الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السَّابعُ، أكْلُ لَحمِ الْجَزُورِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الإبِلِ، وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ» .
ــ
صحيحٌ، ولا هو في مَعنَى المَنْصُوص عليه، ولأنَّه غُسْلُ آدَمِي، أشْبَه غُسْلَ الحَيِّ (1). وكلامُ أحمدَ يَدُلّ على أنه مُسْتَحَبٌّ غيرُ واجِب؛ فإنَّه قال: أحَبُّ إليَّ أن يَتَوَضَّأ. وعَلَّلَ نَفْيَ وُجُوبِ الغُسْلِ مِن غُسْلِ المَيِّتِ، بكَوْنِ الخَبَرِ الوارِدِ فيه مَوْقُوفًا على أبي هُرَيرَةَ، فإذا لم يُوجِبِ الغُسْلَ بقَوْلِ أبي هُرَيرَةَ، مع احتِمالِ أن يكُونَ مَرفُوعًا، فلَأنْ لا يُوجِبَ الوُضُوءَ بقَوْلِه، مع عَدَمِ هذا الاحتِمالِ أوْلَى، ولأنَّ الأصلَ عَدَمُ وُجُوبِه، فيَبْقَى على الأصلِ.
145 - مسألة: (السّابع، أكْلُ لَحمِ الجَزُورِ)
وجُملَةُ ذلك أنَّ أكْلَ لَحْمِ الإِبِلِ يَنْقُضُ الوُضُوءَ، سَواءٌ أنْ لَه عالِمًا أو جاهِلًا، نَيِّئًا أو
(1) انظر: المغني 1/ 256.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مَطْبُوخًا، في ظاهِرِ المَذْهبِ. وهو قولُ جابِرِ بنِ سَمُرَةَ (1)، ومحمدِ بنِ إسحاقَ (2)، وأبي خَيثَمَةَ (3)، ويَحيَى بن يَحيَى (4)، وابنِ المُنْذِرِ، وأحدُ قَوْلَي الشافعيِّ. قال الخَطّابِيُّ: ذَهب إلى هذا عامَّةُ أصحابِ الحديثِ. ورُوِيَ عن أبي عبدِ اللهِ أنَّه قال: إن كان لا يَعلَمُ، فليس عليه وُضُوءٌ، وإن كان قد عَلِمَ وسَمِعَ؛ عليه الوُضوءُ واجِبٌ، ليس هو كمَنْ لا يَعلَمُ. قال الخَلّالُ: وعلى هذا اسْتَقَرَّ قَوْلُ أبي عبدِ اللهِ. وقال الثَّوْرِيُّ، ومالكٌ، والشافعيُّ، وأصحابُ الرَّأيِ: لا وُضُوءَ عليه بحالٍ. وحَكاه ابنُ عَقِيلٍ روايةً عن أحمدَ؛ لما روَى ابنُ عباس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: «الْوُضُوءُ
(1) أبو خالد جابر بن عشرة بن جنادة السوائي، له صحبة مشهورة، ورواية أحاديث، توفي سنة ست وسبعين. سير أعلام النبلاء 3/ 186 - 188.
(2)
أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي مولاهم المدني، صاحب السيرة النبوية، توفي سنة خمسين ومائة. سير أعلام النبلاء 7/ 33 - 55.
(3)
أبو خيثمة زهير بن معاوية بن حُدَيج الجعفي الكوفي، كان حافظا متقنا، توفي سنة اثنتين وقيل ثلاث وسبعين ومائة. تهذيب التهذيب 3/ 351 - 353.
(4)
أبو زكريا يحيى بن يحيى بن بكر التميمي النيسابوري الحافظ، شيخ الاسلام، توفي سنة ست وعشرين ومائتين. سير أعلام النبلاء 10/ 512 - 519.
وهو غير أبي محمد يحيى بن يحيى بن كثير البربري الأندلسي، صاحب الإمام مالك، كان كبير الشأن، وافر الجلالة، توفي سنة أربع وثلاثين ومائتين. انظر: سير أعلام النبلاء 10/ 519 - 525.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
مِمَّا يَخْرُجُ لَا مِمَّا يَدخُلُ» (1). وقال جابِرٌ: كان آخِرَ الأمرَين مِن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تَركُ الوُضُوءِ مِمّا مسَّتِ النّارُ. رَواه أبو داودَ (2). ولأنَّه مَأكُولٌ فلم يَنْقضْ، كسائِرِ المَأكُولاتِ. ولنَا، ما روَى البَراءُ بنُ عازِبٍ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئِل: أنَتَؤَضَّأ مِن لُحُوم الإِبِلِ؟ قال: «نَعم» . قال: أفنَتَوَضّأ مِن لُحُوم الغَنَمِ؟ قال: «لَا» . رَواه الإِمامُ أحمدُ، وأبو داودَ، وابنُ ماجَه، والترمِذِيُّ (3). ورَوى جابِرُ بنُ سَمُرَةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَه. أخْرَجَه مسلمٌ (4). قال أحمدُ: فيه حَدِيثان صَحِيحان؛
(1) أخرجه الدارقطني، في: باب الوضوء من الخارج من البدن، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 151. والبيهقي، في: باب التوضيء من لحوم الإبل، من كتاب الطهارة. السنن الكبرى 9/ 159. والهيثمي، في: باب ترك الوضوء مما مست النار، من كتاب الطهارة. مجمع الزوائد 1/ 252. وذكر أن الطبراني أخرجه في الكبير.
(2)
في: باب ترك الوضوء مما مست النار، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 43.كما أخرجه الترمذي، في: باب في ترك الوضوء مما غيرت النار، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 112. والنسائي، في: باب ترك الوضوء مما غيرت النار، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 90.
(3)
أخرجه أبو داود، في: باب الوضوء من لحوم الإبل، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 41. والترمذي، في: باب الوضوء من لحوم الابل، في أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 112. وابن ماجه، في: باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 166. والإِمام أحمد، في: المسند 4/ 288، 303.
(4)
في: باب الوضوء من لحوم الإبل، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 275.كما أخرجه ابن ماجه، في: باب ما جاء في الوضوء من من لحوم الإبل، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجه 1/ 166. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 86، 88، 92، 93، 97، 98، 100 - 102، 105، 106، 108، أخرجه عن ذي الغرة، في: المسند 4/ 67، 5/ 112.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
حديثُ البَراءِ، وجابِرِ بنِ سَمُرَةَ. فأمّا حديثُ ابنِ عباسٍ، فإنَّما هو مِن قَوْلِه، مَوْقُوفٌ عليه، ولو صَحَّ لوَجَبَ تَقْدِيمُ حَدِيثِنا عليه، لكَوْنِه أصَحَّ وأخَص، والخاصُّ يُقَدَّمُ على العامِّ. وحديثُ جابِرٍ لا يُعارِضُ حَدِيثَنا أيضًا، لصِحَّتِه وخُصُوصِه. فإن قِيلَ: فحَدِيثُ جابِرٍ مُتأخِّرٌ، فيَكُونُ ناسِخًا. قُلْنا: لا يَصِحُّ أن يكُونَ ناسِخًا، لوُجُوهٍ أربعةٍ؛ أحَدُها، أنَّ الأمرَ بالوُضُوءِ مِن لُحُومِ الإِبِلِ مُتأخِّرٌ عن نَسْخِ الوُضوءِ مِمّا مَسَّتِ النّارُ، أو مُقارِن له، بدَلِيلِ أنه قَرَن الأمرَ بالوُضُوءِ مِن لُحُوم الإِبِلِ بالنَّهْي عن الوُضُوء مِن لُحُومِ الغَنَمِ، وهي مِمّا مَسَّتِ النَّارُ، فإمّا أن يَكُونَ النَّسْخُ حَصَل بهذا النَّهْي، أو بشيءٍ قبلَه، [فإن كان حَصَل به، كان الأمرُ بالوُضُوءِ مِن لحومِ الإِبِلِ مُقارِنًا لنَسْخِ الوُضوءِ مِمّا مَسَّتِ النّارُ، فلا](1) يَكُونُ ناسِخًا له، إذ مِن شُرُوطِ النَّسْخِ تأخُّرُ النّاسِخِ، وكذلك إن كان بما قبلَه؛ لأنَّ الشيءَ لا يُنْسَخُ بما قبلَه. الثاني، أنَّ النَّقْضَ بلُحُومِ الإِبِلِ يَتَناوَلُ ما مَسَّتِ النّارُ وغيرَه، ونَسخُ إحدَى الجِهاتِ لا يَثْبُتُ به نَسْخُ الأخْرَى، كما لو حُرِّمتِ المرأة بالرَّضاعِ، وبكَوْنِها رَبِيبَةً، فنَسْخُ تَحرِيمِ الرَّضاعِ لم يَكُنْ نَسْخا لتَحرِيمِ الرَّبِيبَةِ. الثالثُ، أنَّ خَبرهم عامٌّ، وخَبَرُنا خاصٌّ، فالجَمعُ بَينَهما مُمكِنٌ بحَملِ خَبَرِهِم على ما سِوَى صُورَةِ التَّخْصِيصِ، ومِن شُرُوطِ النَّسْخِ تَعَذُّرُ الجَمع بينَ النَّصينِ. الرابعُ، أنَّ خَبَرَنا أصَحُّ مِن خَبَرِهِم وأخصُ، والنّاسِخُ لا بدَّ أن يَكُونَ مُساويًا للمَنْسُوخِ، أو راجِحًا عليه. فإن قِيلَ: الأمرُ بالوُضُوءِ في خَبَرِكُم يَحتَمِلُ الاسْتِحبابَ، ويَحتَمِل
(1) سقط من: «الأصل» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أنَّه أرادَ بالوُضُوءِ غَسْلَ اليَدِ، لأنَّ إضافَتَه إلى الطَّعامِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ على ذلك،
كما كان صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بالوُضُوءِ قبلَ الطَّعام وبعدَه، وخُصَّ ذلك بلَحمَ الإِبِلِ؛
لأنَّ فيه مِن الحَرارَةِ والزُّهُومَةِ (1) مَا ليس في غيرِه. قُلْنا: أمّا الأوَّل
فمُخالِفٌ للظّاهِرِ، مِن وجُوهٍ، أحَدُها، أنَّ مُقْتَضَى الأمرِ الوُجُوبُ.
الثاني، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِل عن حُكْمَ هذا اللّحمَ، فأجابَ بالأمرِ بالوُضُوء منه، فلو حُمِل على غيرِ الوُجُوبِ كان تَلْبِيسًا لا جَوابًا. الثالثُ، أنَّه صلى الله عليه وسلم قَرَنَه بالنَّهْي عن الوُضُوءِ مِن لُحُومِ الغَنَمِ، والمُرَادُ بالنَّهْي ههُنا نَفْيُ الإِيجابِ لا التَّحريمُ، فتَعَيَّنَ حَملُ الأمرِ على الإِيجابِ؛ ليَحصُلَ الفَرقُ. وأمّا الثاني، فلا يَصِحُّ؛ لوُجُوهٍ أربعةٍ؛ أحَدُها، أنَّه يَلْزَمُ منه حَملُ الأمرِ على الاسْتِحباب؛ لكَوْنِ غَسْلِ اليَدِ بمُفْرَدِها غيرَ واجِبٍ، وقد بَيَّنّا فَسادَه. الثاني، أنَّ الوُضُوءَ في لِسانِ الشّارِعِ إنَّما يَنْصَرِفُ إلى المَوْضُوعِ الشَّرعِيِّ، إذ الظّاهِرُ منه التَّكَلُّمُ بمَوْضُوعاتِه. الثالثُ، أنَّه خَرَج جَوابًا للسُّؤالِ عن حُكْمِ الوُضُوءِ مِن لُحُومِها، والصلاةِ في مَبارِكِها، فلا يُفهمُ مِن ذلك سِوَى الوُضُوءِ المُراد للصلاةِ ظاهِرًا. الرابعُ، أنَّه لو أراد غَسْلَ اليَدِ لَما فَرَّقَ بينَه وبينَ لَحمِ الغَنَمِ؛ فإنَّ غَسْلَ اليَدِ منهما مُسْتَحَبٌّ، وما ذَكَرُوه مِن زِيادَةِ الزُّهُومَةِ مَمنُوعٌ، كان ثَبَت فهو أمرٌ يَسيرٌ، لا يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ، وصَرفُ اللَّفْظِ عن ظاهِره إنَّما يكُونُ بدَلِيلٍ قَوي بقَدرِ قُوَّةِ الظَّواهِرِ المَتْرُوكَةِ، وأقْوَى منها، فأمّا قِياسُهم فهو طَردِيٌّ لا مَعْنَى فيه، وانْتِفاء الحُكْمِ في سائِرِ المَأْكُولاتِ؛ لانْتِفاءِ المُقْتَضِي، لا لكَوْنِه
(1) الزهومة: ريح لحم سمين منتن.