولا نستطيعُ تحديدَ مدّة قضائه التي أشار إليها ابنُ الزُّبير بقوله:"وَلي أبو عبد الله قضاءَ مَرّاكُش مدّة ثم أُخِّر عنها لعارض سببُه ما كان في خُلُقه من حدّة أثمرت مناقشةَ موتورٍ وَجَدَ سبيلًا فنال منه".
(1) الاستقصا 3/ 77.
(2)
الأنيس المطرب: 375.
وهذا كلامٌ مجمَل وحديثٌ مبهَم، فمَن هو الموتورُ المشارُ إليه؟ وما هو نوع التِّرة المومَإ إليها؟ وما طبيعة المناقشة المذكورة؟ ليس ثمة من سبيل الآنَ إلى الإجابة عن هذه الأسئلة، فقد طُويت أخبارُ هذا الحادث، وغُيِّبت عنا أسرارُه.
وكلُّ ما لدينا الآنَ أنّ ابن عبد الملك قفَى السنواتِ الأخيرةَ من حياته متنقلًا من أغمات إلى تِلِمسانَ وما بينَهما، أمّا أغمات فقد عرَفْنا ممّا سبَق اجتماع ابن عبد الملك وابن رُشيد فيها خلالَ هذه الفترة على ما يبدو، وعرَفْنا ممّا ذكَرَه أحدُ تلاميذه أنه كان موجودًا بها سنة 702 هـ.
ويبدو أنه كانت له بها دارٌ وما يتّصل بها من فِلاحة أو نحوها، ولعلّه اكتسب ذلك، إذا كان، في المدة التي قضاها بها على عهد المِلْياني.
وأمّا تِلِمْسانُ فقد كان يتردَّد عليها مَدْعوًّا إليها -على ما يظهر- وذلك للالتحاق بمحَلة السلطان يوسُف بن يعقوبَ بن عبد الحقّ خلال ذلك الحصار الطّويل الشهير الذي دام مئة شهر (1)، وإنّما قلنا: إنه كان يتردَّد على تِلِمْسان؛ لأننا وجدناه يذكر سَفْرتَه إلى تِلِمْسان ومرورَه بفاسَ وهو في طريقه إليها "في جمادى الأخرى تسع وتسعين وست مئة"، ثم نجدُه في أغمات سنة 702 هـ، وعاد بعد ذلك إلى تِلِمسان حيث "توفِّي رحمه الله بتِلِمسانَ الجديدة في أواخِر محرَّم سنة ثلاث وسبع مئة" كما يقول ابنُ الزُّبير شيخُ ابن عبد الملك، وقال تلميذه أبو الحسن المطماطيّ:"وتوفِّي رحمه الله سنة ثلاث بعد سبع مئة بظاهر تِلِمسان حين توجَّه إلى المَحلّة الكائنة بها"(2). ولا خلافَ بين القولَيْن؛ فإنّ تِلِمْسان الجديدةَ تقعُ بظاهر تِلِمسانَ القديمة، ويلِمسان الجديدةُ أو المنصُورة هي المدينة التي أسَّسها في سنة 700 هـ السلطان يوسُفُ بن يعقوب بن عبد الحقّ بإزاء تِلِمسان وهو محاصِرٌ لها ذلك الحصارَ الطَّويل المشروحَ في كُتُب التاريخ.
(1) العبر والاستقصا وغيرهما.
(2)
صلة الصلة 3/الترجمة 36، ومذكرات ابن الحاج النميري: 118 أ.
وتاريخُ الوفاة المذكور ورَدَ أَيضًا في "دُرّة الحِجال"(1) و"الدِّيباج المذهب"(2)، وقيَّدَ هذا التاريخَ بحساب الجُمّل أبو عبد الله محمد بن عليّ الفشتاليُّ في منظومتِه التاريخية فقال:
* وقُلْ في ابن عبدِ مالكٍ: "ذابَ" خَشْيةً *
ولقد حصل اضطرابٌ لدى بعض المتأخِّرين في تاريخ وفاة ابن عبد الملك وكيفيّتها، فقد جاء في وَفَيات أحمدَ الوَنْشَريسيِّ:"وفي سنة أربع وسبع مئة توفِّي قتيلًا الشّيخُ الشهير أبو عبد الله محمد بن عبد الملك الأنصاريُّ مؤلّف "الذّيل والتكملة" "(3). والاضطراب في هذا الكلام واضحٌ من جهة التاريخ "أمّا الاضطرابُ من جهة الكيفيّة فلعلّ سببَه الخَلْطُ بين ابن عبد الملك الوالد وابن عبد الملك الولد، فهذا الأخير هو الذي مات قتيلًا أو شهيدًا كما سَلَف، وأمّا ابنُ عبد الملك الأبُ فيبدو أنه مات موتًا عاديًّا بعدَ أن بلَغَ سبعينَ سنةً تقريبًا، ويبدو أن سببَ وجوده في محَلة السلطان يوسُف المَرِينيّ هو ما جَرَت به عادة ملوكنا من استصحابهم كبارَ العلماء في حركاتهم، واستدعائهم إلى محلاتهم لمُذاكرتهم وشهود مجالسِهم، ونظرًا لأنّ محلّةَ السلطان يوسُف بقِيت مضروبة على تِلِمسان مئةَ شهر كما ذكرنا، فقد كان ابنُ عبد الملك -على ما يبدو- يستأذنُ من حين لآخر في مغادرتها، بقَصد زيارة أهله، ومباشرة أشغاله، وهذا ما يفسِّر تردُّده بين تِلِمسانَ وداره في أغمات، وثمةَ عبارةٌ في "المرقبة العليا" تشير إلى أنه توفِّي عند قفوله -أى: رجوعه- إلى تِلِمسان، ولهذا فلسنا نذهبُ معَ من ذهب إلى أنه ربما كان منفيًّا في أغمات أو مات مغرَّبًا في تِلِمسان (4)، وما سُقناه من نصوص وذكرناه من تأويل هو الذي يتلاءم مع طبيعة الأحداث وسياق التاريخ.
(1) درة الحجال 2/ 24.
(2)
الديباج 2/ 325.
(3)
أَلْف سنة من الوفيات: 98.
(4)
المرحوم العابد الفاسي في بحثه عن ابن عبد الملك المنشور في مجلة دعوة الحق.