الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ التَّيَمُّمِ
وَهُوَ بَدَلٌ لَا يَجُوزُ إلا بِشَرْطَينِ؛ أَحَدُهُمَا، دُخُولُ الْوَقْتِ.
ــ
بابُ التَّيَمُّمِ
التَّيَمُّمُ في اللُّغَةِ: القَصْدُ. قال اللهُ تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (1). وقال امْرُؤُ القَيسِ (2):
تَيَمَّمَتِ العَينَ التي عندَ ضارِجٍ
…
يَفِئُ عليها الظِّلُّ عَرْمَضُها طامِى (3)
وقولُ اللهِ تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (4). أي: اقْصِدُوه. ثم نُقِلَ في عُرْفِ الفُقَهاءِ إلى مَسْحِ الوَجْهِ واليَدَين بشيءٍ مِن الصَّعِيدِ، والأصْلُ فيه الكِتابُ والسُّنَّةُ والإِجْماعُ؛ أمّا الكِتابُ، فقوْلُه تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيدِيكُمْ مِنْهُ} . وأمّا السُّنَّةُ، فحَدِيثُ عَمّارٍ وغيرِه (5)، وأجْمَعَتِ الأُمَّةُ على جَواز التَّيمُّمِ في الجُمْلَةِ، وله شُرُوطٌ، وفَرائِضُ، وسُنَنٌ، ومُبْطِلاتٌ، تَأْتِي في أثْناءِ البابِ، إن شاء اللهُ تعالى.
165 - مسألة؛ قال: (وهو بَدَلٌ، لا يَجُوزُ إلا بشَرطَين
؛
(1) سورة البقرة 267.
(2)
ديوانه 476، في الشعر المنسوب إليه مما لم يرد في المخطوطات، وهو أيضًا في: اللسان (ض ر ج، ع ر م ض) 2/ 315، 7/ 187، ومعجم البلدان 3/ 460.
(3)
ضارج: مكان في الطريق من اليمن إلى المدينة. والعرمض: الطحلب الذي يعلو الماء. وطام: عال.
(4)
سورة المائدة 6.
(5)
تأتي هذه الأحاديث في المسألة 190، وانظر لها أيضًا: نصب الراية 1/ 148 وما بعدها.
فَلَا يَجُوزُ لِفَرْضٍ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَلَا لِنَفْلٍ فِي وَقْتِ النَّهْي عَنْهُ.
ــ
أحَدُهما، دُخُولُ الوَقْتِ، فلا يجوزُ لفَرْضٍ قبلَ وَقْتِه، ولا لنَفْلٍ في وَقْتِ النَّهْي عنه) وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ عن الماءِ، إنَّما يَجُوزُ عندَ تَعَذُّرِ الطهارةِ بالماءِ؛ لعَدَمِه، أو مَرَضٍ، أو خَوْفٍ، أو نَحْوه؛ لقَوْلِه تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} . ولقَوْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «التُّرَابُ كَافِيكَ ما لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ» (1). ولحَدِيثِ صاحِبِ الشَّجَّةِ (2)، وحديثِ عَمْرِو بنِ العاصِ (3)، وغيرِ ذلك. ويُشْتَرَطُ له ثلاثةُ شُرُوطٍ؛ أحَدُها، دُخُولُ الوَقْتِ، فلا يَجُوزُ لصلاةٍ مَفْرُوضَةٍ قبلَ دُخُولِ وَقْتِها، ولا لنافِلَةٍ في وَقتِ النَّهْي عنها؛ لأَنَّه ليس بوَقْتٍ لها، ولأَنَّه مُسْتَغْنٍ عن التَّيمُّمِ فيه، فأشْبَهَ ما لو تَيَمَّمَ عندَ وُجُودِ الماءِ، وإن كانت فائِتَةً، جازَ التَّيَمُّمُ لها في كلِّ وقتٍ؛ لجَوازِ فِعْلِها فيه. وهذا قَوْلُ مالكٍ والشافعيِّ. وقال أبو حَنِيفَةَ: يَصِحُّ التَّيَمُّم قبلَ وقتِ الصلاةِ؛ لأنَّها طهارةٌ مُشْتَرَطَةٌ للصلاةِ، فأُبِيحَ تَقْدِيمُها
(1) تقدم تخريجه في 1/ 57.
(2)
يأتي تخريجه في صفحة 187.
(3)
يأتي تخريجه في صفحة 173.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
على الوَقْتِ، كسائِرِ الطَّهاراتِ. ورُوي عن أحمدَ، أنَّه قال: القِياسُ أنَّ التَّيَمُّمَ بمَنْزِلَةِ الطهارةِ حتى يَجدَ الماءَ، أو يُحْدِثَ. فعلى هذا يَجُوزُ قبلَ دُخُولِ الوَقْتِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ؛ لأنَّها طهارةُ ضَرُورَةٍ، فلم تَجُزْ قبلَ الوَقتِ، كطهارةِ المُسْتَحاضَةِ. وقِياسُهم يَنْتَقِضُ بطهارةِ المُسْتَحاضَة، ويُفَارِقُ التَّيَمُّمُ سائِرَ الطَّهاراتِ؛ لكَوْنِها ليست لضَرُورَةٍ.
الثَّانِي، الْعَجْزُ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِعَدَمِهِ،
ــ
الشَّرْطُ (الثاني، العَجْزُ عن اسْتِعْمالِ الماءِ لعَدَمِه) لِما ذَكَرْنا. وعَدَمُ الماءِ إِنَّما يُشْتَرَطُ لمَن تَيَمَّمَ لعُذْرِ عَدَمِ الماءِ، دُونَ مَن تَيَمَّمَ لغيرِه مِن الأعْذارِ. الشَّرْطُ الثالثُ، طَلَبُ الماءِ، وفيه خِلافٌ نَذْكُرُه، إن شاء اللهُ.
فصل: وعَدَمُ الماءِ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ في السَّفَرِ الطَّويلِ والقَصِيرِ. والطَّويلُ ما يُبِيحُ القَصْرَ، والقَصِيرُ ما دُونَه، مِثْلَ أن يَكُونَ بينَ قَرْيَتَين مُتَباعِدَتَين أو مُتَقارِبَتَين. قال القاضي: لو خَرَج إلى ضَيعَةٍ له تُفارِقُ البُنْيانَ والمنازِلَ، ولو بخمْسِين خُطْوَةً، جاز له التَّيَمُّمُ، والصلاةُ على الرّاحِلَةِ، وأكْلُ المَيتَةِ للضَّرُورَةِ. وهذا قَوْلُ مالكٍ والشافعيِّ. وقال قَوْمٌ: لا يُباحُ إلَّا في الطَّويلِ، قِياسًا على سائِرِ رُخَصِ السَّفَرِ. ولَنا، قولُه تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} . إلى قَوْلِه: {فَتَيَمَّمُوا} (1). فإِنَّه يَدُلُّ بمُطْلَقِه على إباحَةِ التَّيَمُّمِ في كلِّ سَفَرٍ، ولأنَّ السفرَ القَصِيرَ يَكْثُرُ، فيكثُرُ عَدَمُ الماءِ
(1) سورة المائدة 6.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فيه، فيُحْتاجُ إِلى التَّيَمُّمِ فيه، فيَنْبَغِي أن يَسْقُطَ به الفَرْضُ، كالطَّويلِ. والقِياسُ على رُخَصِ السَّفَرِ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ التَّيَمُّمَ يُباحُ في الحَضَرِ، على ما يَأْتِي، ولأنَّ التَّيَمُّمَ عَزِيمَةٌ، لا يَجُوزُ تَرْكُه، بخِلافِ سائِرِ الرُّخَصِ، [ولا فرْقَ بينَ سَفَرِ الطّاعَةِ والمَعْصِيَةِ؛ لأنَّ التَّيَمُّمَ عَزِيمَةٌ، لا يَجُوزُ تَرْكُه، بخِلافِ بَقِيَّةِ الرُّخَصِ](1). فإن تَيَمَّمَ وصَلَّى، فهل يُعِيدُ؟ ذَكَر القاضي فيه احْتِمالين؛ أَوْلاهُما، لا يُعِيدُ؛ لأنَّه عَزِيمَةٌ.
فصل: فإن عَدِمَ الماءَ في الحَضَرِ، بأن انْقَطَع عنهم الماءُ، أو حُبِس وعَدِم الماءَ، تَيَمَّمَ وصَلَّى. وهذا قولُ مالكٍ، والثَّوْرِيِّ، والأوْزاعِيِّ، والشافعيِّ. وقال أبو حَنِيفةَ، في رِوايَةٍ عنه: لا يُصَلِّي؛ لأنَّ اللهَ تعالى شَرَطَ السَّفَرَ لجَوازِ التَّيَمُّمِ، فلا يَجُوزُ في غيرِه. وقد رُوِيَ عن أحمدَ، أنَّه سُئِل عن رجلٍ حُبِسَ في دارٍ، أو أُغْلِقَ (2) عليه البابُ [بمَنْزِلِ المُضِيفِ](3)،
(1) سقط من: «الأصل» .
(2)
في الأصل: «واغلق» .
(3)
في الأصل: «بمنزلة الضيف» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أيتَيَمَّمُ؟ قاك: لا. ولَنا، ما روَى أبو ذَرٍّ، أنّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ، وَإنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمسَّهُ بَشَرَتَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيرٌ» (1). قال التِّرْمِذِيُّ: حديثٌ حسنٌ صَحِيحٌ. وهذا عامٌّ في السَّفَرِ وغيرِه، ولأنَّه عادِمٌ للماءِ، أشْبَهَ المُسافِرَ. فأمَّا الآيَةُ، فلَعَلَّ ذِكْرَ السَّفَرِ فيها خَرَج مَخْرَجَ الغالِبِ؛ لكَوْنِ الغالِبِ أنَّ الماءَ إنَّما يُعْدَمُ فيه، كما ذُكِر السَّفَرُ، وعَدَمُ وُجُودِ الكاتِبِ في الرَّهْنِ، ولَيسا شَرْطَين فيه، ثم إنَّ الآيةَ إنَّما تَدُلُّ على ذلك بدَلِيلِ الخِطابِ، وأبو حَنِيفَةَ لا يَقُولُ به، ولو كان حُجَّةً فالمَنْطُوقُ راجِحٌ عليه. فعلى هذا إذا تَيَمَّمَ في الحَضَرِ لعَدَمِ الماءِ، وصَلَّى، فهل يُعِيدُ إذا قَدَر على الماءِ؟ على رِوايَتَين؛ إحْداهُما، يُعِيدُ. وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ، لأنَّه عُذْرٌ نادِرٌ، فلا يَسْقُطُ به القَضاءُ، كالحَيضِ في الصَّوْمِ. والثانيةُ، لا يُعيدُ. وهو مذهبُ مالكٍ، لأنَّه أَتَى بما أُمِرَ به، فخَرَجَ عن العُهْدَةِ، ولأنَّه صَلَّى بالتَّيَمُّمِ المَشْرُوعِ على الوَجْهِ المشروعِ، فأشْبَهَ المَرِيضَ والمُسافِرَ، مع أنَّ عُمُومَ الخَبَرِ يَدُلُّ عليه. وقال أبو الخَطّابِ: إِن حُبِسَ في المِصْرِ صَلَّى. ولم
(1) أخرجه أبو داود، في: باب الجنب يتيمم، من كتاب الطهارة. سنن أبي داود 1/ 80. والترمذي، في: باب التيمم للجنب إذا لم يجد ماء، من أبواب الطهارة. عارضة الأحوذي 1/ 192. والنسائي، في: باب الصلوات بتيمم واحد، من كتاب الطهارة. المجتبى 1/ 139. والإمام أحمد، في: المسند 5/ 146، 147، 155، 180.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يَذْكرْ إعادَةً. وذَكَر الرِّوايَتَين في غيرِه. قال شَيخُنا (1): ويَحْتَمِلُ أنَّه إن كان عَدِمَ الماءَ لعُذْرٍ نادِرٍ، أو يَزُولُ قَرِيبًا، كرجلٍ أُغْلِقَ عليه البابُ، مِثْلَ الضَّيفِ وما أشْبَهَ هذا، فعليه الإِعادَةُ؛ لأنَّ هذا بمَنْزِلَةِ المُتَشاغِلِ بطَلَبِ الماءِ وتَحْصِيلِه. وإن كان عُذْرًا مُمْتَدًّا ويُوجَدُ كَثِيرًا؛ كالمَحْبُوسِ، ومَن انْقَطَعَ الماءُ مِن قَرْيَتِه، واحْتاجَ إلى اسْتِقاءِ الماءِ مِن مَسافَةٍ بَعِيدَةٍ، فله التَّيَمُّمُ، ولا إعادَةَ عليه؛ لأنَّ هذا عادِمٌ للماءِ بِعُذْرٍ مُتَطاولٍ مُعْتادٍ، فهو كالمُسافِرِ، ولأنَّ عَدَمَ هذا للماءِ (2) أكْثَرُ مِن عَدَمِ المُسافِرِ له، فالنَّصُّ على التَّيَمُّمِ للمسافِرِ تَنْبِيهٌ على التَّيَمُّمِ ههُنا. وما قاله صحيحٌ. واللهُ تعالى أعلمُ.
فصل: ومَن خَرَج مِن المِصْرِ إلى أرْضٍ مِن أعْمالِه؛ كالحَرّاثِ، والحَصّادِ، والحَطّابِ، وأشْباهِهم مِمَّن لا يُمْكِنُه حَمْلُ الماءِ معه لوُضُوئِه، فحَضَرَتِ الصلاةُ ولا ماءَ معه، ولا يُمْكِنُه الرُّجُوعُ ليَتَوَضَّأَ إلَّا بتَفْويتِ حاجَتِه، فله أن يُصَلِّيَ بالتَّيَمُّمِ، ولا إعادَةَ عليه؛ لأنَّه مُسافِرٌ، أشْبَهَ الخارِجَ إلى قَرْيَةٍ أُخْرَى. ويَحْتَمِلُ أن تَلْزَمَه الإِعادَةُ؛ لكَوْنِه في أرْضٍ مِن عَمَلِ المِصْرِ، أشْبَهَ المُقِيمَ فيه. فإن كانتِ الأرضُ التي خَرَج إليها مِن غيرِ أرْضِ قَرْيَتِه (3)، فلا إعادةَ عليه، وَجْهًا واحِدًا؛ لأنَّه مُسافِرٌ.
(1) انظر: المغني 1/ 312.
(2)
في م: «الماء» .
(3)
في الأصل، م:«قريبة» .