الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَإنْ كَانَتْ غَيرَهُمَا لَمْ يَنْقُضْ إلا كَثِيرُهَا، وَهُوَ مَا فَحُشَ في النَّفْسِ. وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّ قَلِيلَهَا يَنْقُضُ.
ــ
133 - مسألة؛ قال: (وإن كَانَتْ غيرَهما، لم يَنْقُض إلَّا كَثِيرُها، وهو ما فَحُش في النَّفْسِ، وحُكِيَ عنه أنَّ قَلِيلَها يَنْقُضُ)
وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الخارِجَ النَّجِسَ مِن غيرِ السَّبِيلَين، غيرَ البَوْلِ والغائِطِ، يَنْقُض كثيرُه بغيرِ خِلافٍ في المذهبِ. رُوِيَ ذلك عن ابنِ عباسٍ، وابنِ عُمَرَ، وسعيدِ بنِ المُسَيَّبِ، وعطاءٍ، وقَتادَةَ، والثَّوْرِيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. وقال مالكٌ، والشافعيّ، ويَحْيى الأنْصارِيُّ (1) وأبو ثَوْرٍ، وابنُ المُنْذِرِ: لا وُضُوءَ فيه، لأنَّه خارِجٌ مِن غيرِ المَخْرَجِ مع بقاءِ المَخْرَج، فلم يَنْقُضْ،
(1) أبو سعيد يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري الفقيه، روى عن أنس بن مالك وخلق، وولى قضاء المنصور، توفي سنة ثلاث وأربعين ومائة. طبقات الفقهاء للشيرازي 66. العبر 1/ 195، 196.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كالبُصاقِ. ولأنَّه لا نَصَّ فيه، ولا يَصِحُّ قِياسُه على الخارِجِ مِن السَّبِيلِ؛ لكَوْنِ الحُكْمِ فيه غيرَ مُعَلَّلٍ. ولأنَّ الخارِجَ مِن السَّبِيلِ لا فَرْقَ بينَ قَلِيلِه وكَثِيرِه، وطاهِرِه ونَجسِه، وههُنا بخِلافِه، فامْتَنَعَ القِياسُ. ولَنا، ما روَى أبو الدَّرْدَاءِ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قاءَ فتَوَضَّأْ. قال ثَوْبانُ: صَدَقَ، أنا سَكَبْتُ له وَضُوءَه. رَواه التِّرْمِذِيُّ (1)، وقال: هذا أصَحُّ شيءٍ في البابِ. قِيلَ لأحمدَ: حديثُ ثَوْبانَ ثَبَتَ عِنْدَك؟ قال: نعم. ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لفاطِمَةَ: «إنَّهُ دَمُ عِرْقٍ، فَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ» . رَواه التِّرْمِذِيُّ (2). عَلَّلَ بكَوْنِه دَمَ عِرْقٍ وهذا كذلك. ولأنَّه قولُ مَن سَمَّينا مِن الصَّحابَةِ، ولم نَعْرِفْ لهم مُخالِفًا في عَصْرِهم. ولأنَّه خارِجٌ نَجِسٌ، فنَقَضَ، كالخارِجِ مِن السَّبِيلَين. وقِياسُهُم مَنْقُوضٌ بِما إذا انْفَتَحَ مَخْرَجٌ دُونَ المَعِدَةِ، والبُصاق طاهِرٌ، بخِلافِ هذا.
(1) في: باب الوضوء من القيء والرعاف، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 126.
(2)
في: باب في المستحاضة، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 197 كما أخرجه البخاري، في: باب غسل الدم، من كتاب الوضوء، وفي: باب الاستحاضة، وباب إقبال المحيض وإدباره، وباب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض من كتاب الحيض. صحيح البخاري 1/ 66، 84، 87، 89، 90. ومسلم، في: باب المستحاضة وغسلها وصَلاتها، من كتاب الحيض. صحيح مسلم 1/ 262. وأبو داود، في: باب في المرأة تستحاض ومن قال لا تدع الصلاة. . . .، وباب من روى أن الحيضة إذا أدبرت لا تدع الصلاة، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 63 - 65. والنسائي، في: باب ذكر الاغتسال من الحيض، وباب ذكر الأقراء، وباب الفروق بين دم الحيض والاستحاضة، من كتاب الطهارة، وفي: باب ذكر الاستحاضة وإقبال الدم وإدباره، وباب ذكر الأقراء، وباب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة، من كتاب الحيض. المجتبى 1/ 96، 97، 101 - 103، 148، 150، 152. وابن ماجة، في: باب ما جاء في المستحاضة التي قد عدت أيام أقرائها قبل أن يستمر بها الدم، من كتاب الطهارة. سنن ابن ماجة 1/ 203، 204. والإمام مالك، في: باب المستحاضة، من كتاب الطهارة. الموطأ 1/ 61. والإمام أحمد، في: المسند 6/ 464. والدارمي، في: باب في غسل المستحاضة من كتاب الطهارة. سنن الدارمي 1/ 198.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: فأمّا القَلِيلُ، فظاهِرُ المَذْهَبِ أنَّه لا يَنْقُضُ الوُضُوءَ. حَكاه القاضي رِوايَةً واحِدَةً. وقال بَعْضُ أصْحابِنا: فيه رِوايَةٌ أُخْرَى، أنَّ القَلِيلَ يَنْقُضُ، قِياسًا على الخارِجِ المُعْتادِ. رُوِيَ ذلك عن مُجاهِدٍ. وهذا قولُ أبي حَنِيفَةَ، وسعيدِ بن جُبَيرٍ، فيما إذا سالَ الدَّمُ. قال: وإن وَقَف على رَأْسِ الجُرْحِ، لم يَجِبْ؛ لقَوْلِه صلى الله عليه وسلم:«مَنْ قَاءَ أوْ رَعَفَ في صَلَاتِهِ، فَلْيَتَوَضَّأْ» (1). ووَجْهُ الرِّواية الأُولَى، أَنَّه قد رُوِيَ ذلك عن جَماعَةٍ مِن الصَّحابَةِ، قال أبو عبدِ اللهِ: عِدَّةٌ مِن الصَّحابَةِ تَكَلَّمُوا فيه، وأبو هُرَيرَةَ كان يُدْخِلُ أصابِعَه في أنْفِه، وابنُ عُمَرَ عَصَرَ بَثْرَةً، فخَرَجَ دَمٌ، فصَلَّى ولم يَتَوَضَّأَ، وابنُ أبي أوْفَى (2) عَصَرَ دُمَّلًا، وابنُ عباسٍ قال: إذا كان فاحِشًا فعليه الإِعادَةُ. وجابرٌ أدْخَلَ أصابِعَه في أنْفِه. ولم نَعْرِفْ لهم مُخالِفًا في عَصْرِهم فكانَ إجماعًا وحَدِيثُهم لا نَعْرِفُ صِحَّتَه، ولم يَذْكُرْه أصحابُ السُّنَّنَ، وقد تَرَكُوا العَمَلَ به، فقالوا: إذا كان دُونَ مِلْءِ الفَمِ، لم يَجِبْ منه الوُضُوءُ.
(1) أخرج نحوه ابن ماجة، في: باب ما جاء في البناء على الصلاة، من كتاب إقامة الصلاة وسننها 1/ 386. والدارقطني، في: باب الوضوء من الخارج من البدن، من كتاب الطهارة. سنن الدارقطني 1/ 153 - 156.
وانظر: نصب الراية 1/ 38.
(2)
أبو معاوية عبد الله بن أبي أوفى علقمة بن خالد الأسلمي الصحابي، شهد بيعة الرضوان، وهو آخر من بقي بالكوفة من الصحابة، توفي سنة ست وثمانين. أسد الغابة 3/ 183.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: وظاهِرُ المَذْهَبِ، أنَّ الكَثِيرَ الَّذي يَنْقُضُ الوُضوءَ، لا حَدَّ له إلَّا أنْ يَكُونَ فاحِشًا. قيلَ: يا أبا عبدِ اللهِ، ما قَدْرُ الفاحِشِ؟ قال: ما فَحُشَ في قَلْبِك. ورُوي نَحْوُ ذلك عن ابنِ عباسٍ. قال الخَلّالُ: الَّذي اسْتَقَرَّتْ عليه الرِّوايَةُ عن أبي عبدِ اللهِ، أنَّ الفاحِشَ ما يَسْتَفْحِشُه كلُّ إنْسانِ في نِفْسِه. لقَوْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لا يَرِيبُكَ» (1). وقال ابنُ عَقِيلٍ: إنَّما يُعْتَبَرُ ما يَفْحُشُ في نُفُوسِ أوْساطِ الناسِ، لا المُتَبَذِّلِينَ، ولا المُوَسْوسِينَ كما رَجَعْنا في يَسِيرِ اللُّقَطَةِ إلى ما لا تَتْبَعُه نُفُوسُ أوْساطِ الناسِ. وقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه سُئِل عن الكَثِيرِ، فقال: شِبْرٌ في شِبْرٍ. وفي مَوْضِعٍ قال: قَدْرُ الكَفِّ فاحِشٌ. وقال في موضعٍ: إذا كان مِقدارَ ما يَرْفَعُه الإِنْسانُ بأصابِعِه الخَمْسِ من القَيحِ، والصَّدِيدِ، وَالقَىْءِ، فلا بأْسَ به. قيلَ له: فعَشْرُ أصابِعَ. فرآه كَثِيرًا. وقال قَتادَةُ
(1) أخرجه الترمذي، في: باب حدثنا عمرو بن علي، من أبواب القيامة. عارضة الأحوذي 9/ 320، 321. والنسائي، في: باب الحث على ترك الشبهات، من كتاب الأشربة. المجتبى 8/ 294.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
في مَوْضِعٍ: الدِّرْهَمُ فاحِشٌ. وهو قَوْلُ الأوْزاعِيِّ، وأصحاب الرَّأي؛ لأنه رُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال:«تُعَادُ الصَّلَاةُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمَ مِنَ الدَّمِ» (1). والصَّحِيحُ أنَّ ذلك إنَّما يُرْجَعُ فيه إلى العُرْفِ، فإنَّه لا حَدَّ له في الشَّرْعِ، وما رَوَوْه فلا يَصِحُّ، قال الحافِظُ المَقْدِسِيُّ (2): هو مَوْضُوعٌ (3). وقال القاضي: إذا كان الدَّمُ قَطرةً أو قَطْرَتَين، لم يَنْقُضْ، وإن كان قَدْرُه إذا انْفَرَشَ شِبْرًا في شِبْرٍ، نَقَضَ، وما كان بَينَهما ففيه رِوايتان. وقال في القَىْءِ: إن كان مِلْءَ الفَمِ نَقَض، وإن كان مِثْلَ الحِمَّصَةِ والنَّواةِ، لم يَنْقضْ، رِوايةً واحدةً فيهما، وما بيَنْهَما على رِوايَتَين، وما نَقَلَه الخَلّالُ عنه أوْلَى، لما ذَكَرْنا، ولأنَّ اعْتِبارَ حالِ الإِنْسانِ بما يَسْتَفْحِشُه غيرُه حَرَجٌ، فيَكُونُ مَنْفِيًّا.
(1) أخرجه الدارقطني، في: باب قدر النجاسة التي تبطل الصلاة، من كتاب الصلاة. سنن الدارقطني 1/ 401.
(2)
أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي المقدسي، ابن القيسراني، الحافظ، له مصنفات ومجموعات تدل على غزارة علمه، وجودة معرفته، توفي سنة سبع وخمسمائة. وفيات الأعيان 4/ 287.
(3)
اللآلئ المصنوعة، للسيوطي 2/ 4، تذكرة الموضوعات 41.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: والقَيحُ والصَّدِيدُ كالدَّمِ فيما ذَكَرْنا. قال أحمدُ: هما أخَفُّ حُكْمًا مِن الدَّمِ. لوُقُوعِ الخِلافِ فيهما، فإنَّه رُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ والحَسَنِ [أنَّهم لم يَرَوا] (1) القَيحَ والصَّدِيدَ كالدَّمِ. وقال إسحاقُ: كلُّ ما سِوَى الدَّمِ لا يُوجِبُ وُضُوءًا. وقال مُجاهِدٌ، وعطاءٌ، وعُرْوَةُ، والشَّعْبِيُّ، وقَتادَةُ، والحَكَمُ: هو بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ. واخْتِيارُ أبي عبدِ اللهِ مع ذلك إلْحاقُه بالدَّمِ وإثْباتُ مِثْلِ حُكْمِه فيه، قِياسًا عليه، لأنَّه خارِجٌ نَجِسٌ، أشْبَهَ الدَّمَ، لكن الَّذي يَفْحُشُ منه يَكُونُ أكثَرَ مِن الَّذي يَفْحُشُ مِن الدَّمِ. والقَلْسُ كالدَّمِ، يَنْقُضُ الوُضُوءَ منه ما فَحُشَ. قال الخَلّالُ: الَّذي أجْمَعَ عليه أصحابُ أبي عبدِ اللهِ، أنَّه إذا كان فاحِشًا أعادَ الوُضُوءَ. وقد حُكِى عنه، إذا كان مِلْءَ الفَمِ نَقَض، وإن كان أقلَّ مِن نِصْفِ الفَمِ لا يَتَوَضَّأُ. ومِمَّن كان يَأْمُرُ بالوُضُوءِ مِن القَىْءِ؛ عليٌّ، وابنُ عُمَرَ، وأبو هُرَيرَةَ،
(1) في م: «أنهما لم يريا» .